Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 78-78)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما حَكَى عنهم أنَّهم يَخْشَون النَّاسَ عند فَرْضِ القِتَالِ بَكَّتهمُ هَهُنَا ؛ فقال : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } أي : لا خلاص لكُم من المَوْت ، والجِهَاد مَوْتٌ يستعقبه سَعَادة أخْرَوِيَّة ، فإذا كان لا بُدَّ من المَوْتِ ، فبأن يَقَع على وَجْهٍ يستَعْقِب السَّعَادة الأبَدِيَّة ، أوْلى من ألاَّ يكُون كَذَلِكَ . قوله : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } : " أين " اسْم شَرْط يجزم فِعْلَين ، و " ما " زائدة على سَبِيل الجَوَازِ مؤكِّدة لها ، و " أين " ظَرْف مَكَان ، و " تكونوا " مَجْزومٌ بها ، و " يدرككم " : جوابُه . والجمهُور على جزمه ؛ لأنه جواب الشرط ، وطلحة بن سليمان : " يدركُكم " برفعه ، فخرَّجه المُبَرِّد ، على حَذْفِ الفَاءِ ، أي : فيدرككم المَوْت . ومثلُه قول الآخر : [ الرجز ] @ 1831 - يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ @@ وهذا تَخْرِيج المُبَرِّد ، وسيبويه يَزْعم أنه ليْس بجَوَابٍ ، إنَّما هو دالٌّ على الجَوَاب والنِّيةُ به التقديمُ . وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر : وهو أنْ يكُون " يَصْرَعُ " المرفُوعُ خبراً لـ " إنك " ، والشَّرطُ معترِضٌ بينهما ، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله : " إنك تصرع " ؛ كقوله : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم ؛ فإنه قال : ويجُوز أن يُقال : حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ " أينما تَكُونوا " وهو " أينما كُنْتُم " كما حُمِل على ما يقع موقع " ليسوا مصلحين " وهو " ليسوا بمصلحين " فرفع كما رفع زهير " ولا ناعب " : [ البسيط ] @ 1832 - … يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ @@ وهو قولُ نحويّ سِيبيّ ، يعني منسوب لسيبويه ، فكأنه قال : " أينما كنتم " ، وفعلُ الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ في جوابه المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير : [ البسيط ] @ 1833 - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ يَقُولُ … @@ وفي رَفْعِهِ الوَجْهَان المَذْكُوران عن سيبويه والمُبرِّد . ورَدَّ عليه أبو حَيّان : بأن العطفَ على التوَهُّم لا يَنْقَاس ؛ ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حَذْفِ جواب الشَّرْط ، ولا يُحْذَفُ إلاَّ إذا كان فِعْل الشَّرْط ماضياً ، لو قُلْت : " أنت ظَالمٌ إنْ تفعل " لم يَجُز . وهذا - كَمَا رَأيتَ - مضارعٌ ، وفي هذا الردِّ نَظَرٌ لا يَخْفَى . " ولو كنتم " قالوا : هي بِمَعْنى : " إنْ " وجوابُها مَحْذُوف ، أي : لأدْرَكَكُمْ ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلاً غَرِيباً عن عِنْدَ نَفْسِه ، فقال : " ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : لا تُنْقَصُون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها ، ثم ابتدأ بِقَوله : { يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } ، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } انتهى . ورَدَّ عليه أبو حيَّان ، فقال : هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية : أمَّا من حَيْثُ المعنى : فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلاً بقوله : { لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِراً إنما هو في الآخرة ؛ لقوله - تعالى - : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } . وأمَّا من حَيْث الصِّنَاعةُ النَّحويّة : فإنَّ ظاهر كلامه يَدُلُّ على أنَّ " أينما تكونوا " متعلِّقٌ بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بمعنى ما فسّره ، وهذا لا يجُوزُ ؛ لأن أسْمَاءَ الشَّرْط لها صَدْرُ الكَلاَم ، فلا يَتَقَدَّم عَامِلُها عليها ، فإنْ وَرَد مثلُ : " اضْربْ زيداً متى جَاءَ " قُدِّر له عَاملٌ يدلُّ عليه " اضرب " لا نفسُ " اضْرِب " المتقدِّم . فإن قيل : فكذلك يُقَدِّر الزَّمَخْشَرِيّ عاملاً يدلُّ عليه { وَلاَ تُظْلَمُونَ } تقديره : " أينما تكونوا فلا تظلمون " فحذف " فلا تظلمون " ، لدلالةِ ما قبله عليه ، فيخلُصُ من الإشْكَال المَذْكُور . قيل : لا يُمْكِن ذلك ؛ لأنه حينئذ يُحذفُ جَواب الشَّرط وفعلُ الشرط مُضَارعٌ ، وقد تقدم أنَّه لا يَكُون إلا ماضياً . وفي هذا الردِّ نظرٌ ؛ لأنه أرادَ تَفْسِير المَعْنَى . قوله : ولا يناسب أن يكون مُتَّصِلاَ بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } مَمْنُوعٌ ، بل هُو مُنَاسِب ، وقد أوضَحَهُ الزَّمَخْشَرِي بما تقدَّم أحْسَنَ إيضَاحٍ . والجُمْلَة الامتنَاعِيَّة في مَحَلِّ نصبٍ على الحَالِ ، أي : أينما تَكُونوا من الأمكنة ، يدركْكم المَوْت ، ولو كانت حَالُكم أنَّكم في هذه البُرُوج ، فيُفْهَمُ أن إدراكه لهم في غَيْرِها بطريق الأوْلى والأخْرى ، وقريبٌ منه : " أعْطُوا السَّائِل ولو على فَرَسٍ " . والجملةُ الشَّرطِيَّة تحتمل وَجْهَيْن : أحدهما : أنها لا مَحَلَّ لها من الإعراب ؛ لأنها استِئْنَافُ إخبارٍ ؛ اخبر - تعالى - أنَّه لا يفُوتُ الموتَ أحَدٌ ، ومنه قولُ زُهَيْر : [ الطويل ] @ 1834 - وَمَنْ هَابَ أسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ @@ والثَّاني : أنها في مَحَلِّ نَصبٍ بالقَوْل قَبْلَها أي : قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ، وقُلْ أيضاً : أينما تَكُونُوا . والجُمْهُور على " مشيدة " بفتح الياء اسم مَفْعُول . ونعيم بن ميْسَرة بِكَسْرِها ، نسَبَ الفعلَ إليها مَجَازاً ؛ كقولهم : " قَصِيدَةٌ شَاعِرَة " ، والموْصُوفُ بذلك أهْلُها ، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مُبَالغةً في الوَصْفِ . والبُرُوج : الحُصُونُ مَأخُوذةٌ من " التَّبرُّج " وهو الإظْهَارُ ، ومنه : { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ } ، والبَرَجُ في العين : سَعَتُها ، ومنه قولُ ذي الرُّمَّة : [ البسيط ] @ 1835 - بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ كَأنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ @@ وقولُهُم : " ثَوْبٌ مُبَرَّجٌ " أي : عليه صُورُ البُرُوج ؛ كقولهم : " مِرْطٌ مُرَجَّل " أي : عليه صُورُ الرِّجَال ، يروى بالجيم والحاء ، والمشيَّدة : المَصْنُوعة بالشِّيدِ ؛ وهو الجِصُّ ، ويقال : " شَادَ البِنَاء وشيَّدَهُ " كَرَّر العَيْن للتَّكْثِير ؛ ومن مجيء " شاد " قولُ الأسود : [ الخفيف ] @ 1836 - شَادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَهُ كِلْـ ـسَاً فَِلِلطَّيْرِ فِي ذَرَاهُ وُكُورُ @@ ويقال : " أشاد " أيْضاً ، فيكون فَعَل وأفْعَل بِمَعْنًى . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : شاد القَصْرَ إذا رَفَعَهُ أو طَلاَه بالشِّيد ، وهو الجِصُّ وهذا قَوْل عِكْرمَة ، وقال قتادة [ مَعْنَاه : ] في قُصُورٍ محصَّنةٍ ، وقال السُّدِّيُّ في بُرُوجِ في سَماءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّة ، وهي بُرُوج الفلك الاثْنَي عشر ، وهذا القَوْل مَحْكِيٌّ عن مَالِك ، ومعنى مشيدة ، [ أي ] مادّة من الرَّفْع ؛ وهي الكَوَاكِبُ العِظَام . وقيل : للكَواكِب : بُرُوجٌ ، لظُهُورِها من بَرِجَ يَبْرِج إذا ظَهَر وارْتَفَع ، ومِنْهُ : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } [ الأحزاب : 33 ] . وخلقها اللَّه - تعالى - في مَنَازِل للشَّمْس والقَمَر ، وقدّرَه فِيهَا ، ورتَّب الأزمِنَة عَلَيْهَا . قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } نزلت في المُنَافِقينَ واليَهُود ؛ وذلك أنَّهم قَالُوا لما قَدِم رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدِينَةَ : ما زلنا نَعْرِف النَّقْصَ في ثِمَارِنَا ومَزَارِعِنَا مذ قِدَم هَذا الرَّجُل وأصْحَابهُ . قال اللَّه - تعالى - " وإن تصبهم " يعني : اليهود " حسنة " أي : خصب ورُخص في السِّعْر ، { يقولوا هذه من عند الله } لنا { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يعني : الجَدْب وغَلاَء الأسْعَار ، " يقولوا هذه من عندك " أي : من شُؤْم محمَّدٍ وأصْحَابه ، وكَيْفِيَّة النَّظم : أنَّه - تعالى - لما حَكَى [ عنهم ] كونهم [ متثاقلين عن الجهاد خائفين من الموت راغبين في متاع الدنيا ، حكى عنهم ] في هَذِه الآية خَصْلَة أخْرَى أقبَح من الأُولى . وفي النَّظْم وَجْه آخَر ؛ وهو أنَّ الخَائِفِين من المَوْت ، المُتَثَاقِلِين في الجِهَادِ من عَادَتهِم أنَّهم إذا جَاهَدُوا وقَاتَلُوا ، فإن أصَابُوا ظَفَراً أو غَنِيمةً ، قالوا : هَذِه من عِنْد اللَّه ، وإن أصَابَهُم مَكْرُوه ، قالوا : هذه من شُؤْمِ مُصَاحَبة محمَّد صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا يكُون المُرَادُ بـ " الحسنة " : الظفر والغَنِيمَة يوم بَدْر ، وبـ " السيئة " : القَتْل والهَزِيمة يوم أُحُد ، وهذا نَظير قَوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] . قال القاضي : القول بأن الحَسَنَة هي الخصب ، وأن السَّيِّئَة هي الغلاء ، [ هذا ] هو المعتبر ، لأن إضافة الخصب والغلاء وكثرة النِّعم وقلَّتِها إلى اللَّه جَائِزَةٌ وأمَّا إضافة النَّصْر والهزيمَةِ إلى اللَّه - تعالى - ، فغير جَائِزة ، [ لأن السَّيئة إذا كانت بِمَعْنَى الهَزِيمَة والقَتْل ، لم يَجز إضَافَتُها إلى اللَّه - تعالى - ، وهَذَا على مَذْهَبِه ] أمَّا على مَذْهَب أهْل السُّنَّة ، فالكل بِقَضَاءِ الله وقدَرِه . فصل في تفسير الحسنة والسيئة اعلم أن السَّيِّئَة تَقَع على البَلِيَّة والمَعْصِيَة ، والحَسَنة على النِّعْمَة والطَّاعَة ؛ قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] وقال - تعالى - : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] ، وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : قَوْله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } ، وقوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يفيد العُمُوم في كُلِّ الحَسَنَات والسَّيِّئات ، ثم قال بَعْدَه : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } . فهُنَا تصريحٌ بأنَّ جميع الحَسَنات والسَّيِّئات من اللَّه - تعالى - ، ولمَّا ثَبَتَ بما ذكرنا أنَّ الطَّاعات والمَعَاصِي دَاخِلَتَانِ تحت اسْم الحَسَنَةِ والسَّيِّئَة ، كانت [ الآية ] دالَّة على [ أنَّ ] جميعَ الطَّاعاتِ والمَعَاصي من اللَّه تعالى ، وهو المَطْلُوبُ . [ فإن قيل ] : المرادُ من الحَسَنة والسَّيِّئَة هُنا : لَيْس هو الطَّاعَة والمَعْصِيَة ؛ لاتِّفَاق الكُلِّ على أنَّ هذه الآية نَزَلت في الخَصب والجَدْب ، فاخْتُصَّتْ بِهِمَا ، وأيضاً فالحَسَنة التَّي يُرَاد بها الخَيْر والطَّاعَة [ لا يقال فيها : أصابَتْنِي ، إنما يُقَال : أصَبْتُها ، وليس في كَلاَم العَرَب أصَابَ فُلان حَسَنَة ] ، [ بمعنى : عَمَل خَيْرٍ أو أصَابَتْهُ سيِّئَة ] بمعنى : عمل مَعْصِيَةٍ ، فلو كان المُرَاد ما ذَكَرْتُم ، لقَالَ : إن أصَبْتُم حَسَنَةً . وأيضاً : لفظ الحَسَنَة وَاقِعٌ بالاشْتِرَاك على الطَّاعَةِ وعلى المنفعة ، وهَهُنا أجْمَع المفسِّرون على أنَّ المَنْفَعَة مُرَادة ، [ فيمتنع كَوْن الطَّاعَة مرادة ] ، لأنَّه لا يجوز اسْتِعْمَال المُشْتَرَك في مَفْهُومَيْه مَعاً . والجواب عن الأوَّل : [ أن ] خصوصَ السَّبَب لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفْظ . وعن الثَّانِي : أنه يَصِحُّ أن يُقَال : أصَابَنِي تَوْفِيقٌ من اللَّه ، وَعَوْن من اللَّه ، وأصابه خُذْلاَنَ من اللَّه ، ويكون المُراد [ من ذلك التَّوفِيق والعَوْن : تلك الطَّاعة ، ومن الخُذْلان : تلك المَعْصِيَة . وعن الثَّالث : أن كل ] ما كَانَ مُنْتَفَعاً به فهو حَسَنة ، فإن كان نَفْعه في الآخِرَة ، فهو في الطَّاعةِ ، وإن كان نفعه في الدُّنْيا فهو السَّعَادة الحَاضِرة ، فاسْم الحَسَنَة بالنِّسْبَة إلى هَذَيْنِ القِسْمَيْن مُتَوَاطئُ الاشْتِرَاك ، فزال السُّؤال ، ويؤيد ذَلِك : أن البَدِيهَة قَاطِعَةٌ بأنَّ كل مَوْجُود مُمْكِنٌ لِذَاته ، مستندٌ للحقِّ بذاته وهُوَ اللَّه - تعالى - ، فلو استَغْنَى