Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 66-68)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيةِ مُتَّصِلَة بما تقدَّم من المُنَافِقِين ، وترغيب لَهُم في تَرْكِ النِّفَاقِ ، والمَعْنَى : أنَّا لو شَدَّدْنا التكلِيف على النَّاسِ ؛ نحو أن نأمُرَهُم بالقَتْلِ ، والخُرُوج عن الأوْطَانِ ، لَصَعُبَ ذلك عليهم ولما فَعَلَهُ إلا قَلِيلٌ ، وحينئذٍ يظهر كُفْرُهُم ، فلم نَفْعَلْ ذلك رَحْمَةً مِنَّا على عِبَادِنا ، بل اكْتَفَيْنَا بتكْلِيفِهِم في الأمُور السَّهْلَة ، فَلْيَقْبَلُوهَا ولْيَترُكُوا التَّمرُّد . نزلت في ثَابت بن قَيْس بن شِمَاس ، نَاظَر يهُودِيَّا . فقال اليَهُودِيّ : إن مُوسَى أمَرَنا بقَتْلِ أنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا ذَلِك ، ومحمد يأمُرُكم بالقِتَال فتكْرَهُونَهُ . فقال ثابت بن قَيْس : لو أنَّ مُحَمَّداً أمَرَنِي بقَتْل نفسي ، لفَعَلْت ذلك فنزلت الآيةُ ، وهو من القَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ . وقال الحسن ومُقاتِل : لماّ نَزَلَت هذه الآيةُ ، " قال عُمَر ، وعمَّار بن يَاسِر ، وعبد الله بن مَسْعُود ، وناسٌ من أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليلُ : واللَّه لَوْ أمَرَنَا لفعلنا ، فالحَمْدُ للَّه الذي عَافَانا اللَّه فبلغ ذَلِك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال " إنَّ مِنْ أمَّتِي لَرِجَالاً ، الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِهِم مِنَ الجِبَالِ الرَّواسِي " " . والضَّمِيرُ في قوله : { كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان : الأوّل : قال ابن عبَّاسٍ ومُجَاهِد : إنه عَائِد إلى المُنَافِقين لأنه - تعالى - كَتَبَ على بَنِي إسرائيلَ أن يَقْتُلوا أنْفُسَهم ، وَكَتَب على المُهَاجِرِين أن يَخْرُجُوا من ديارِهم ، فقال : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا } على هؤلاءِ المُنَافِقِين القَتْل والخُرُوجَ ، ما فَعلهُ إلا قَلِيلٌ ريَاءً وسُمْعَة ، وهذا اخْتِيَار الأصَمِّ والقَفَّال . [ القول ] الثاني : المراد : لو كَتَب اللَّه على النَّاسِ ما ذَكَر ، لم يَفْعَلْه إلا قَلِيلٌ منهم ، فَيَدْخُل فيه المُؤمِنُ والمُنَافِق . قوله : { أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ } " أن " فيها وجهان : أحدهما : أنها المُفَسِّرة ؛ لأنَّها أتت بعد ما هُو بمعنى القَوْلِ لا حَرُوفهِ ، وهو أظْهَر . الثاني : أنها مَصْدَريَّة ، وما بَعْدَها من فِعْل الأمْرِ صِلَتُها ، وفيه إشْكَالٌ ؛ من حيث إنَّه إذا سُبك منها ومِمَّا بَعْدَها مَصْدرٌ ، فأتت للدَّلالةَ [ على الأمر ، ألا تَرَى أنَّك إذا قُلْتَ : كتَبْتُ إلَيْه أنْ قُمْ فيه من الدَّلالَةِ ] على طَلَبِ القِيَام بطريق الأمْرِ ، ما لا في قَوْلِك : كَتَبْتُ إليه القِيَام ، ولكنَّهمُ جَوَّزوُا ذلك واسْتَدَلُّوا بقولِهِم : كَتَبْتُ إليه بأن قُمْ . ووجه الدلالة : أن حَرْفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق . وقرأ أبو عمرو : بكسر نُونِ " أن " وضَمّ واو " أو " ، قال الزَّجَّاج : ولست أعرف لِفَصْل أبي عَمْروٍ بين هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ خَاصيَّة إلاّ أن يَكُون رِوَايَةً . وقال غيره : أمّا كَسْر النُّونِ ؛ فلأن الكَسْرَ هُو الأصْلُ في التِقَاء