Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 58-58)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ ، وشرحَ وعِيدَهُم ؛ عاد إلى التَّكْلِيف ، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتَابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ ، حيث قالُوا للذين كَفرُوا { هَؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور ، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ ، أو دُنْيَويَّة . قوله : { أَن تُؤدُّواْ } مَنْصُوبُ المحلّ ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع " أنْ " ، إذَا أمِنَ اللَّبْس ؛ لطولهما بالصِّلَةِ ، وإما لأنَّ " أمر " يتعدى إلى الثَّاني بنفسه ، نحو : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، فعلى الأوَّل يَجْري [ الخلاف في مَحَلِّها ، أهي في مَحَلّ نصب ، أم جر ، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط ، وقرئ " الأمانة " ] . فصل : فيمن نزلت الآية ؟ نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ ، فلمَّا دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ ، وصَعَدَ السَّطْحَ ، فطلبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيلَ : إنَّه مع عثمان ، فَطَلَبَهُ منه فأبى ، وقال : لو عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللَّهِ [ صلى الله عليه وسلم ] لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده ، وأخذ منه المفتاح ، وفَتَح البَابَ ، ودخل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البيت ، وصلّى فيه ركعتين ، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [ المفتاحَ ] أن يعطيه ، ويجمع له بين السِّقَايَةِ ، والسِّدَانة ، فأنزل اللَّهُ - تعالى - هذه الآية ، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ ، وَيَعْتَذِرَ إليه ، ففعل ذلك عليٌّ ، فقال عثمان : أكْرَهْتَ ، وآذَيْتَ ، ثم جئْتَ تَرْفُق ، فقال : لقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ في شأنِكَ ، وَقَرَأ عليه الآية ، فقال عُثْمَانُ : " أشْهَدُ [ ألا إله إلاّ اللَّه و ] أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللَّهِ ، وأسْلَمَ ، وكانَ المِفْتَاحُ معه ، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ . وقيل : المرادُ من الآية جميعُ الأمَانَاتِ . واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسَانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه ، أو مع العِبَادِ ، أوْ مع نفسه . فمعاملة الرَّبِّ فهو : فعل المأمُورَات ، وترك المَنْهيَّاتِ . قال ابْنُ مَسْعُودٍ : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ ؛ في الوُضُوءِ ، والجَنَابَةِ ، والصَّلاةِ ، والزَّكَاةِ ، والصَّوْم . [ قال أبُو نُعَيْم الحَافِظُ في " الحِلْيَةِ " : ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع : البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ ، وابْنُ مَسْعُودٍ ، وابْنُ عَبَّاسٍ ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ . قالوا : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ ، في الوضوء ، والجنابة ، والصّلاة ، والزكاةِ ، والصّوم ، والكيل ، والوزن ، والودائع . قال ابْنُ عبَّاسٍ : لم يرخص اللَّهُ لمُعْسِرِ ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة ] . وقال ابْنُ عُمَرَ : " إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان ، قال : " هذَا أمانةٌ [ خَبَّأتُهَا ] عِنْدَكَ ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا " . فأمانة اللِّسَانِ ألاّ يستعمله في الكذِبِ ، والغيبةِ ، والنَّميمَةِ ، والكُفْرِ ، والبدعةِ ، والفُحْشِ ، وغيرها . وأمانة العَيْنِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهَا في النَّظَرِ الحَرَامِ ، وأمَانَةَ السَّمْعِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهُ في سَمَاعِ المَلاَهِي ، والمَنَاهِي ، وسماع الفُحْشِ ، والأكاذيبِ ، وغيرها . وكذا جميع الأعْضَاءِ ، وأمَّا الأمَانَةُ مع سَائِرِ الخَلْقِ فلردِّ الوَدَائِعِ ، وتركِ التَّطفيفِ في الكَيْلِ ، والوزْنِ ، وعدْلِ الأمرَاءِ في الرَّعِيَّةِ ، وعدلِ العُلَمَاءِ في العَوَامِ : بأن يُرْشِدُوهم إلى الاعتِقَاداتِ ، والأعْمَالِ الَّتي تنفعهم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم ، ولا يحملوهم عَلَى التَّعصُّبَات البَاطِلَةِ ، وأمَانَةُ الزَّوْجَةِ للزَّوْجِ في حفظ فَرْجِهَا ، وألا تُلْحِقَ به وَلَداً من غَيْرِهِ ، وفي إخبارِها عن انْقِضَاءِ عدَّتها ، ونهي اليهود عن كِتْمَانِ أمر محمد - عليه الصَّلاة والسلام - وأما أمَانته مع نفسه ، فهو ألا يَخْتَارُ [ لِنَفْسِهِ ] إلاّ الأنْفَعَ ، والأصْلَحَ ، في الدِّين والدُّنْيَا ، وألا يقدم بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ ، والغَضَبِ على مَا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ قال أنَسٌ - رضي الله عنه - : قلَّ ما خَطَبَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال " لا إيْمَانَ لَمنْ لا أمَانَةَ لَهُ ، وَلاَ دِينَ لمَنْ لا عَهْدَ لَهُ " وقال تعالى { لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ } [ الأنفال : 27 ] ، وقد عظَّم الله أمْرَ الأمَانَةِ فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [ الأحزاب : 72 ] . [ ويروي أنَّ اللَّه - تعالى - خَلَقَ الدُّنْيَا كالبُسْتَانِ ، وزينها بخمسة أشْيَاء : عِلْمَ العُلمَاءِ ، وعَدْلِ الأمَرَاءِ ، وعِبَادَةِ العُلَمَاءِ ، ونَصِيحَةِ المُسْتَشَارِ ، ودفع الخيانة ] . فصل في الخلاف في ضمان الوديعة الأكْثَرُونَ على أنَّ الوديعةَ غير مضمونةٍ عند عَدَمِ التَّفْرِيطِ ، وعن بعض السَّلَفِ أنَّهَا مَضْمُونَةٌ . روى الشَّعْبِيُّ عن أنَسٍ قال : اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بضاعةً ، فضاعت من بين ثيابي . فضمنني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - . وعن أنسٍ قال : كان لإنسان عندي وديعَةٌ سِتَّةُ ألاف درهَمٍ ، فذهبت فقال عُمَرُ : " ذهب لك معها شيء " ؟ [ قلت : لاَ ] فألزمني الضَّمَان . وحجة الجُمْهُورِ ما رَوَى عمرو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه قال : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " لا ضَمَانَ عَلَى دَاع ، ولا [ على ] مُؤتمَنٍ " وأما فِعْلُ عمر - رضي الله عنه - [ فهو ] محمولٌ على أنَّ المودع اعترف بفعل يوجب الضمان . فصل في الخلاف في ضمان العارية قال الشافعيُّ وأحمدُ : العاريةُ مَضْمُونَةٌ بعد الهَلاَكِ لقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ [ إِلَىۤ أَهْلِهَا } ] والأمر لِلوُجُوبِ ، وقوله - عليه الصلاة والسلام : " على اليَد مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤديهُ " وخصت منه الوديعَةُ ، فيبقى العامُّ بَعْدَ التَّخْصيصِ حجة ، وأيضاً فإنَّا أجمعْنَا على أنَّ المستام مَضْمُونٌ ، وأنَّ المودع غيره مَضْمُونٍ والعَارِيَة وقعت في البين ، ومشابهتها لِلْمُسْتَام أكثر ؛ لأنَّ كلاّ منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه ، والوديعة أخذها لِغَرَضِ المالِكِ ، فظهر الفَرْقُ بيْنَ العاريَةِ والوديعة . وقال أبُو حنيفَة : [ العارية ] ليست مضمونة كقوله عليه السلامُ " لاَ ضَمَانَ عَلَى مُؤتَمنٍ " وجوابه أنَّهُ مَخصوصٌ بالمستام ، فكذا في العَارِيَةِ ، ودليلنا ظاهِرُ الْقُرآنِ . قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [ فيكون ] قوله { أَن تَحْكُمُواْ } معطوف على { أَن تُؤدُّواْ } أي : يأمرُكُمْ بتَأديَةِ الأمَانَاتِ والحكم بالعَدْلِ ، فيكونُ قد فصل بَيْنَ حرف العَطْفِ ، والمعطوف بالظَّرْفِ . وهي مسألة خلاف ذَهَبَ الفَارِسِيُّ إلى منعها إلاّ في الشِّعْرِ . وذهب غَيرُهُ إلى جَوازِهَا مُطْلَقاً ، ولنصحّح مَحَلّ الخلافِ أولاً : فنقولُ : إن حرف العطف إذا كان على حَرْفٍ واحدٍ كالواو ، والفاء هل يجوزُ أن يفصل بينه ، وبين ما عطفه بالظَّرف وشبهه أم لا ؟ فَذَهَبَ الفَارسِيُّ إلى منعه مُسْتَدِلاً بأنَّهُ إذا كانَ على حَرْفٍ واحدٍ ، فقد ضَعُفَ ، فلا يتوسّط بينه ، وبين ما عطفه إلاّ في ضَرُورةٍ كقوله : [ المنسرح ] @ 1810 - يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أرْدِيَةِ الـْ ـعَصْبِ وَيَوْماً أديمَهَا نَغِلاَ @@ تقديره : وترى أديمها نغلاً يوماً ، [ ففَصَل بـ " يَوْماً " ] ، وذَهَبَ غَيْرَهُ إلى جَوَازِهِ مُسْتَدِلاً بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ، { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ } [ يس : 9 ] { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] . { أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ } [ الآية ] ، وقالَ صَاحِبُ هذا القول : إنَّ المَعْطُوفَ عليه إذَا كانَ مَجْرُوراً بِحَرفٍ ، أُعيدَ ذلك الحَرْفُ المعطوف نحو : امرر بزيدٍ وغداً بِعَمْرو ، وهذه الشَّواهدُ لا دَليلَ فيها . أمَّا { فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ، وقوله { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 9 ] ، فلأنه عطف شيئين على شَيْئَيْنِ : عطف الآخرة على الدُّنْيَا بإعَادَةِ الخافض وعطف حسنة الثانية على حَسَنة الأولى ، وكذلك عطف " من خلفهم " على { من بين أيديهم } و " سدَّا " على " سدَّا " ، وكذلك البيت عطف فيه " أديمها " على المفعول الأوَّل لـ " تَرَاها " ، و " نَغلاً " على الثاني وهو كشبه و " يوماً " الثَّاني على " يَوْماً " الأوَّلِ ، فلا فصل فيه حينئذٍ ، [ وحينئذ ] يقال : [ ينبغي ] لأبي عَلِيٍّ أنْ يمنعَ مطلقاً ، ولا يستثنى الضَّرُورَةَ ، فإن ما استشهده به مُؤوَّل على ما ذكرناه . فإن قيل : إنَّما لم يجعله أبُو عَلِيّ من ذلك ؛ لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تخصيص الظَّرْفِ الثَّاني بما وقع في الأوَّلِ ، وهو أنَّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوَّلِ والثاني ؛ لأنَّ حُكْمَ [ المعطُوف حكم ] المعطوف عليه ، فهو نَظِيرُ قولك : ضَرَبْتُ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ ، ويوم السَّبْت ، فـ " يَوْمَ " السَّبْت مُقيّدٌ بضرب [ زيد كما يُقَيَّدُ به يَوْمَ الجُمعة ، لكن الغَرَضَ أنَّ اليومَ الثَّانِي في البيت مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ آخر ] وهو رُؤيَةُ أديمها نغلاً . فالجوابُ : أنه لو تركنا [ و ] الظَّاهر من غير تَقْييدِ الظّرف الثَّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [ لأن الظاهر كما ذكرت ] في مثالك : ضربت زيداً يوم الجُمعَةِ [ وعَمراً ] يَوْمَ السَّبْتِ [ أما إذا قيَّدته بشيءِ آخر ، فقد تركت ذلِكَ الظَّاهِرَ لهذا النص ، ألا تَرَاكَ تَقُولُ : ضربتُ زيداً يَوْمَ الجُمْعَة ، وعمراً يوم السَّبت ] ، فكذلك هَذَا ، وهو مَوْضعٌ يحتاجُ لِتَأمُّلِ . وأما " فبشرناها بإسحاق " ، فيعقوب ليس مجروراً عَطْفاً على إسْحَاق ، بل منصوباً بإضْمَارِ فعل أي : ووهبنا لها يعقوبَ ، وَيَدُلُّ عليه قراءةُ الرَّفْع ، فإنَّهَا مؤذنة بانْقطَاعِهِ من البِشَارَة [ به ] ، كيف وقد تَقدَّم أنَّ هذا القائل يَقُولُ : إنَّهُ متى كان المَعْطُوفُ عليه مجروراً ، أُعيدَ مع المَعْطُوفِ الجار . [ و ] أما { أن يؤدوا الأمانات } ، فلا دلالة فيها أيضاً ؛ لأن " إذَا " ظرف لا بُدَّ من عامل ، وعامله إما { أَن تَحْكُمُواْ } وهو الظَّاهِرُ من حيث المعنى ، وإما { يَأْمُرُكُمْ } فالأوَّلُ ممتنع ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنَّ ما في حيز الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين ، وأمّا الكُوفِيُّون فيجوِّزونَ ذلك ، ومنه الآية عِنْدَهُم ، واستَدَلُّوا بقوله : [ الرجز ] @ 1811 - … كَانَ جَزَائِي بالْعَصَا أنْ أجْلَدَا @@ وقد جاء ذلِكَ في المفعول الصَّريح في قوله : [ الكامل ] @ 1812 - … وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي @@ فكيف بالظرف وشبهه . والثاني ممتنعٌ أيضاً ؛ لأنَّ الأمْرَ ليس واقعاً وَقْتَ الحكم ، كذا قاله أبُو حَيَّان وفيه نَظَرٌ وإذا بَطَلَ هذا فالعامِلُ فيه مُقَدَّرٌ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ تَقْدِيره : " وأن تحكموا إذا حكمتم " ، و " أن تحكموا " الأخيرة دالة على الأولى . قوله " بالعدل " يجوزُ فيه وجهان : أحَدُهُمَا : أنْ يتعلَّقَ بـ " تحكموا " ، فتكونُ البَاء للتَّعدية ، والثانية : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من فاعل تحكموا ، فتكونُ الباء للمصاحبة ، أي : ملتبسين بالعَدْلِ مصاحبين له . والمعنيان مُتَقَارِبَان . فصل اعْلَمْ أن الأمانة عبارة عن أداء ما وَجَبَ عليك لِغَيْرِكَ ، والحكم بالحق عما إذا وجب لإنْسَانٍ على غيره حق ، فأمر من وَجَبَ عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى مَنْ له ذلك الحق . ولما كان التَّرْتيبُ الصَّحيحُ أن يبدأ الإنسان بِنَفْسِهِ في جلب المَنَافِعِ ، ودفع المضار ، ثم يشتغل بغيره ، لا جَرَمَ أمر تعالى بِأدَاءِ الأمَانَةِ أوّلاً ، ثم ذكر بعد الأمر الحكم بالحَقّ ، وهذا من اللَّطَائِف المودعة في ترتيب القرآن . فصل في وجوب حكم الإمام بالعدل أجّمعُوا على أنَّهُ يَجِبُ على الحَاكِمِ أنْ يَحْكُم بالعَدْلِ ، لهذه الآية ، ولقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ } [ الأنعام : 152 ] وقوله { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } [ ص : 26 ] ، وقال - عليه الصلاة والسلام : " لا تَزَالُ هذه الأمَّةُ بخَيْرٍ ما إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ ، وإذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وإذَا اسْترْحَمتْ رَحِمَتْ " وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " المُقْسِطُونَ عِند اللَّهِ علَى منابر مِنْ نُورٍ عن يمينِ الرَّحْمان ، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ؛ هُمُ الذين يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأهْلِيهِمْ ما وُلُّوا " وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " إنَّ أحَبَّ النَّاس إلى اللَّهِ يومَ الْقِيَامَةِ ، وأقْرَبَهَمْ مِنْهُ مَجْلِساً إمامٌ عادِلٌ وإنَّ أبْغَضَ النَّاسِ إلى اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وأشَدّهُمْ عَذَاباً إمامٌ جَائِرٌ " وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ أيْنَ الظَّلَمَةُ ، فَيُجْمَعُونَ عَلَيْهِ فَيُلْقَونَ في النَّارِ " . يحقق ذلك قوله تعالى { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] وقوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } [ إبراهيم : 42 ] . فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين يجب على القاضي أن يسوِّي بَيْنَ الخصمين في الدُّخُول عليه ، والجُلُوس بَيْنَ يَدَيْهِ ، والإقبال عَلَيْهِمَا ، والاستماعِ منهما ، والحكم بَيْنهُمَا ، وينبغي إلا يلقِّنَ أحدهُمَا حُجَّةً ، ولا شاهداً شهادته ، ولا يلقّن المدّعي الدَّعْوَى ، والاستخلافَ ، ولا يلقنَ المُدَّعى عليه الإقْرَارَ ، ولا الإنْكَارَ ، ولا يُضِيفَ أحَد الخَصْمَيْنِ دُونَ الآخر ، ولا يُجِيبَ هو إضَافَةَ أحدهِمَا ، ولا إلى إضافتهما مَا دَاما مُتَخَاصِمَيْنِ ، وعليه التَّسْوِيَة بينهما في الأفْعَالِ دون القلب ؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يتحرَّز من ميل قلبه . قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } قد تقدَّمَ الكلامُ على ما المتصلة بـ " نعم " ، و " بئس " إلا أنَّ ابْن عَطِيَّة نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُدُ مِنْ وَهْمٍ ! . قال : و " ما " المُرْدَفَةُ على نعم ، وبئس إنَّمَا هي المُهيئَةُ لاتّصَالِ الفِعْلِ كما هي في رُبَّمَا ، ومما في قوله : وكان رَسُولُ اللَّه مما يحرك شَفَتَيْه وكقول الشَّاعر : [ الطويل ] @ 1813 - وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ @@ وفي هذا بمنزِلَةِ رُبَّمَا ، ومنزلتها مخالفة في المَعْنَى ؛ لأنَّ رُبَّمَا للتَّعْلِيلِ ، ومما للتَّكْثِيرِ ومع إنما هي موطّئةَ ، فهي بمعنى الَّذي ، وما وَطَّأتْ إلاّ وهي اسمٌ . ولكن المقصد إنما هو لا يليها من المَعْنَى الذي في الفِعْل . قال أبُو حَيَّان وهذا متهافتٌ ؛ لأنه من حَيْثُ جعلها مُوَطِّئَةً مُهَيَّئَةً ، لا تكونُ أسماء ، ومن حَيْثُ جعلها بمعنى الَّذِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اسْماً ، فتدافعا . فصل : في معنى قوله " نعما يعظكم " المعنى : نِعْمَ شَيئاً يعظكم به ، أو نِعْمَ الشَّيْء الذي يعظكُم بِه . والمخصوص بالمدح مَحْذُوفٌ ، أي : نِعْمَ ما يَعِظُكُم بِهِ ذلك ، وهو المأمور به : من أدَاءِ الأمَانَاتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ ، أي : بالقسط ، ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } ، أي : إذا حكمت بالعدل ، فهو يَسْمَعُ ذلِكَ ، لأنَّهُ سميعٌ لِكُلّ المَسْمُوعاتِ ، وإنْ أدَّيْتَ الأمَانَةَ ، فهو بَصِيرٌ بكُلِّ المبصرات يبصر ذلك ، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الوَعْدِ للمطيع ، وأعظم أسْبَابِ الوعيدِ للعاصي . وإليه الإشارة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - " اعْبُد اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ " .