Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 85-85)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في تعلُّق هذه الآية بما قَبْلَها وجوه : أحدها : أنه - تعالى - لمَّا أمَر الرَّسُول - [ عليه الصلاة والسلام ] - بأن يحرَّض الأمَّة على الجِهَاد ، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ ، بيَّن في هذه الآية أنَّ من يَشْفَع شَفَاعة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْهَا ، والغَرَض مِنْه : أنه - عليه الصلاة والسلام - يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً . وثانيها : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يوصِيهم بالقِتَال ، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه ، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ ، فنهى [ الله ] عن مثل هَذِه الشَّفَاعَة ، وبيَّن أن [ هَذِه ] الشَّفاعة إذا كَانَت وَسِيلَة إلى مَعْصِيَةٍ ، كانت مُحَرَّمَة . وثالِثُها : أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمنِين راغباً في الجِهَاد ، ولا يَجِد أهْبَة الجِهاد ، فصار غَيْرُهُ من المُؤمنِين شَفِيعاً له إلى مُؤمِنٍ آخر ؛ ليعِيِنه على الجِهَاد ، والشَّفَاعَة مأخُوذَدٌ من الشَّفْع وهو الزَّوج من العَدَد ، ومنه الشَّفِيع ، [ وهو ] أن يَصِير الإنْسَان [ نفسه ] شَفْعاً لِصَاحب الحَاجَة ؛ حتى يجْتَمِع معه على المسألة فِيهَا ، [ ومنه نَاقَةٌ شَفُوعٌ : إذا جمعت بين مِحْلَبَيْن في حَلبةٍ واحدةٍ ، وناقة شَفِيعٌ : إذا اجْتَمع لها حَمْلٌ وولَدٌ يَتْبَعُها ، والشُّفْعَةُ : ضم مِلْكِ الشَّريك إلى ملكك ، والشَّفَاعة إذا ضَمَّ غَيْرك إلى جاهك ، فهي على التَّحقِيق إظهار لمنزلة الشَّفِيع عند المُشَفِّع ، وإيصَال المَنْفَعَة إلى المَشْفُوع له ] فيكون المُرَادُ : تَحْرِيض النَّبِيِّ - عليه الصلاة والسلام - إيَّاهم على الجِهَاد ؛ لأنه إذا أمَرهُم بالغدو ، فقد جَعَل نَفْسَهُ شَفْعاً لَهُم في تَحْصِيل الأغْرَاضِ المتعلِّقةِ بالجِهَادِ ، والتَّحْرِيض على الشَّيءِ عبارة عن الأمر به على وجْه الرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ ، وذلك يَجْرِي مُجْرَى الشَّفَاعة . وقي : المُرَاد ما تَقَدَّم من شفاعة بَعْض المُنَافِقِين النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - في أن يَأذن لِبَعْضِهِم في التَّخَلُّف . ونقل الوَاحِديُّ عن ابن عبَّاس ؛ ما معناه : أن الشَّفَاعة الحَسَنَة هَهُنا ، وهي أن يَشْفَع إيمانهُ بالله بقِتَال الكُفَّار ، والشفاعة السَّيِّئَة : أن يَشْفَع كفره بِمُوالاَةِ الكُفَّار ، وقيل : الشَّفَاعة الحَسَنَة : ما تقدَّم في أن يَشْفَع مؤمِنٌ لمؤمِنٍ [ عند مُؤمِنٍ ] آخَرِ ؛ في أن يُحَصِّلَ له آلات الجِهَاد ، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ ؛ أن الشفاعة الحَسَنة [ هي الإصلاح بين النَّاس ، والشَّفَاعة السَّيِّئة ، هي النَّمِيمة بين النَّاسِ . وقيل ] : هي حُسْنُ القول في النَّاسِ يُنَال به الثَّوَاب والخير ، والسَّيِّئَة هي الغَيْبة والقَوْل السيّئ في النَّاسِ يُنَال به الشَّرُّ . والمراد بالكفل : الوِزْر . قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ : المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض ، فإن كان في ما يَجُوز ، فهو شَفَاعة حَسَنَة ، وإن كان فِيمَا لا يجُوز ، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة . قال ابن الخَطيب : هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد ، وإلاَّ صَارَت الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا ، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز ؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ . " والكفل " : النَّصِيب ، إلا أنَّ استعماله في الشَّرِّ أكثر ، عكس النصيب ، وإنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخَيْرِ ، قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] وأصلُه قالوا : مُسْتَعَارٌ مِنْ كِفْلِ البَعير ، وهو كساء يُدَار حَوْلَ سِنَامِه ليُرْكَبَ ، سُمِّي بِذَلِك ؛ لأنَّه لم يَعُمَّ ظهرهَ كُلَّه بل نَصِيباً منه ، ولغلبةِ استِعْمَالِه في الشَّرِّ ، واستعمال النَّصِيب في الخير ، غاير بَيْنَهما في هذه الآيَة الكَريمة ؛ إذ أتى بالكِفْل مع السَّيِّئَة ، والنَّصِيب مع الحَسَنة ، و " منها " الظَّاهِر أن " مِنْ " هنا سَببيَّة ، أي : كِفْلٌ بِسَبِبها [ ونَصِيب بسبِبها ] ، ويجُوز أن تكُون ابتدائِيةٌ ، والمُقِيت : المُقْتَدَر [ قال : ابن عباس : مقتدراً مجازياً ] ، قال : [ الوافر ] @ 1847 - وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الْوُدَّ عَنْهُ وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مٌقِيتَا @@ أي : مقتدراً ، ومنه : [ الخفيف ] @ 1848 - لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنَّ إذَا مَا قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذَا حُو سِبْتُ ؟ أنَّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ @@ وأنشد نَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : [ الطويل ] @ 1849 - تَجَلَّد ولا تَعْجَزْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ فَإنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ @@ قال النَّحَّاس : " هو مُشْتَقٌ من القُوتِ ، وهو مِقْدَارُ ما يَحْفَظ به بَدَنُ الإنْسَانِ من الهَلاَك " فأصل مُقيت : مُقْوِت كَمُقِيم . [ و ] يقال : قُتُّ الرَّجُلَ ؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسهُ " وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت " وفي رواية من رَوَاه هَكَذَا ، أي : مَن هو تَحْت قُدْرَته وفي قَبْضَتِه من عِيَالٍ وغيره ؛ ذكره ابن عَطِيَّة : يقول : [ منه : قُتُّهُ ] أقوته قُوتاً ، وأقَتُّهُ أقِيتُهُ إقَاتَةً ، فأنا قَائِتٌ ومُقِيتٌ . وأمَّا قول الشَّاعِرِ : [ الخفيف ] @ 1850 - … … إنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ @@ فقال الطَّبَرِي : إنه من غَيْر هَذا [ المعنى المتقدِّم ، فإنه بمَعْنَى الموقوف ، ] فأصْل مُقِيت : مُقْوِت كمُقِيم . وقال مُجَاهِدٌ : معنى مُقِيتاً : شاهداً وقال قتادة : حَفِيظاً ، وقيل معناه : على كل حيوان مُقِيتاً ، أي : يُوصِل القُوت إلَيْه . قال القَفَّال : وأي هَذَيْن المعنيين كان فَالتَّأوِيل صَحِيحٌ ، وهو أنه - تعالى - قادر على إيصَال النَّصِيب والكَفِيل من الجَزَاءِ إلى الشَّافِع ؛ مثل ما يُوصِلُه إلى المَشْفُوع ، إن خيراً فَخَيْرٌ ، وإن شَرّاً فَشَرٌّ ، ولا ينتَقِص بسبَب ما يَصِل إلى الشَّافِع [ شيء ] من جَزاء المَشْفُوع ، وعلى الوَجْه الآخَر : أنَّه تعالى - حَافِظُ الأشْيَاء شَاهِدٌ عليها ، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِهَا ، فهو عَالِمٌ بأن الشَّافِع يَشْفَع في حَقِّ [ أو في ] بَاطِل ، حَفِيظٌ عليهم فَيُجَازِي كلاًّ بما عَلِمَهُ منه . وقوله : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } وَلَمْ يقتيه بوقتٍ ، والحالُ يدلُّ على أن هذه الصِّفَةِ كانت ثَابِتَة له من الأزَلِ إلى الأبَدِ وليست مُحْدَثة .