المُمْكن بذَاتِهِ [ عن الحَقِّ ] ، لزم نَفْيَ الصَّانع ، وهذا الحُكْمُ لا يخْتَلِفُ كَيْف كان المُمْكِن ؛ حيواناً ، أو جماداً ، أو فعلاً ، أو صِفَةً ، وهذا بُرْهَانٌ كالشَّمْس ، مُصَرِّح بأن الكُلَّ من عِنْد اللَّه ؛ كما قال - تعالى - : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } . قوله : { فَمَا لِهَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ } وقف أبو عمرو والكسائِي - بخلاف عَنْه - على " مَا " في قوله : " فما لهؤلاء " وفي قوله : { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ } [ الفرقان : 7 ] وفي قوله : { مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَابِ } [ الكهف : 49 ] وفي قوله : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المعارج : 36 ] . والبَاقُون : على اللام التي للجَرِّ دون مَجْرُورها اتِّباعاً للرَّسم ، وهذا ينبغي إلاّ يَجُوز - أعني : الوَقْفَيْن - لأنَّ الأوَّل يُوقَف فيه على المُبْتَدأ دونَ خَبرِه ، والثاني يُوقَف فيه على حَرْفِ الجَرِّ دونَ مَجْرُورِه ، وإنما يجُوزُ ذلك ؛ لضَرُورةِ قَطْعِ النَّفْسِ أو ابْتِلاءٍ . قال الفرَّاء : كثرت في الكَلاَم هذه الكَلِمَة ، حتى تَوهَّمُوا أنَّ اللاَّم متصلة بِهَا ، وأنَّهُمَا حَرْف وَاحِدٌ ، ففصَلُوا اللاَّمَ بما بَعْدَها في بَعْضِه ، وَوَصَلُوها في بَعْضِه ، والقراءة الاتِّصَالُ ، ولا يجُوزُ الوَقْفُ على اللامِ ؛ لأنَّها لامٌ خافضة . لمَّا دلَّ الدَّلِيل على أنَّ كلَّ ما سِوَى اللَّه مستنِدٌ إلى اللَّه ، وكان ذَلِكَ الدَّلِيل في غاية الظُّهُور ، قال - تعالى - : { فَمَا لِهَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } وهذا يَجْرِي مُجْرَى التَّعَجُّبِ ؛ لعدم وُقُوفِهم على صِحَّةِ هَذَا الكَلاَمِ مع ظُهُورِهِ . قالت المُعْتَزلَةُ : هذه الآيَة تدلُّ على صِحَّة قَوْلِنا ؛ لأنه لو كَان حُصُول الفَهْمِ والمعرفة بِتَخْلِيق اللَّه - تعالى - ، لم يَبْق لِهذا التَّعَجُّب مَعْنًى ألْبَتَّة ؛ لأن السَّبَب في عَدَمِ حُصُول هذه المَعْرِفة ، هو أن اللَّه - تعالى - لم يَخْلُق ذلك فِيهم . وهذا تمسُّكٌ بطريقة المَدْح والذَّمِّ ؛ وهي معارَضَةٌ بالعِلْمِ والدَّاعي . والمراد بـ " هؤلاء القوم " : المنافقون واليَهُود ، " لا يكادون يفقهون حديثاً " أي : قَوْلاً . وقيلأ : الحديث هاهنا : القُرْآن : أي : لا يَفْقَهُون مَعَانِي القُرْآن ، والفِقْه : الفَهْم ، يُقَال : فَقِهَ بكسر القَافِ ؛ إذا فَهِم ، وفَقَهَ بِفَتْحِ القَافِ : إذا غَلَب غَيْرَه ، وفَقْه بِضَمِّ القَافِ ، ومنه ما قال عليه السَّلام لابن عبَّاس " اللَّهُمَّ فَقِّههُ في التَّأوِيل " أي : فَهِّمْهُ تأويلَهُ ، فعلى هَذَا التَّأوِيل قالت المُعْتَزِلَةُ : هذه الآية تَقْتَضِي وَصْف القُرْآنِ بأنَّهُ حَادِثٌ ، والحَدِيث : فعيل بِمَعْنَى مَفْعُول ، فيلزم مِنْه أن يَكُون القُرْآن مُحْدَثاً . والجَوَابُ : إن كان مُرادُكم بالقرْآنِ هذه العِبَارات ، فَنَحْنُ نُسَلِّم كَوْنَها مُحْدَثَةً .