Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 69-70)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما أمر اللَّه بطَاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رسُولِهِ بقوله : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [ النساء : 59 ] ثم زيَّف طريقَةَ المُنَافِقِين ، ثم أعَادَ الأمْر بطَاعَةِ الرَّسُول بقوله - [ تعالى ] - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ } [ النساء : 64 ] ورغَّب في تِلْك الطَّاعَةِ بإيتَاءِ الأجْرِ العَظيمِ ، وهداية الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم ، أكد الأمْرَ بالطَّاعَة في هَذِه الآيَةِ مَرَّة أخْرَى ، فقال : { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } الآية ، وقال القُرْطبيّ : لما ذكر اللَّه - تعالى - الأمْر الذي لو فَعَلَهُ المُنافِقُون حِين وعظُوا به وأنَابُوا إليه ، لأنْعَمَ عليهم ، ذكر بعد ذَلِك ثَوابَ من يَفْعَلهُ . فصل : سبب نزول الآية قال جماعة من المفسِّرِين : " إن ثَوبَان مَوْلى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَ شَديد الحُبِّ لرسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قليل الصَّبْر عن فِراقِهِ ، فأتَاهُ يَوْماً وقد تَغَيَّر لَوْنُه ، ونحلُ جسمُه ، وعُرِف الحُزْن في وَجْهِه ، فقال [ له ] رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ ما غيَّر لَوْنَك ؟ فقال : يا رسول الله ] مَا بِي من وَجَع غيْرَ أنِّي إذا لمْ أرَكَ ، اسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَديدةً حَتَّى ألقاك ، فَذَكَرْتُ الآخِرَة فَخِفْتُ ألاَّ أرَاكَ هُنَاكَ ؛ لأنك تُرفعَ مع النبييِّن [ والصِّدِّيقين ] ، وإني إن أدخِلْتُ الجَنَّة ، كنت في مَنْزَلةٍ أدْنَى من مَنْزِلَتِك ، وإن لَمْ أدْخُلِ الجَنَّة ، فلا أرَاكَ أبَداً " فنزلَتْ [ هذه ] الآيَةَ . وقال قَتَادة : إن بَعْض أصْحَاب النِّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا : كيف يَكُون الحَالُ في الجَنَّة وأنْتَ في الدِّرَجَات العُلَى ونَحْنُ أسْفَل مِنْك فَكَيْفَ نَرَاكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِه الآية . وقال مُقَاتل : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من الأنْصَارِ ، قال للنَّبِي صلى الله عليه وسلم يا رسُولَ اللَّه ، إذا خَرَجْنَا من عِنْدِك إلى أهْلِينَا اشْتَقْنَا إليك ، فما يَنْفَعُنَا شيء حتَّى نَرْجع إلَيْك ، ثم ذَكَرْتُ درجَتَكَ في الجَنَّة ، فكيف لَنَا بِرُؤْيَتك إن دَخَلْنَا الجَنَّة ، فنزَلَتْ هذه الآيةُ ، فلما تُوُفِّي النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : اللَّهُمَّ أعْمِنِي حّتَّى لا أرَى شَيْئاً بَعْدَهُ إلى أنْ ألقاه ؛ فعَمِيَ مَكَانَهُ ، فكان يُجِبُّ النبي حُبّاً شديداً ، فجعله الله مَعَهُ في الجَنَّةِ . قال المُحَقِّقُون : لا تنكَرُ صحَّة هَذِهِ الرَّوَايَاتِ ؛ إلا [ أن ] سَبَب النُّزُّول يجب أن يكون شَيْئاً أعْظَم من ذَلِك ، وهو الحَثُّ على الطَّاعَةِ والتَّرغِيب فيهَا ، فإن خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفَظِ ، فالآيةُ عامَّةٌ في حَقِّ جميع المكلَّفين ، والمَعْنَى : ومَنْ يُطِع اللَّه في أدَاءِ الفَرَائِضِ ، والرَّسُولَ في السُّنَنِ . فصل ظاهر قوله : { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } يوجب الأكْثَر بالطَّاعَة الوَاحِدَة ، لأنَّ اللَّفْظَ الدالَّ على الصِّفَةِ يكفي في جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُول ذَلِكَ المُسَمَّى مَرَّة وَاحِدَة . قال القَاضِي : لا بد من حَمْلِ هَذَا على غير ظاهره ، وأن تُحْمَل الطَّاعَة على فعل المأمُورَاتِ وتَرْك جَمِيع المنْهِيَّات ؛ إذ لو حَمَلْنَاهُ على الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار ؛ لأنهم قد يأتُونَ الطَّاعَةَ الوَاحِدَة . قال ابن الخَطِيب : وعِنْدي فيه وَجْهٌ آخَر ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ ، أن الحُكْمَ المَذْكُور عَقِيب الصِّفَةِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ ذلك الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوَصْفِ ، وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول : قوله : { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ } [ أي : ومن يُطِع الله ] في كَوْنِهِ إلهاً ، وذَلِكَ هو مَعْرِفَتُه والإقْرَار بِجَلالِهِ وعِزَّتِه وكبْرِيَائِه [ وقُدْرَته ] ، ففيها تَنْبِيهٌ على أمْرَيْن عظيمين مِنْ أمُور المَعَادِ : الأوّل : منشأ جَميع السَّعَاداتِ يوم القيامَة وهُو إشْرَاق الروح بأنْوَارِ معْرفته تعالى ، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكْثَر ، وصَفَاؤُهَا أقْوَى ، وبُعْدُها عن التكَدُّر بعالم الأجْسَام ، كان إلى الفَوْزِ بالنجاة أقرب . الثاني : قال ابن الخَطِيب : إنه - تعالى - وعد المُطيعين في الآيةِ المتقدِّمَة بالأجْر العَظِيم والهداية ، ووعَدهُم هنا بِكَوْنِهِم مع النبِيِّين [ كما ذكر في ] الآية ، وهَذَا الذي خَتَمَ به أشْرُف ممَّا قَبْلَهُ ، فليس المُرادُ مَنْ أطَاعَ اللَّه وأطاعَ الرَّسُول مع النَّبِيِّين والصِّدِّيقين - كَوْن الكل في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ ؛ لأن هذا يقْتَضِي التسوية في الدَّرجة بين الفَاضِلِ والمَفْضُوُل ، وإنَّه لا يجُوزُ ، بل المُرادُ : كونُهم في الجَنَّةِ بحَيْثُ يتمكَّن كل واحدٍ مِنْهُم من رُؤيَة الأخَرَ ، وإن بَعُد المَكَان ؛ لأن الحِجَابِ إذَا زَالَ ، شَاهدَ بَعْضُهم بَعْضاً ، وإذا أرَادُوا الزِّيَارَة والتَّلاقِي قَدَرُوا عَلَيْهِ ، فهذا هُو المُرادُ من هَذِه المَعيَّة . قوله : { مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ } فيه أربعة أوجه : أظهرها : أنه بَيَان لـ { الذين أنعم الله عليهم } . الثاني : أنه حالٌ من لضمير في " عليهم " . الثالث : أنه حلٌ من الموصُولِ ، وهو في المَعْنَى كالأوَّل ، وعلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْن فيتعلَّق بمحْذُوف ، لأي : كَائِنين من النَّبِيِّين . الرابع : أن يَتَعلَّق بـ " يُطِع " قال الرَّاغِب : [ أي ] : ومن يُطِع اللَّه والرَّسُول من النَّبِيِّين ومَنْ بَعْدَهُم ، ويكون قوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } إشارةٌ إلى الملإ الأعْلَى . ثم قال : { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } ويُبَيِّين ذلك قوله - عليه السلام - عند المَوْتِ : " اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى " وهذا ظاهِر ، وقد أفْسَدَهُ أبو حَيَّان من جِهَةِ المَعْنَى ، ومن جِهَةَ الصِّنَاعَة : أمَّا من جِهَة المَعْنَى : فلأن الرَّسُول هُنَا هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقد أخْبَر - تعالى - أنَّه من يُطِع الله ورسُولَهُ ، فهو مع مَنْ ذَكَرَهُ ، ولو جَعَل " مع النبيين " متَعلِّقاً بـ " يُطِع " ، لكان " من النبيين " تَفْسيراً لـ " مَنْ " الشَّرطيَّة ، فَيَلْزَم أن يَكُونَ في زَمَانِهِ - عليه الصلاة والسلام - [ أو بَعْدَهُ أنْبياء ] . وأمَّا من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ ؛ فلأن ما قَبْلَ الفَاءِ [ يُطيعُونَه ، وهذا غَيْر ممْكِن ؛ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } وقوله ] - عليه السلام - : " ولا نَبِيّ بَعْدِي " الوَاقِعَة جَوابَاً للشَّرْطِ لا يعمل فيما بَعْدَهَا ، لو قُلْت ، إن تَضْرِب يَقُم عَمْرو وزَيْداً لم يَجُزْ : وهل هذه الأوْصَاف الأرْبَعة لِصِنْفٍ واحدٍ أو لأصنَافٍ مختلفة ؟ قولان . فصل في تفسير المراد بالنبي والصديق والشهيد قيل : المُرَاد بالنَّبِيِّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء والصَّالِحِين : صِنْفٌ واحد من النَّاس ، وقيل : المراد أصْنَاف مُخْتَلِفَة ؛ لأن المَعْطُوف يَجبُ أن يكُون مُغَايِراً للمعْطُوف عَلَيْهِ ، وقيل : الاخْتِلاَف في الأصْنَافِ الثَّلاثة غير النَّبِيِّين ، فالصِّدِّيقُون هُمْ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيق : هو اسمٌ للمُبَالِغِ في الصِّدْقِ ، ومن عَادَته الصِّدْقُ . وقيل : الصِّدِّيق : هو اسمٌ لمن سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ، [ وعلى هذا فأبُو بكر أوْلَى الخَلق بهذا الاسْم ؛ لأنَّهُ أول من سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ] ؛ واشْتَهَرَت الرِّوَاية بذلك ، وكان عَلَيَّ صَغِيراً واتَّفَقُوا على أنَّ أبا بَكْر لمَّا آمَنَ ، جَاءَ بَعْدَ ذلك بِمُدَّة قَلِيلَة بِعُثْمَان بن عَفَّان - رضي الله عنه - ، وطَلْحَة بن الزُّبَيْرِ ، وسَعْد بن أبي وقَّاص ، وعُثْمَان بن مَظْعُون - رضي الله عنهم - حتى أسْلَمُوا ، فكان إسْلامُه سَبَباً لاقْتِدَاء هؤلاء الأكَابِرِ بِهِ ؛ فثبت أنَّه - رضوان اللَّه عَلَيْه - كان أسْبَق النَّاس إسلاماً ، وإن كان إسلامُه صَار سَبَباً لاقْتِدَاء الصَّحَابَةِ في ذَلِكَ ، فَكَانَ أحَقَّ الأمَّة بهذا الاسْم أبو بكر ، وإذا كان كَذَلِك ، كان أفْضَل الخَلْقِ بعد الرَّسُول [ عليه الصلاة والسلام ] ، وجَاهَد في إسْلامِ أعْيَان الصَّحَابةِ - رضي الله عنهم - في أوّل الإسْلام ، حين كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في غَايَةِ الضَّعْفِ ، وَعَلَيٌّ - رضي الله عنه - إنما جاهَد يَوْمَ أحُدٍ ويَوْمَ الأحْزَابِ ، وكان الإسْلامُ قَوِيَّاً ، والجهاد وَقْتَ الضَّعْفِ أفْضَلَ من الجِهَادِ وقت القُوَّة ؛ لقوله - تعالى - : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [ الحديد : 10 ] ، ودلَّ تَفْسِير الصِّدِّيق بما ذَكَرْنَا ، على أنَّهُ لا مَرْتَبَةَ بعْد النُّبُوَّة [ أشْرَف ] في الفَضْلِ إلا الصِّدِّيق ، فإنه أينما ذُكِر النَّبِيُّ والصِّدِّيق لَمْ يُجْعَل بينهما وَاسِطَةِ ، قال - تعالى - في صفة اسْماعِيل : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [ مريم : 54 ] ، وفي صِفَةِ إدْرِيس : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } [ مريم : 41 ] ، وقال هُنَا ، { مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ } وقال : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ، فلم يجْعَل بَيْنَهُمَا وَاسِطَة ، وقد وفَّقَ الله الأمَّة التِي هي خَيْر أمَّةِ ، حتى جَعَلُوا الإمام بعد الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أبا بَكْر على سبيل الإجْمَاع ، ولما تُوُفي - رضي الله عنه - دُفِنَ إلى جَنْبِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهذا دَليلٌ على أنَّ اللَّهَ - تعالى - رفع الواسِطَة بين النَّبِيِّين والصِّدِّيقين . وأمَّا " الشهداء " قيل : هُمُ الذين استشهدُوا يوم أُحُد ، وقيل : الَّذِين استشهدُوا في سَبيل اللَّه . وقال عكرمة - رضي الله عنه - : النَّبِيُّون هَهُنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيقُون أبُو بكر ، والشُّهَدَاء ، عُمَر وعُثْمَان وعَلِيّ ، والصَّالِحُون : سائر الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم [ أجْمَعِين ] . قال ابن الخطيب : لا يجُوزُ أن تكون الشَّهَادَةُ مُقَيَّدة بكون الإنْسَانِ مَقْتُول الكَافِر ؛ [ لأن مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَة عَظيِمة في الدِّين ، وكون الإنْسَان مَقْتُول الكَافِر ] ليس زيَادة شَرَفٍ ، لأنّ هذا القَتْل قد يَحْصُلُ في الفُسَّاق ، وفِيمَن لا مَنْزِلَة له عِنْدَ اللَّه . وأيضاً فإن المُؤمِن قد يَقُول : اللَّهُم ارْزُقْنِي الشَّهَادَة فلو كانت الشَّهَادَةُ عِبَارَة عن قَتْلِ الكَافِرِ إيَّاه ، لكَان قد طَلَبَ من اللَّه ذَلِكَ القَتْل ، وهو غَيْر جَائِزٍ ؛ لأنَّ صُدُور [ ذلك ] القَتْلِ من الكَافِرِ كُفْرٌ ، فَكَيْفَ يَجُوز أن يَطْلُب من الله ما هو كُفْرٌ ، وأيضاً قال - عليه الصلاة والسلام - : " المَبْطُونُ شَهِيدٌ ، والغَرِيقُ شَهِيدٌ " فَعَلِمْنَا أن الشَّهَادَةَ لَيْسَت عِبَارَة عن القَتْل ، بل نَقُول : الشَّهيدُ : " فَعِيلٌ " بمعنى " الفاعِل " ، وهو الَّذي يَشْهَدُ بِصِحَّة دِيِن اللَّهِ تارةً بالحُجَّة والبَيَان ، وأخْرَى بالسَّيْف والسِّنَان ، فالشُّهَدَاءُ هم القَائِمُون بالقِسْطِ ، وهم الَّذِين ذَكَرَهُم اللَّه - تعالى - في قوله : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [ آل عمران : 18 ] ويُقَال للمقتُول في سَبِيلِ الله : شَهِيدٌ ؛ من حَيْثُ إنَّه بذل نَفْسَهُ في نُصْرَة دِين الله ، وشَهَادَتهِ له بأنَّه هو الحَقُّ ، وما سِوَاهُ هو البَاطِل . وأمّا الصَّالِحُون : فقد تَقَدَّم قول عِكْرِمَة : إنهم بَقِيَّة الصحابة وقيل : الصَّالِحُ من كان صَالِحاً في اعْتِقَادِه وفي علمه . قوله : { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } في نصب رَفيقاً قَوْلان : أحدُهُمَا : أنه تَمْيِيزٌ . والثاني : أنه حَالٌ ، وعلى تَقْدِير كَوْنِهِ تَمْييزاً ، فيه احْتِمَالاَن : أحدهما : أن يكون مَنْقُولاً من الفَاعِلِيَّة ، وتَقْديره : وَحَسُن رَفيِقُ أولَئِك ، فالرَّفِيقُ على هَذا هذا غير المُمَيَّز ، ولا يجُوزُ دُخُولُ " مِنْ " عليه . والثاني : ألاَّّ يكون مَنْقُولاً ، فيكون نَفْسُ المُمَيَّز ، وتدخل عليه " مِنْ " ، وإنَّمَا أتَى به هُنَا مفرداً ؛ لأحَد مَعْنَيَيْن : إما لأن الرَّفِيق كالخَلِيطِ والصَّدِيقِ والرَّسُولِ والبريد ، تذهب به العَرَب إلى الوَاحِدِ والمُثَنَّى والمَجْمُوع ؛ قال - تعالى - : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] وهذا إنَّما يَجُوز في الاسْم الّذي يكُون صِفَةً ، أمَّا إذا كَانَ اسماً مُصَرَّحاً كرَجُلِ وامْرَأة لم يَجْزْ ، وجوَّز الزَّجَّاج ذَلِك في الاسْمِ أيْضاً ، وزعم أنه مَذْهَب سِيبَويْه . والمعنى الثَّاني : أن يكون اكْتَفَى بالوَاحِدِ عن الجَمْعِ لفهم المَعْنَى ، وحَسَّن ذَلِكَ كَوْنه فَاصِلة ، ويَجُوز في " أولئك " أن يكون إشَارَة إلى [ النبيين ومن بَعْدَهُم ، وأن يكُون إشارَةً إلى ] مَنْ يُطِع الله وِرسُوله ، وإنما جُمِعَ على مَعْنَاهَا ؛ كقوله [ تعالى ] : { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] وعلى هذا فَيُحْتَمَل أن يُقال : إنه رَاعَى لَفْظُ [ " مَنْ " ] فأفْرَد في قوله : " رفيقاً " ، ومَعْنَاها فجمع في قوله : " أولئك " إلا أن البَدَاءة في ذلك بالحَمْل على اللَّفْظِ أحسن ، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فِيهَا بين الحَمْل على اللَّفْظِ في " يَطِعْ " ثم على المَعْنَى في " أولئك " والجمهُور على فتح الحَاءِ وضمّ السّين من " حَسُنَ " . وقرأ أبو السَّمَّال : بفتحها وسُكُون السِّين تَخْفِيفَاً ، نحو : عَضْد في : عَضُد ، وهي لُغَةُ تَمِيم ، ويَجُوز " حُسْ " ، بضم الحَاءِ وسُكُون السين ، كأنهم نَقَلُوا حركة العَيْنِ إلى الفَاءِ بعد سَلْبِهَا حَرَكَتِها ، وهذه لُغَة بَعْضِ " قَيْس " ، وجعل الزَّمَخْشَرِيّ هذا من بَابِ التَّعَجُّبِّ ؛ فإنه قال : فيه معنى التَّعَجُّب ، كأنه قيل : وما أحْسَنُ أولَئِكَ رَفِيِقَاً ، ولاسْتِقْلاَلَه بمعنى التَّعَجُّب . وقُرئ : " وحَسْن " بسُكون السِّين ؛ يقول المتعجب : حَسْنَ الوَجْهِ وَجْهُك ، وحَسْنُ الوَجْه وجْهك بالفَتْح والضَّمِّ مع التَّسْكِين . قال أبو حَيَّان : وهو تَخْلِيط وتَرْكِيبُ مذْهب على مَذْهَبٍ ، فنقول اخْتَلَفُوا في فِعْلٍ المراد به المَدْح . فذهب [ الفارسي ] وأكثر النُّحَاةِ : إلى جَوازِ إلْحَاقه ببَابِ " نِعْم " و " بِئْسَ " [ فقط ، فلا يكُون فَاعِلُهِ إلا مَا يكُون فَاعِلاً لَهُمَا . وذهب الأخْفَش والمُبَرِّد إلى جَواز إلْحَاقِه بِبَابِ " نَعْمَ " و " بِئْسَ " ] ، فيُجْعَل فَاعِله كَفَاعِلَهمَا ، وذلك إذا [ لم ] يَدْخُلُه مَعْنَى التَّعَجُّب [ وإلى جَوَازَ إلْحَاقِه بفِعْل التَّعَجُّب ] فلا يجري مُجْرَى " نعم " و " بِئْس " في الفَاعِل ، ولا في بَقِيَّة أحْكَامِهما ، فَتَقُول : لَضَرُبَتْ يدك ولضرُبَت اليَدُ ، فأخذ التَّعَجُّبَ من مَذْهَب الأخْفَش ، والتمثيل من مَذْهَب الفارسيّ ، فلم يَتَّبع مَذْهَباً من المَذْهَبَيْن ، وأما جَعْله [ التَّسْكِين ] والنَّقْل دلِيلاً على كَوْنِهِ مُسْتَقِلاً بالتَّعَجُّب ، فغير مُسَلَّم ؛ لأن الفَرَّاء حَكَى في ذلك لُغَةً في غير مَا يُرَادُ به التَّعَجُّب . و " الرَّفِيقُ " في اللُّغَة مأخُوذ من الرِّفْق ، وهو لينُ الجَانِبِ ولطافة الفِعْل ، وصَاحِبه رَفِيقٌ ، ثم الصَّاحِبُ يسمى رَفِيقاً ؛ لارْتفَاقِكَ به وبِصُحْبَتِه ، ومن هذا قِيل للجَمَاعة في السَّفَر : رُفْقَة ؛ لارتفاق بَعْضِهِم بِبَعْض ، والمَعْنَى : أن هَؤلاَءِ رُفَقَاء في الجَنَّة . " روى أنَس ؛ أن رَجُلاً قال يَا رَسُولَ اللَّهِ : " الرَّجُل يُحبُّ قَوْماً ولَمَّا يَلْحَقْ بِهِم " قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ " . وعن أنَس بن مَالِك قال : " قال رَجُل : يا رسُولَ الله مَتَى السَّاعة ؟ قالَ ومَا أعْدَدْتَ لَهَا ؛ فلم يَذْكُر كَثيراً إلا أنَّهُ يُحِبُّ الله ورسُوله . قال : فأنْتَ مع مَنْ أحْبَبْت " . قوله : { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ } " ذَلِكَ " مُبْتَدأ ، وفي الخَبَر وَجْهَان : أحدهما : أنه " الفضل " والجَار والمَجْرُور في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ، والعَامِلُ فيها مَعْنَى الإشَارَة . والثاني : أنه الجَارُّ ، و " الفضل " صِفَة لاسْم الإشَارَة ، ويجوز أن يكُون " الفضل " والجار بَعْدَه خَبَرَيْن [ لـ " ذَلِك " ] على رَأي من يجيزُه . فصل : في دفع شُبه المعتزلة القائلين بوجوب الثواب " ذلك " [ اسم ] إشَارَة إلى ما تَقَدَّم ذكْرُه من الثَّوَابِ ، وقد حكم عليه بأنَّه فَضْل من اللَّهِ ، وهذا يَدُلُّ على أن الثواب غير وَاجِبٍ على اللَّهِ - تعالى - ، وَيَدُلُّ عليه من جِهَة العَقْلِ أيْضاً وُجُوه : أحدها : أن القٌدْرَة على الطَّاعَةِ إن كَانَت لا تَصْلُح إلا للطَّاعَةِ ، فَخَالِقُ تلك القُدْرَةِ هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعَة ، فلا يَكُون فعْلُه مُوجباً شَيْئاً ، وإن كانت صالحة للمَعْصِيَة أيْضاً ، لم يترجَّحْ جَانِب الطَّاعة [ للَّه ] على جَانِب المَعْصِيَة إلا بِخَلْقِ الدَّاعِي إلى الطَّاعَة ، ويصِيرُ مَجْمُوع القُدْرَةِ والدَّاعِي موجِباً للفِعْل ، فخالق هذا المَجْمُوعِ ، هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعة ، فلا يَكُون فِعْلُه مُوجِباً عليه شَيْئاً . وثانيها : أنَّ نِعم اللَّه على العَبْدِ لا تُحْصَى ، وهي مُوجِبةٌ للطَّاعَة والشُّكْر ، فإذا وَقَعَتْ في مُقَابَلَة النِّعَم السَّالِفَة ، امتنع كَوْنُها مُوجِبَة للثَّوَابِ في المُسْتَقْبَل . وثالثها : أن الوُجُوب يَسْتَلْزِم [ اسْتِحْقاق ] الذَّمِّ عند التَّرْك ، وهذا الاسْتِحْقَاقُ يُنَافِي الإلَهِيَّة ، فيمتنع حُصُولُه في حَقِّ الإلَه - [ سبحانه وتعالى ] - ؛ فَثَبَت أنَّ ظاهر الآيَة كَمَا دَلَّ على أنَّ الثَّواب فَضْل من اللَّه - تعالى - فالبَرَاهيِنُ العقْلِيّة القَاطِعَة دَالَّةٌ على ذَلِكَ أيْضَاً . فصل يحتمل أن يكُون معنى الآية : ذَلِكَ الثَّوَاب لِكَمَالِ درجَتِه هو الفَضْلُ من اللَّه ، وأن ما سِوَاهُ ليس بِشَيء ، ويُحْتَمَلُ أن يكوُن ذلك الفَضْلُ المَذْكُور والثَّوَاب المَذكُور هو من اللَّهِ لا مِنْ غَيْرِه . { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ } أي : بثَوابِ الآخِرَة ، وقيل : لمن أطاع الله ورسوله وأحبه وفيه بَيَان أنَّهُم لم ينالوا تلك الدَّرَجَة بطَاعَتِهم ، إنَّما نالوها بِفَضْلِ اللَّه - عز وجل - . روى أبو هُريرة - رضي الله عنه - . قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " قَاربُوا وسَدِّدُوا واعْلَمُوا أنَّه لا يَنْجُو أحَدٌ مِنْكُم بِعَمَلِهِ " قالُوا : ولا أنْتَ يا رسُول اللَّه ؟ قال : " ولا أنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَني اللَّه بِرَحْمَةٍ منه وفَضْل " .