Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 77-77)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الكَلْبِي : " نزلت في عَبْد الرَّحْمن بن عَوْف الزُّهرِيِّ ، والمقدَادِ بن الأسْود الكندي ، وقدامة بن مَظْعُون الجُمَحِي ، وسَعْد بن أبِي وَقَّاصٍ ، وجَمَاعة كانوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْل أن يُهَاجِرُوا إلى المَدِينَةِ ، ويَلْقُون من المُشْرِكِين أذًى شَديداً ، فَيَشْكُون ذلك إلى الرَّسُول ، ويقولون : ائْذَن لَنَا في قِتَالِهِم ، ويقول لَهُم الرَّسُول : كُفُّوا أيْدِيَكُم ، فإني لَمْ أومَر بقتالهِمْ ، واشْتَغِلُوا بإقَامَة دينكُم من الصَّلاة والزَّكَاة ، فلمَّا هَاجَر رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينَةِ ، وأُمِرَ بقتالهم في وَقْعَة بَدْرٍ ، كرهه بَعْضُهم وشقَّ عَلَيْه ، " فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية . فَذَهَب بَعْضُهم إلى أنَّهَا نَزَلَت في المُؤمِنين ، واحتجُّوا : بأنَّ الَّذِين يَحْتَاج الرَّسُول إلى أن يَقُولَ لهم كَفُّوا عن القِتَال ، هُم الرَّاغِبُون في القِتَالِ ؛ وهم المُؤمِنُون . ويمكن الجوابُ عنه : بأنَّ المُنَافِقِين كانوا يُظْهِرُون أنَّهم مؤمِنُونَ ، وأنَّهم يريدُونَ قِتال الكُفَّار ، فلما أمر اللَّهُ بقتالِهم الكُفَّار ، أحجم المُنَافِقُون عَنْه ، وظهر مِنْهُم خِلاف ما كَانُوا يَقُولُونَهُ . وقيل : نزلت في المُنَافِقِين ، واحتجُّوا بأنَّ الله - تعالى - وَصَفَهم بأنَّهم { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } ، وهذا الوصف لا يَلِيقُ إلا بالمُنَافِقِ ؛ لأن المُؤمِن لا يَخَاف من النَّاسِ أشَدَّ من خوفِهِ من اللَّه ، وأيضاً قولهم : " ربنا لم كتبت علينا القتال " اعتراضٌ على اللَّه - تعالى - ، وذلك من صِفَة الكُفَّار والمُنَافِقِين ، وأيضاً قوله - تعالى - للرَّسُول : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } وهذا الكلام إنَّما يذكر لمن كانت رَغبتهُ في الدُّنْيَا أكْثَر من رَغْبَته في الآخِرة ، وذلك من صِفَاتِ المُنَافِقِين . وأجاب القَائِلُون بالقَوْل الأوَّل : بأن حُبَّ الحياة والنَّفْرة عن القَتْلِ من لَوَازِمِ الطَّبْع ؛ فهذه الخَشْيَة مَحْمُولة على هذا المَعْنَى ، وقولهم : " لِمَ كتبت علينا القتال " محمولة على التمَنِّي بتخفيف التَّكْلِيف ، لا على وَجْه إنْكَار [ لإيجَابِ ] اللَّه - تعالى - . وقوله [ - تعالى - ] : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } ذكره ليهَوِّن على القَلْبِ أمر هذه الحَيَاةِ ؛ لكي تزول عن قَلْبِه نَفْرَة القِتَالِ وحُبُّ الحَيَاة ، ويُقْدِمُون على الجِهَاد بقلب قَوِيٍّ ، لا لأجْل الإنْكَار . وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا رَاسِخين في العِلْم ، قالوه خوفاً