Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 59-59)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنَّهُ تعالى لما أمر الولاة بالعَدْلِ ، أمر الرعية بطاعة الوُلاَةِ . قال ابْنُ عَبَّاسٍ وجَابِرٌ : أولو الأمْرِ : [ هُمُ ] الفُقَهَاءُ ، والعلماءُ الَّذِينَ يعلِّمُونَ النَّاسَ دينهم . وهو قَوْلُ الحَسَنِ ، والضَّحاكِ ومُجاهِدٍ . لقوله تعالى { ولو ردوه إلى الرسول [ وإلى ] أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } . وقال أبُو هُرَيرَة : هم الأمَرَاءُ والوُلاة ، وقال عليُّ بْنُ أبي طالبٍ : حقٌّ على الإمام أن يَحْكُمَ بما أنْزَلَ اللَّهُ ، ويُؤَدِّي الأمَانَة ، فإذا فَعَلَ ذلك ؛ حَقَّ علي الرَّعِيَّةِ أنْ يَسْمَعُوا ، وَيُطِيعُوا . وروى أبُو هُرَيْرَة قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ أطَاعَنِي ؛ فَقَدْ أطَاعَ اللَّهَ ، ومَنْ يَعْصِنِي ، فَقَدْ عَصَى اللَّه ، ومَنْ يُطِعِ الأمِيرَ ؛ فَقَدْ أطَاعَنِي ومن يعصي الأميرَ ، فَقَدْ عَصَانِي " وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " السَّمْعُ والطَّاعَةُ على المرءِ المُسْلِمِ فيما أحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ " . وروى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قال : بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على السَّمْعِ والطَّاعَةِ في اليُسْر ، والعُسْر ، والمَنْشَطِ ، والمَكْرَه ، وألاَّ نُنَازعَ الأمْرَ أهْلَهُ ، وأنْ نَقُومَ ، أوْ نَقُولَ بالحَقّ ، حَيْثُ مَا كُنَّا ، لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ . وعن أنَسٍ : أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ : " اسْمَعْ ، وأطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبة " . وروى أبُو أمَامَةَ قال : " سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطِبُ في حجة الوَدَاعِ فقالَ : " اتَّقُوا اللَّهَ ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وأدُّوا زَكَاةَ أمْوالِكُمْ ، وأطِيعوا إذَا أمَرَكُم ؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ ربِّكُم " " . وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ المُرَادُ أمَرَاء السَّرَايَا قال : نزلت هذه الآية في عبيد الله بن أبي حُذَافَةَ بْنِ قَيْس بْن عدِيّ السّهميّ إذ بعثه النّبي صلى الله عليه وسلم [ في سرية ، وعن ابن عباس أنَّها نزلت في خَالدِ بْنِ الوَلِيدِ بَعَثَهُ ] النبي صلى الله عليه وسلم على سَرِيَّةٍ ، وفيها عَمَّارُ بْنُ يَاسِر فجرى بَيْنَهُمَا اخْتِلاف في شَيْءٍ ، فَنَزَلَتْ هذه الآية . [ و ] قال عكْرمَة : أولو الأمْرِ أبُو بَكْر وعُمَر ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - " [ اقتدوا ] باللذيْنِ من بَعْدِي أبِي بكْرٍ وعُمَر " وقيلَ : هم الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُون . وقال عَطَاء : هم المُهَاجِرُون والأنْصَار ، والتَّابِعُون لهم بإحْسَانٍ ؛ لقوله - تعالى - : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } [ التوبة : 100 ] الآية ، ولقوله - عليه السلام - : " مَثَلُ أصْحَابِي في أمَّتِي كالمِلْحِ في الطَّعَامِ ، ولا يَصْلُح الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ " وقال الحسَن : قد [ ذهب ] مِلحُنَا ، فكيف نَصْلُحَ . ونُقِلَ عن الرَّوافِضِ أنَّ المُرَاد بأولي الأمْرِ : الأئِمُّة المَعْصُومون . فإن قيل : طَاعَةُ الرَّسُولِ هي طاعَةُ اللَّهِ ، فالمعنى العَطْفُ . فالجواب : قال القَاضِي : الفَائِدَةُ في ذَلِكَ بَيَان الدِّلالَتَيْنِ ، فلكتاب يَدُلُّ على أمْرِ اللَّه ، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر الرَّسُولِ لا مُحَالَة ، والسُّنَّة تدلُّ على أمْرِ الرَّسُول ، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر اللَّهِ لا محالة ، فَدَلّ قوْلُه : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } على وُجُوب مُتَابَعَة الكِتَابِ والسُّنَّةِ . فصل في معنى " الطَّاعَة " قالت المعتزلة : الطَّاعَة موافقَةُ الإرَادة ، وقال أهْل السُّنَّة : الطَّاعَةُ مُوافقَةُ الأمْرِ لا مُوافَقَةُ الإرَادَةِ ؛ لأنَّ اللَّه قد يَأمُر ولا يُريدُ ؛ كما أمر أبَا لَهَبٍ بالإيمَانِ مع أنَّه لم يُرِدْهُ منه ، إذ لو أرَادَهُ لا مَحَالَة . فصل استدلُّوا بقوله - تعالى - : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } على أن الأمَر للوُجُوب ، [ واعترض عليه المُتَكَلِّمُون ؛ فقالوا : هذه الآيةُ لا تَدُلُّ على الوُجُوب إلا إذا ثَبَتَ أن الأمْرَ للوُجُوبِ ] ، وهذا يَقْتَضِي افْتِقَار الدَّليل إلى المَدْلُولِ . وأجيبُ بوَجْهَينِ : الأوَّل : أن الأمْر الوَارِدَ في الوَقَائِع المخصُوصةِ دالٌّ على النَّدْبيَّة ، فقوله : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } لو اقْتَضَى النَّدْبَ ، لم يَبْقَ لِهَذِه الآيَةِ فائِدَةٌ . الثاني : أنه خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وهذا وعيد . قوله : " منكم " في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من " أولي الأمر " فيتعَلَّقُ بمَحْذُوفٍ ، أي : وأُولِي الأمْرِ كائِنِينِ مِنكُم ، و " مِنْ " تَبْعِيضية . قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } [ اختلَفْتُم ] ، { فِي شَيْءٍ } [ أيْ : ] من أمْرِ دينكُم ، والتَّنَازُع : اخْتِلافَ الآرَاءِ . قال الزَّجَّاج : اشْتِقَاق المُنَازَعَة من النَّزْعِ الَّذِي هُوَ الجَذْب ، والمُنَازَعَةُ : عبارة عن مُجَاذَبَةِ كُلِّ واحدٍ من الخَصْمَيْن ، يَجْذِب بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ . قوله : { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ أي : إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ ] . وقيل : الرَّدُّ إلى اللَّه والرَّسُول ؛ أن يقُول لما لا يعْلَمُ : " الله ورسوله أعلم " . فصل في دلالة الآية على حجية القياس دلت هذه الآيةُ على أنَّ القياس حُجَّة ؛ لأن قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } إمَّا أن يكُون المُرادُ منه " فإن اختلفتم في شيء " أي : حكم مَنْصُوصٍ عليه [ في الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجْمَاعِ ] ، [ أو يكون المُرادُ : " فإن اختلفتم في شيء " حكمه غير مَنْصُوصٍ عليه في شَيء من هذه الثَّلاثة ] . والأوَّل بَاطِلٌ ؛ لأنَّ الطَّاعَة واجِبَةٌ ، لقوله : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } فيَصِيرُ قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } إعادة لعين ما مَضَى ، وذلِك غيْر جَائِزٍ ، فيتَعَيَّن أن يكُون المُرَادُ : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } حكمه غير مَذْكُورٍ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ والإجْمَاعِ ، فيَجِبُ أن يُرَدّ حُكْمُه إلى الأحْكَامِ المَنْصُوصَةِ المُشَابِهَة له ، وذلِك هُوَ القِيَاسُ . فإن قيل : لِمَ لا يَجُوزُ أن يكُون المرادُ بِقَوْله : { فَرُدُّوهُ } أي : فَوَّضُوا حُكْمَه إلى اللَّهِ ولا تَتَعرَّضُوا له ، أو يكون المرادُ : رُدُّوا غيْر المَنْصُوصِ إلى المَنْصُوصِ ؛ في أنَّه لا يُحْكَمُ فيه إلاَّ بالنَّصِّ ، أو فرُدُّوا هذه الأحْكَام إلى البَراءَة الأصْلِيَّة . والجواب عن الأوَّل والثَّاني : أنه - تعالى - جعل الوَقَائِعَ قِسْمَيْن : منها ما هُو مَنْصُوصٌ علَيْه ، ومِنْهَا ما لا يكُون كذلك ، ثم أمر في القِسْمِ الأوَّلِ بالطَّاعةِ والانْقِيَادِ ، وأمر في الثَّانِي بردِّه إلى اللَّه وإلى الرَّسُول ، ولا يجوزُ أن يكُونَ المُرادُ بِهَذَا الرَّدِّ السكوت ؛ لأن الواقِعَةَ رُبَّمَا كانَت لا يَحِلُّ السُّكُوت فيها ، بل لا بُدَّ من قطْعِ الخُصُومَةِ فيها ، إما بِنَفْيٍ أو إثْبَاتٍ ، فامْتَنَعَ حَمْلُ الرَّدِّ إلى اللَّهِ على السُّكُوتِ . وأما الثالث : فإنَّ البَرَاءَة الأصْلِيَّة مَعْلُومَةٌ بحكم العَقْلِ ، فالرَّدُّ إليها لَيْس رَدَّاً إلى اللَّه ، وإذا رَدَدْنا حكْمَ الواقِعَةِ إلى الأحْكامِ المَنْصُوص عليها ، كان ذلك رَدّاً إلى أحْكام اللَّه - تعالى - . فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الكِتَاب والسُّنَّة مُقدِّمان على القِياسِ مُطْلقاً ، فلا نَتْرُك العَمَل بهما بِسَبَبِ القِيَاسِ ، ولا يجوزُ تَخْصِيصُهَا ألْبَتَّة ، سَوَاءً كان القِياسُ جَليًّا أو خَفيًّا ، وسواءً كان ذلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصاً قبل ذَلِك أمْ لاَ ؛ لأن الله - تعالى - أمَر بطاعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في قوله : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } سواء حَصَلَ قياسٌ يُعَارِضُهمَا أو يُخَصِّصُهُمَا ، أوْ لم يُوجَد ؛ ولأن قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ } صريح بأنه لا يجوزُ العُدولُ إلى القياسِ ، إلاَّ عند فُقْدان الأصُولِ الثلاثةَ ، وأيضاً فإنَّهُ أخّر ذلك القياس عن ذِكْرِ الأصُولِ الثَّلاثَةِ ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ العمل به مُؤخَّر عن الأصُولِ الثلاثَةِ ؛ ولأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَبَرَ هذا التَّرتيبَ في قِصَّةِ مُعَاذٍ ، وأخر الاجتهاد عن الكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وعَلَّقَ جَوازَهُ على عدمِ وُجْدَانِهِمَا ، ولمَّا عَارَضَ إبْليسُ عموم الأمْرِ بالسُّجُودِ بِقياسِهِ في قوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } فخصَّ العُمُوم بالقياس ، وقدَّمه على النَّصِّ ، فصَار بهذا السَّبَبِ مَلعُوناً ، وأيضاً فغن القُرْآن مَقْطُوع بِمتْنِهِ ، والقِيَاسُ مَظْنُون من جميع الجهاتِ ، والمَقْطُوع راجحٌ على المَظْنُون ، وأيضاً العَمَلُ بالظَّنِّ من صِفَاتِ الكُفَّارِ في قولهم : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] . ثم قال { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } [ النجم : 23 ] وقال - عليه السلام - : " إذَا رُوِي عَنِّي حَدِيثٌ ، فاعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللَّهِ ، فإن وَافَقَهُ فاقْبَلُوهُ ، وإلا فَرُدُّوهِ " فهذه النٌّصوصُ تَقْتَضِي ، أن لا يجُوزُ العَمَلُ بالقِيَاسِ الْبَتَّةَ ، وإنما عَمِلْنَا بالقِيَاسِ فيما لا نَصَّ فيه ، ولا دلالة دَلَّت على وُجُوبِ العَمَلِ بالقِيَاسِ ، جَمْعاً بَيْنَهَا وبين هذه الأدِلَّة . انتهى . فصل في دلالة الآية على أكثر علم الأصول دَلَّت هذه الآيةُ على أكْثَرِ أصُولِ الفِقْه ؛ لأن أصُول الشَّريعَة هي الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجْماع والقياسُ ، فقوله : [ تعالى ] { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } إشارة للكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وقوله : { وأولي الأمر منكم } يدل على الإجماع ؛ لأنه - تعالى - أوْجَب طَاعَةَ أولي الأمْر ، وذلِك يَسْتَلزمُ عِصْمَتَهُم عن الخَطَأ ، وإلاَّ لَوجَبَ طاعَتُهُ عند كَوْنهِ مُخْطِئاً ، واتِّبَاع الخَطَأ مَنْهِيٌّ عَنْه ، فيجتمع الأمْرُ والنَّهْي [ وهو مُحَالٌ ] ؛ فَثَبتت العِصْمَةُ لأولي الأمْرِ ، إمَّا أن يكُونُوا جَمِيع الأمَرَاءِ ، أو بَعْضَهُم ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونُوا بعضهُم ؛ لأن الأمْرَ بِطَاعَتِهِم مَشْروطٌ بمعْرِفَتِهِم ، والقُدْرَةِ على الاسْتِفَادِةِ مِنْهُم ، ونحن عَاجِزُونَ قَطْعاً عن مَعْرفَة الإمام المَعْصُوم والوُصُول إليْه ؛ فوجَبَ أن يكُونَ المُرَادُ من { َأُوْلِي ٱلأَمْرِ } أولي الحَلِّ والعَقْدِ من هَذِه [ الأمَّة ] وهو الإجْمَاعُ . فإن قيلَ : المُرَادُ بـ { َأُوْلِي ٱلأَمْرِ } الخُلَفاء الرَّاشِدُون ، أو أُمَرَاء السَّرايا أو العُلَماء المُفْتُون في الأحْكَامِ الشَّرعيَّة ، أو الأئمَّةُ المعْصُومون عند الرَّوَافِضِ ، فالقَوْلُ الذي اخْتَرْتُمُوهُ خارجٌ عن أقْوَالِ الأمَّة فيَكُون بَاطِلاً ، أو تُحمَلُ الآيةُ على الأمَرَاءِ والسَّلاطين ؛ لنفوذ أمرهم في الخَلْقِ ، بخلاف أهل الإجْمَاع ؛ ولقوله - عليه السلام - : " مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ اللَّه ، [ ومَنْ أطاعَ أمِيرِي فَقَدْ أطَاعَنِي ] ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّه ، ومَنْ عَصَى أمِيري فَقَدْ عَصَانِي " . فالجواب عن الأوَّل : أنَّ جماعةً من الصَّحابةِ والتَّابعين حَمَلُوا " أولي الأمر " على العلماء ، فليْسَ قولُنَا خَارِجاً عَنْهُم . وعن الثَّاني : أنَّ الوُجُوه التي ذكرُوهَا ضَعِيفَةً ، لا تعارض بالبُرْهَانِ القَاطِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مع أنَّهَا مُعَارَضَة بوجوهٍ : الأوّل : أنَّ طاعَة الأمَراءِ إنَّما تَجِبُ فيما عُلِمَ بالدَّلِيلِ أنَّهُ حَقٌّ ، وذلِك الدَّلِيلُ هُو الكِتَابُ والسُّنَّةُ ؛ ليكُون هذا داخلاً في طَاعَةِ اللَّه [ ورسُولِهِ ] كما أنَّ الوالِدَيْن والزَّوْج ، والأستاذِ داخِلٌ في ذَلِكَ ، وإذا حَمَلْنَاهُ على الإجْمَاعِ ، لم يَدْخُل في ذلك ؛ لأنَّهُ ربما ثبت بالإجْمَاعِ حكم ولا دليل في الكتاب والسُّنَّة عليه فَكَانَ أوْلَى . الثاني : أنَّ طاعَة الأمَرَاءِ إنما تَجِبُ إذا كانُوا على الحّقِّ فطاعتهم مَشْرُوعة بالاسْتِقَامَةِ . الثالث : قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } يُشْعِر بإجْمَاعٍ تَقَدَّمَ ، وحدث بَعْدَه التَّنَازُع . الرابع : أنَّ طاعَةَ [ أهْل ] الإجْمَاعِ واجبَةٌ قَطْعاً ، [ وأمَّا طاعَة ] الأمَرَاء والسَّلاطين فغير وَاجِبَةٍ قَطْعاً ، بل الأكْثَر تكون مُحَرَّمة ؛ لأنهم لا يَأمُرون إلاَّ بالظُّلْم ، وفي الأقل تكون وَاجِبَةً [ لهذا كَانَ حَمْل الآيَةِ على الإجْمَاعِ أولى ] . الخامس : أوامِرُ السَّلاطِين مَوْقُوفَة على فَتَاوى العُلَمَاء ؛ فالعُلَمَاءُ في الحَقِيقَةِ أمَرَاء ، فَحَمْلُ أولي الأمْرِ عَلَيْهِم أوْلى ، وأمَّا حَمْل الرَّوَافِض الآية على الإمَامِ المَعْصُوم ، فَيُقَيَّد بما ذُكر من أنّ طَاعَتَهُم تتوَقَّفُ على مَعْرفَتهم ، والقُدْرَة على الوُصُولِ إلَيْهِم ، فَوُجُوبُها قَبْل ذلك تَكْلِيفُ ما لا يُطَاقُ ، وأيضاً فَطَاعَتُهُم مَشْرُوطَةٌ وظاهر قوله : { أَطِيعُوا } يقتضي الإطْلاق ، وأيضاً فَقَوْلُه : { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } لو كان المُرادُ منه الإمام المَعْصُوم ، لقيل : فردُّوهُ إلى الإمَام . فصل : من المعتبر في الإجماع ؟ إذا ثَبَت أن الإجْماع حُجَّة ، فاعلم : أن المُعْتَبَر إجْمَاعُهم هُمُ الذين يُمْكِنُهُم استِنْبَاط الأحْكَام الشَّرعيَّة من الكِتَابِ والسُّنَّة ، و [ هم ] المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ ، فهم الَّذين يُمْتَثَلُ أمْرُهُم ونَهْيُهُم بِخلاف المُتَكَلِّم ، والمُقْرِئ والمُحْدِّث والعَوَامّ الذين لا يُمْكِنُهم الاسْتِنْبَاط . فصل : لا عبرة في الإجماع بالفرق الضالة دَلَّت الآيةُ على أنّ العِبْرَة بإجْمَاع المُؤمِنِين ، فأمَّا من يشكُّ في إيمانِهِ من سائِرِ الفرقِ فلا عِبْرَةِ بِهِم . فصل : حصر الأدلة أربعة دَلَّت [ هذه ] الآيةُ على أنَّ ما سِوَى هذه