السَّاكِنَيْن ، وأما ضَمُّ الواو فللإتبَاعِ ؛ لأن الضَّمَّة في الواوِ أحسن ؛ لأنَّها تُشْبِه وَاوَ الضَّمِير ، نحو : { ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ } [ البقرة : 16 ] { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ } [ البقرة : 237 ] وكَسَرَهُمَا حَمْزَة وعَاصِم ؛ لالْتِقَاء السَّاكِنَيْن ، وضَمَّهُمَا ابن كَثِير ، ونَافِع [ وابن عامر ] والكسائي ؛ للاتبَاعِ فيهما . قوله { مَّا فَعَلُوهُ } . الهاء يُحْتَمَلُ أن تكُون ضمير مَصْدر { ٱقْتُلُوۤاْ } ، أو { ٱخْرُجُواْ } أي : ما فَعَلُوا القَتْل ؛ أو ما فَعَلُوا الخُرُوج . وقال فَخْر الدِّين الرَّازي : تعود إلى القَتْلِ والخُرُوج معاً ؛ لأنه الفِعْل جَنْسٌ وَاحِدٌ وإن اخْتَلَفَت ضُرُوبُه . قال شهاب الدِّين : وهذا بَعيدٌ لنُبُوّ الصِّنَاعة عَنْهُ ، وأجَازَ أبو البقاء أن يَعُود على المكْتُوب ويَدُلُّ عليه : { كَتَبْنَا } . قوله : " إلاَّ قليلٌ " رفْعُه من وَجْهَيْن : أحدهما : أنه بَدَلٌ من فَاعِل { فَعَلُوهُ } وهو المخْتَار على النَّصْبِ ؛ لأن الكلام غير مُوجِبٍ . الثاني : أنه مَعْطُوف على ذَلِكَ الضَّمِير المَرْفُوع ، و " إلاَّ " حَرْف عَطْفٍ ، وهذا رأي الكوفِيِّين . وقرأ ابن عامر وجَماعة : { إلاَّ قَلِيلاً } بالنَّصْب ، وكذا هُو في مَصَاحِفِ أهْل الشَّامِ ، ومصْحَف أنس بن مَالِكٍ ، وفيه وَجْهَان : أشهرهما : أنه نَصْبٌ على الاسْتِثْنَاء وإن كان الاخْتِيَار الرَّفع ؛ لأن المعنى موجُود [ معه كما هُو مَوْجُود ] مع النَّصْب ، ويزيد عليه بمُوَافَقَة اللَّفْظِ . والثَّاني : أنه صِفَةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديره : إلا فِعْلاً قليلاً ، قاله الزَّمَخْشَرِي وفيه نَظَرٌ ؛ إذ الظَّاهر أن " منهم " صِفَةٌ لـ { قَلِيلاً } ، ومَتَى حمل القَلِيل على غَيْر الأشْخَاصِ ، يقلق هذا الترْكِيب ؛ إذ لا فَائِدَة حينئذٍ في ذكر " منهم " . قال أبو علي الفَارِسي : الرَّفْع أقْيَس ، فإن مَعْنَى ما أتَى أحَدٌ إلا زَيْد ، [ وما أتَانِي إلا زَيْد ] واحِدٌ ؛ فكما اتَّفَقُوا في قَوْلِهِم : ما أتَاني إلا زَيْدٌ ، على الرَّفع ، وجب أن يكُون قَوْلهُم : ما أتَانِي أحَدٌ إلا زَيْدُ بِمَنْزِلَتِهِ . قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } تقدم الكَلاَم على نَظِيره ، و " ما " في { مَا يُوعَظُونَ } [ موصولة ] اسميَّة . والباء في : " بِهِ " يُحْتَمل أن تكُون المُعَدِّية دَخَلَتْ على الموعُوظ به [ والموعوظ به ] على هَذَا هو التَّكَالِيفُ من الأوَامِرِ والنَّوَاهِي ، وتُسَمَّى أوَامِر اللَّه [ تعالى ] ونَوَاهِيه مَوَاعِظ ؛ لأنها مقْتِرَنَةٌ بالوَعْد والوَعيد ، وأن تكون السَّبَبِيَّة ، والتقدير : ما يُوعَظُون بسببه أي : بسبب تَرْكِهِ ، ودلَّ على التَّرْكِ المحذوف قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } [ واسم " كان " ضمير عَائِدٌ على الفِعْل المفْهُومَ من قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } ] أي : لكَان فِعْل ما يُوعظون به ، و " خَيْراً " خبرها ، و " شَيئاً " تَمْييز لـ " أشَدَّ " ، والمعْنَى : أشَدّ تَحْقِيقاً وتَصْديقاً لإيمانهم . قوله : " وإذن " : حرف جَوَابٍ وجَزَاء ، وهل هَذَان المعْنَيَانِ لازمَان لها ، أو تكُون جَوَابَاً فَقَطْ ؟ قولان : الأوّل : قَوْل الشلوبين تَبَعاً لظَاهِر قول سيبَويْه . والثاني : قول الفَارِسيِّ ؛ فإذا قال القَائِلُ : أزُورُك غَدَا ، فقلت : إذْن أكرِمُكَ ، فهي عِنْدَهُ جَوَابٌ وجَزَاء ، وإذا قُلْتَ : إذن أظُنُّكَ صَادِقاً ، كانت حَرْف جَوَاب فَقَط ، وكأنه أخذ هَذَا من قرينَةِ الحَالِ ، وقد تقدَّم أنها من النَّواصِبِ للمُضَارع بِشُرُوطِ ذُكِرَت . وقال أبو البقاء : و " إذَنْ " جواب مُلْغَاة ، فظاهر هذه العِبَارَةِ موافِقٌ لقَوْل الفَارسِيِّ [ وفيه نَظَر ؛ لأن الفارسِيّ ] لا يقُول في مِثْل هذه الآية إنَّها جَوابٌ فَقَطْ ، وكَونهَا جَوَاباً يَحْتَاجُ إلى شيء مُقَدَّرٍ . قال الزَّمَخْشَرِيّ : " وإذن " - جواب لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ ؛ كأنه قيل : وماذَا يكُون لَهُمْ بعد التَّثْبِيتِ أيضاً ؟ فقيل : لو تَثَبَّتُوا لآتَيْنَاهُم ؛ لأن " إذَنْ " جوابٌ وجَزَاءٌ . و { مِّن لَّدُنَّـآ } : فيه وَجْهَان : أظهرهما : أنه مُتعلِّق [ بـ { وَءَاتَيْنَاهُمْ } . والثاني : أنه مُتَعَلِّق ] بمحْذُوفٍ ؛ لأنه حالٌ من " أجْراً " لأنَّه في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّمَت عليها . و " أجْراً " مَفْعُول ثانٍ لـ " ءَاتَيْنَاهُم " ، و { صِرَاطاً } مَفْعول ثانٍ لـ { لَهَدَيْنَاهُمْ } . فصل قال الجُبَّائِي : دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّه - تعالى - لمَّا لم يُكَلِّفْهُم ما يَثْقُلُ عَلَيْهم ، فبأن لا يَكَلِّفَهُم ما لا يُطِيقُونَ أوْلَى . والجواب : إنَّما لم يُكَلَّفُهم بهذه الأشْيَاء الشَّاقَّة ؛ لأنَّه لو كَلَّفَهُم بها لما فَعَلُوهَا ، ولو لم يَفْعلُوهَا ، لوقَعُوا في العَذَاب ، ثم إنَّه - تعالى - عَلِم من أبِي جَهْلٍ وأبِي لَهَبٍ عدم الإيمانِ ، وأنهم لا يسْتَفِيدُون من التَّكْلِيفِ إلاَّ العِقَاب الدَّائِم ، ومع ذلِك فإنَّهُ كَلَّفَهُم الإيمَان فلمَّ كان جَوَاباً عن هَذَا ، فهو جوابٌ عما ذكَرْت . فصل : دلالة الآية على عظم الآجر دلَّت هذه الآيةُ على عِظَمِ هذا الأجْرِ من وُجُوه : أحدُها : أنه ذَكَر نَفْسه بصيغة العَظَمَةِ ، وهو قوله : { لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ } والمُعْطِي الحكيم إذا ذكَر نَفْسَه ( باللَّفْظِ الدَّالِّ على ) العظمة ، وهو قوله : { وَءَاتَيْنَاهُم } عند الوَعْد بالعَطِيَّة - دلَّ على عِظَم تَِلْك العَطِيَّة . وثانيها : قوله : { مِّن لَّدُنَّـآ } هذا التَّخصيص يَدُلُّ على المُبَالَغَةِ ، كما في قوله : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] . وثالثها : أنه وَصَفَ الأجْرَ بكَوْنِهِ عَظِيماً ، والذي وَصَفَهُ أعْظَم العُظَمَاء بالعَظَمَةِ ، لا بد وأن يكُون في نِهَاية العِظَم ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " [ فيها ] ما لاَ عَيْنٌ رَأتْ ، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ ، ولا خَطَر على قَلْبِ بَشَر " . والمراد بـ " الصراط المستقيم " : هو الدِّين الحَقّ ؛ لقوله : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } . وقيل : الصِّرَاط هو الطَّريق من عرصة القيامة إلى الجَنَّة ؛ لأنه - تعالى - ذكَرَهُ بعد الثَّوابِ والأجْرِ ، وأمَّا الدِّين الحَقّ فهو مُتَقَدِّم على الثَّوَابِ والأجْرِ ، وصِرَاط القِيَامَةِ يكُون بعد اسْتِحْقَاق الأجْرِ ، فكان حَمْلُه عليه في هَذَا الموضِع أولى .