وجُبْناً لا اعتقاداً ثم تابوا ، وأهْلُ الإيمان يتفاضَلُون في الإيمَانِ . وقيل : كانوا مُؤمنين ، فلما كُتِبَ [ عليهم ] ، أي : فرض عليْهِم القِتَال ، تلفقوا من الجُبْنِ ، وتخلَّفُوا عن الجِهَاد ، والأوْلى حَمْل الآية على المُنَافِقِين ، لأنه - تعالى - ذكر بَعْد هذه الآية قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] ولا شَكَّ أنَّ هذا من كَلاَم المُنَافِقِين . فصل دلَّت الآيَة على أن إيجَاب الصَّلاة والزَّكاة ، كان مُقَدَّماً على إيجَاب الجِهَادِ . قوله { إِذَا فَرِيقٌ } : " إذا " هنا فُجَائِيَّة ، وقد تقدَّم أن فيها ثلاثة مَذَاهِب : أحدُها - وهو الأصَحُّ : أنها ظَرْف مكان . والثَّاني : أنها زمان . والثَّالث : أنها حَرفٌ . قيل في " إذا " هَذِه : إنها فجَائِية مَكَانِيَّة ، وأنها جوابٌ لـ " لَمَّا " في قوله : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ } ، وعلى هَذَا فَفِيها وَجْهَان : أحدُهُما : أنها خَبَر مقدَّمٌ ، و " فريق " : مبتدأ ، و " منهم " : صفةٌ لـ " فَرِيقٌ " ، وكذلك " يَخْشَون " ، ويجُوزُ أن يكونَ " يَخْشَون " حالاً من " فريق " لاختصاصه بالوَصْفِ ، والتَّقْديرُ : " فبالحضرة فريق [ فهو ] كائن منهم خَاشُون أو خَاشِين " . والثاني : أن يكون " فريقٌ " مُبْتَدأ ، و " منهم " : صفته ، وهو المُسَوِّغُ للابْتِداء به ، و " يَخْشَوْن " : جملة خبريةٌ وهو العَامِلُ في " إذا " ، وعلى القَوْلِ الأوَّلِ : العَامِلُ فيها مَحْذُوفٌ على قَاعِدة الظُّرُوف الوَاقِعة خبراً . وقيل : إنَّها هنا ظَرْفُ زمانٍ ، وهذا فَاسِدٌ ؛ لأنها إذْ ذَاك لا بُدَّ لها من عَامِلٍ ، وعامِلُها إمَّا ما قَبْلَها ، وإمَّا ما بَعْدَها ، لا جائز أن يكُون ما قَبْلَها لأن ما قبلها وهو " كُتب " ماضٍ لفظاً ومعنى ، وهي للاسْتِقْبال ، فاستحال ذلك . فإن قيل : تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى " إذا " . قيل : لا يجُوز ذلك ؛ لأنه يصيرُ التقدير : فلمَّا كُتِب عَلَيْهم القِتَال في وَقْتِ خَشْيةِ فَرِيقٍ مِنْهُم ، وهذا يفتقرُ إلى جَوَابَ " لَمَّا " ولا جَوابَ لها ، ولا جَائزٌ أن يَكُونَ ما بَعْدها ؛ لأنَّ العَامِل فيها إذا كان بعدها ، كان جواباً لها ، ولا جَوابَ لها هُنَا ، وكان قد تَقَدَّم أوَّلَ البقرة أنَّ في " لَمَّا " قولين : قولَ سيبويه : إنَّها حَرْف وجوب لوُجُوب ، وقول الفَارِسي : إنها ظَرْفُ زمانٍ بِمَعْنى " حين " وتقدَّم الردُّ عليه ، بأنَّها أُجيبت بـ " مَا " النَّافِية وإذا الفُجَائِية ، وأنَّ ما بَعْدَها لا يَعْمَل فيما قَبْلَها ، فأغْنى عن إعادته ، ولا يجُوزُ أن يعمل ما يَلِيها فيها ؛ لأنه في مَحَلِّ خَفْض بالإضَافَةِ على زَعْمِه ، والمُضَافُ إليه لا يَعْمَل في المُضَافِ . وقد أجابَ بعضهم ، بأنَّ العامل فيها هنا مَعْنى " يخشون " ؛ كأنه قيل : جَزِعوا ، قال : " وجزعُوا هو العَامِلُ في " إذا " ، وهذا الآية مُشكلةٌ ؛ لأنَّ فيها ظَرْفَيْن : أحدُهما لما مَضَى ، والآخرُ لِما يُسْتَقْبَل " . قوله : " كخشية الله " فيه ثلاثةُ أوجه : أحَدُها - وهو المَشْهُور عند المُعْربين : أنها نَعْتُ مصدرٍ مَحْذُوفٍ ، أي : خشيةً كخَشْيَِة الله . والثاني : - وهو المُقَرَّر من مذهب سيبويه غيرَ مرة - : أنَّها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من ضَمِير الخَشْيَة المَحذُوف ، أي : يَخْشَوْنها النَّاسَ ، أي : يَخْشون الخَشْيَة الناس مشبهةً خَشْيَة الله . والثالث : أنَّها في مَحَلِ نصبٍ على الحال من الضمير في " يخشون " أي : يَخْشَون النَّاسَ مثلَ أهل خَشْيَة الله ، أي : مُشْبهين لأهل خَشْيَة الله أو أشدَّ خشية ، أي : أشدَّ خَشْيَةً من أهل خَشْيَة الله . و " أشدَّ " مَعْطُوف على الحَالِ ؛ قاله الزمخشري ، ثم قال : " فإنْ قُلْتَ : لِمَ عَدَلْتَ عن الظَّاهِر ، وهو كَوْنُه صِفة للمَصْدَر ولم تُقَدِّرْه : يَخْشون خَشْية مثل خَشْيَة الله ، بمعنى : مثل ما يَخْشَى الله . قلت : أبَى ذلك قوله : " وأشد خشية " ؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حُكْمٍ واحدٍ ، ولو قلت : " يخشون الناس أشد خشية " لم يكن إلا حَالاً من ضَمِير الفريقِ ، ولم ينتَصِب انتِصَابَ المَصْدَر ؛ لأنك لا تَقُول : " خَشِي فُلانٌ أشَدَّ خشيةً " فتنْصِبُ " خشية " وأنْتَ تريد المَصدر ، إنَّما تَقَول : " أشدَّ خَشْيةٍ " فتجرُّها ، وإذا نَصَبْتَها لم يكُن " أشدَّ خشيةً " إلا عِبَارةً عن الفاعل حالاً منه ، اللَّهُم إلا أن تجعل الخَشْيَة خَاشِيةً على حدِّ قولهم : " جَدَّ جَدُّه " فتزعم أنَّ مَعْنَاه : يخشون الناسَ خَشْيَةً مثل خشيةٍ أشدَّ خَشْيَة من خَشْيَة الله ، ويجُوز على هذا أن يكُون مَحَلُّ " أشدَّ " مَجْرُوراً ، عطفاً على " خشية الله " تريد : كَخَشْيَة الله ، أو كَخَشْيَةٍ أشدَّ منها " . انتهى . ويجوز نصبُ " خشيةً " على وجْه آخَر ؛ وهو العَطْف على مَحَلِّ الكَافِ ، وينتصب " أشدَّ " حينئذ على الحَالِ من " خَشْيَة " ؛ لأنه في الأصْلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، والأصل : يَخْشَوْن النَّاسَ مثلَ خَشْيَةِ الله أو خَشْيَةً أشدَّ منها ، فلا ينتصب " خَشيَة " تمييزاً ، حتى يَلْزَم منه ما ذكره الزَّمَخْشَرِي ويُعْتذر عنه ، وقد تقدَّم نحو من هذا عِنْد قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ] . والمصدرُ مُضَاف إلى المَفْعُول والفَاعِل مَحْذُوف ، أي : كَخشيتهم اللَّهَ . فإن قيل : ظاهر قوله : { أَوْ أَشَدَّ } يوهم الشَّكَّ ، وذلك محالٌ على الله - تعالى - . فالجواب : يحتمل الأوْجُه المذكورة في قوله { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ويجوز أن تكون للتنويع ، يعني : أن منهم من يخشاهم كخشية الله ، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله . قال ابْنُ الخَطِيب : وفي تأوِيله وُجُوهٌ : الأوَّل : المُراد مِنْه : الإبْهَام على المُخَاطَب ، بمعنى أنَّهم على أحَد الصِّفَتَيْن من المُسَاواة والشدّة ؛ وذلك لأنَّ كُلَّ خَوْفَيْن فأحدُهُما بالنِّسْبة إلى الآخَر : إمَّا أن يكُون مُسَاوِياً ، أو أنْقَص ، وأزيد ، فَبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن خَوْفَهم من النَّاس ليس أنْقَص من خَوْفِهم من الله - تعالى - ، بل إمَّا أن يكون مُسَاوِياً أوْ أزْيَد ، وذلك لا يُوجِب كَوْنه - تعالى - شاكَّا ، بل يُوجِب إبْقاء الإبْهَام في هَذَيْن القِسْمَيْن على المُخَاطَب . والثاني : أن يكون " أو " بمعنى الوَاوِ ، والتَّقْدِير : يخْشَوْنهم كَخَشْيَة اللَّه وأشَد خشية ، ولَيْس بَيْن هذيْن القِسْمَيْن مُنَافَاة ؛ لأنَّ من هُو أشَدّ خَشْية ، فَمَعَه من الخشية مِثْل خَشْية اللَّه [ وزيادة ] . الثَّالث : أن هذا نظير قوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] يعني : أنَّ من يُبْصِرهم يَقُول هذا الكلام ؛ فكذا ههنا . قوله : { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا } أي : هَلاَّ أخرْتَنَا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ ، يعني : الموْت أي : هلاّ ترَكْتنا حَتَّى نَمُوت بآجَالِنَا ، وهذا كالعِلَّة لكَرَاهَتِهم إيجَاب القِتَالِ عليْهم ، ثم إنَّه - تعالى - أجَابَهُم بقوله : قلْ يا مُحَمَّد : { مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } أي : مَنْفعَتُها والاستِمْتَاعُ بها قَلِيلٌ ، " والآخرة " أي : وثواب الآخِرة خَيْر وأفْضَل لمن اتَّقَى الشِّرْك ومَعْصِية الرَّسُول ، وإنَّما كانت الآخِرَة خَيْرٌ ؛ لأن نِعَم الدُّنْيَا قليلة [ فَانِيَةٌ ] ونعم الآخِرَة كَثِيرَة بَاقِيَةٌ ونِعَم الدُّنيا مُنْقَطِعة ، ونِعَم الآخِرَة مؤبَّدة ، ونِعَم الدُّنْيَا مشوبَةٌ بالهُمُومِ والمَكَاره ، ونِعَم الآخِرَة صَافية من الكُدُورَات . روى المستورد بن شَدَّادِ ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا الدُّنْيَا في الآخِرَة إلاَّ مِثْل مَا يَجْعَل أحَدُكُم أصْبُعَهُ في اليَمِّ ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِع " . ثم قال : { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } . قرأ ابن كَثيرٍ ، وأبُو جعفَر ، وحمْزَة ، والكسَائِي : باليَاء رُجوعاً إلى قَولِه - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ } والباقُون : بتاء الخِطَاب ؛ كقوله : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } والمعنى { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] ، أي : لا يُنْقَصُون من ثَوَابِ أعْمَالِهِم مثل فَتِيل النَّوَاةِ ، وهو ما تفتله بيدِكَ ثم تُلْقِيه احْتِقَاراً .