الأصُولِ الأرْبَعَة ، أعني : الكِتَابَ والسُّنَّة والإجْمَاعِ والقياسَ باطِلٌ ؛ لأنه - تعالى - جعل الوَقَائِعِ قِسْمَيْن : أحدهما : مَنْصُوص عليه فأمر فيه بالطَّاعَةِ ، بقوله [ - تعالى - ] : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ } . والثاني : غير مَنْصُوص عليه [ وأمر فيه بالاجتهاد بقوله - تعالى - : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } ] ، ولم يزد على ذَلِكَ ؛ فدلَّ على أنه لَيْسَ للمكَلَّفِ أن يَتَمَسَّك بشَيْءٍ سِوَى هذه الأرْبَعَة ، فالقَوْلُ بالاسْتِحْسَانِ الذي تَقُولُ به الحَنَفِيَّةُ ، والقول بالاسْتِصْحَابِ الذي تقُولُ به المالِكِيَّة قو بَاطِلٌ لهذه الآية . فصل : في الاقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله المنْقُول عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إن كان قَوْلاً ، وَجَبَ طَاعَتُهُ ؛ لقوله - تعالى - : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } وإن كان فِعْلاً ، وجب الاقْتدَاءُ بِهِ إلاّ ما خصَّه الدَّلِيل ؛ لقوله - تعالى - : { وَٱتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] ، والمُتَابَعَةُ عِبارَةٌ عن الإتْيَانِ بمثل فِعْل الغَيْرِ ؛ لأجْلِ أنَّ ذلك الغَيْر فَعَلَهُ . فصل : الأمر في الشرع يدل على التكرار ظَاهِر الأمْرِ في عُرْفِ الشَّرْع يدل على التِّكْرَارِ لوُجُوه : الأول : أن قوله : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } يَصِحُّ منه اسْتِثْنَاء أيِّ وقْتٍ كان ، وحُكْمُ الاسْتِثْنَاء إخْرَاج ما لوْلاَهُ لَدَخَل ؛ فوجَبَ أن يكُون قوله : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } مُتَنَاوِلاً لكُلِّ الأوْقَاتِ ، وذلِك يَقْتَضِي التَّكْرَار . والقول الثاني : لو لَمْ يفدْ ذَلِك ، لصارت الآيةُ مُجْمَلة ؛ لأن الوَقْتَ المخصُوصَ والكيْفِيَّة المخْصُوصَة غير مَذْكُورة ، فإذا حَمَلْنَاهُ على العُمُوم كانت مُبَيِّنة ، وهو أوْلَى من الإجْمَالِ ، أقصَى ما في البَابِ أنَّه يدخل التَّخْصيص ، والتَّخْصِيص خَيْرٌ من الإجْمَال . الثالث : أنه أضَاف لَفْظَ الطَّاعَةِ إلى لَفْظِ اللَّهِ ، [ وهذا ] يَقْتَضِي أن مَنْشَأ وجوب الطَّاعَةِ هو العُبُودِيَّةُ والرُّبُوبِيَّةِ ، وذلك يَقْتَضِي دوامَ وُجوبِ الطَّاعَةِ على المكَلَّفين إلى يَوْمِ القِيَامَة . فصل قال - [ تعالى ] - : " أطيعوا الله " فأفرَدَهُ بالذِّكْر [ ثم ] قال : { وأطيعوا الرسول وأولِي الأمر } وهذا تَعليمٌ من الله لنا الأَدب ، ولذلك " رُوِيَ أن رجلاً قال بِحَضْرَة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ أطَاعَ اللَّهَ والرَّسُولَ فَقَدْ رشَدَ ومَنْ يَعْصِهِمَا فقد غَوَى " ، فقال - عليه السلام - : " بِئْس الخَطِيبُ أنْتَ هَلا قُلْتَ : مَنْ عَصَى اللَّهَ وعَصَى رَسُولَهُ " أو لفظ هذا مَعْنَاه ؛ وذلك لأنَّ الجَمْعَ بينَهُمَا في اللَّفْظِ يوهِمُ نَوْع مُنَاسَبةٍ ومُجَانَسة ، والله - تعالى - مُنَزَّهٌ عن ذلك . فصل : في فروع تتعلق بالإجماع دلَّ قوله - تعالى - : { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } على أن الإجْمَاع حُجَّة ، وهَهُنا فروعٌ : الأوَّل : أن الإجْماع لا يَنْعَقِدُ إلا بقوْل العُلَمِاء ، الذين يمكِنُهُم اسْتِنْبَاطُ أحْكَامِ الله - تعالى - من نُصُوص الكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وهؤلاء هم المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ . الثاني : اخْتَلَفُوا في الإجماعِ الحَاصِلِ عَقِيب الخلافِ ، هل هو حُجَّة أمْ لاَ ، وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّه حُجَّة ، لأنَّه قَوْلُ جميعِ أهْل الحَلِّ والعَقْدِ من الأمَّةِ ، فيدخُل في الآيةِ سَواءٌ وجد قَبْلَهُ خِلافٌ ، أم لا . الثالث : اختلفُوا في انقِراض أهْل العَصْرِ ، هل هو شَرْطٌ أم لا ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّه لَيْسَ بِشَرْط ؛ لأنَّها تَدُلُّ على وُجُوبِ طَاعَةِ المُجْمِعين ، سَوَاء انْقَرض [ أهْل ] العَصْرِ أم لم يَنْقَرِضِ . الرابع : دَلَّت الآيَةُ على أن العِبْرَةِ بإجْمَاعِ المُؤمِنِين ؛ لقوله - [ تعالى ] - { يا أيّها [ الذين آمنوا ] } ثم قال : { وأولي الأمر منكم } . قوله : " إن كُنتُم " شرط ، جوابُه مَحْذُوفٌ عند جُمْهُور البَصْريَّين ، أي : فَرُدُّوه إلى اللَّهِ ، وهو مُتقدِّم عند غيرهم . وهذا الوعِيدُ يحتمل أن يكُون مَخْصُوصاً بقوله : { فَرُدُّوهُ } ، ويُحْتَمل أن يكُون عَائِداً إلى قوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } . فصل ظاهر قوله : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } يَقْتَضِي أنَّ من لم يُطِع اللَّه والرَّسُول لا يَكُونُ مُؤمِناً ، فيخرج المُذْنِب عن الإيمانِ ، لكِنَّه مَحْمُولٌ على التَّهْديدَ ، وقوله : { ذٰلِكَ خَيْرٌ } أي : الَّذي أصْدُقُكم في هذه الآيَاتِ من الأحْكَام ، والطَّاعَةِ ، والرَّدِّ إلى اللَّهِ والرَّسُول خيرٌ لكم ، " وأحسن تأويلاً " ، أي : مآلاً ؛ لأن التَّأوِيل عِبَارةٌ عن الشَّيْء ومرْجِعِه وعاقِبتهِ و { تَأْوِيلاً } نَصْب على التَّمْيِيز . فصل قال أبو العبَّاس المُقْرِي : ورَدَ التَّأويل في القُرْآنِ على أرْبَعَةِ أوْجُه : الأوَّل : بمعنى العَاقِبَة كَهَذِه الآيَة . الثاني : بمعنى المُنْتَهى ؛ قال - تعالى - : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] أي : ما يَعْلَمُ مُنْتَهَى تأويلِهِ إلا اللَّه . الثالث : بمعنى تَعبير الرُّؤيَا ؛ قال - تعالى - : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] أي : بعبَارتهِ ؛ ومثله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } [ يوسف : 6 ] أي : تَعْبير الرُّؤيَا . الرابع : بمعنى التَّحقِيق ؛ قال - تعالى - : { هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] أي : تحقيق رُؤيَايَ ؛ ومثل الوجه الأوَّل : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : عاقبته ، [ ومثله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] أي : عَاقبته .