Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 95-96)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كما رَغَّبَ في الجِهَادِ ، أتْبَعَ ذلِك ببَيَانِ أحْكَام الجِهَاد ، ومن أحْكَامه : التَّحْذِير عن قَتْل المُسْلِمِين على سبيل العَمْدِ والخَطَأ وعلى تأويل الخَطَأ ، ثم أتْبَعَهَ بحُكْم آخر ؛ وهو بَيان فَضْل المُجَاهِد على غَيْرِه . وقيل : لما عاتبهم على قَتْل المتكَلِّم بالشَّهادة ، فلعَلَّه وَقَعَ في قُلُوبهم أن الأوْلى الاحْتِرَاز عن الجِهَادِ ؛ للوقوع في مِثْل هذا المَحْذُورِ فذكر عَقِبه فَضْل المُجَاهد على غَيْره ؛ إزالَة لهذه الشُّبْهَة . قوله { غير أولي الضرر } قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو وحَمْزَة وعَاصِم : " غير " بالرفع ، والباقون : بالنَّصْب ، والأعْمَش : بالجرِّ . والرَّفع على وجهَيْن : أظهرهما : أنه على البَدَل من " القاعدون " وإنما كان هذا أظْهَر ؛ لأن الكَلاَم نفي ، والبدلُ معه أرْجَحُ ؛ لما قُرِّر في علم النَّحْو . والثاني : أنه رَفْعٌ على الصِّفَة لـ " القاعدون " ، ولا بد من تأويل ذلك ؛ لأن " غير " لا تتعَرَّفُ بالإضَافَة ، ولا يَجُوز اختِلاَفُ النَّعت والمَنْعُوت تعريفاً وتنكيراً ، وتأويله : إمَّا بأن القاعِدِين لَمَّا لم يَكُونوا نَاساً بأعْيَانِهِم ، بل أُرِيد بهم الجَنْسُ ، أشْبَهوا النَّكِرة فَوُصِفوا كما تُوصَف ، وإمَّا بأن " غير " قد تَتَعَرَّف إذا وقَعَت بين ضِدَّين ، وهذا كما تَقَدَّم في إعْرَاب { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] في أحَد الأوْجُه ، وهذا كلُّه خُرُوج عن الأصُول المقرَّرة ، فلذلك اخْتِير الأوّل ؛ ومثله : [ الرمل ] @ 1866 - وَإذا أقْرِضْتَ قَرْضَاً فَاجْزِهِ إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجَمَلْ @@ برفع " غير " كذا ذكره أبو عَلِيّ ، والرِّوَاية : " لَيْسَ الجَمَلْ " عند غَيْره . وقال الزَّجَّاج : ويجُوزُ أن يكُون " غير " رفعاً على جِهَة الاستِثْنَاءِ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون من المُؤمنين والمُجَاهِدُون ، إلا أولي الضَّرَر فإنَّهم يساوون المُجَاهِدِين ، أي : الذين أقعدهم عن الجِهَاد الضَّرر ، والكَلامُ في رفع المُسْتَثْنَى بعد النفي قد تقدم عِند قوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . والنَّصْب على [ أحد ] ثلاثة أوْجُه : [ الأوّل ] : النَّصْبُ على الاستِثْنَاء من " القاعدون " [ وهو الأظهر ؛ لأنه المحدَّثُ عَنْهُ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون ] إلا أولِي الضَّرَر ، وهو اخْتِيَار الأخْفَش . والثاني : من " المؤمنين " وليس بِوَاضِح . والثالث : على الحَالَ من " القاعدون " [ والمعنى : لا يستوي القاعدون ] في حَالِ صِحَّتهم والمُجَاهِدُون ؛ كما يُقَال : جاءَني زيد غير مَرِيضٍ ، أيك جاءني زَيْد صَحِيحاً ، قاله الزَّجَّاج والفرَّاء ؛ وهو كقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } [ المائدة : 1 ] . والجرُّ على الصفَة للمؤمنين وتأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة . قال الأخْفَش القراءة بالنَّصْب على الاستثنَاء أوْلَى ؛ لأن المَقْصُود منه استِثْنَاء قوم لم يَقْدرُوا على الخُروج ؛ كما روي في التَّفْسير أنه لما ذَكَر الله - تعالى - فضيلة المُجَاهِدِين ، جاء قَوْمٌ من أولي الضرر ، فقالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم : حالتنا كما تَرَى ، ونحن نَشْتَهِي الجِهَاد ، فهل لنا من طَرِيقٍ ؟ فنزل { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } فاستثناهم الله - تعالى - . وقال آخرون : القِرَاءة بالرَّفع أولى ؛ لأن الأصْل في كلمة " غَيْر " أن تكون صفة ، ثم إنها وإن كانت صِفَة ، فالمقصُود والمَطْلُوب من الاستثناء حاصِل ؛ لأنَّها في كلتا الحَالتَيْن أخْرَجت أولي الضَّرر من تلك المَفْضُولِيَة ، وإذا كان هذا المَقْصُود حَاصِلاً على كلا التقديرين ، وكان الأصل في كلمة " غير " أن تَكُون صفة ، كانت القراءة بالرَّفْع أوْلَى . فالضَّرر النُّقْصَان ، سواء كان بالعَمَى أو العَرَج أو المَرَض ، أو بسبب عَدَمِ الأهْبَة . فصل روى ابن شهاب عن سَهْل بن سعد السَّاعِدِي - رضي الله عنه - ؛ أنه قال : " رأيتُ مَرْوَان بن الحكم جَالِساً في المَسْجِد ، فأقَبْلت حَتَّى جلست إلى جَنْبِه ، فأخبرنا أن زَيْد بن ثَابتٍ - رضي الله عنه - أخبره ؛ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أملَى عَلَيه " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " ، قال : فجاء ابنُ أمِّ مَكْتُوم وهو يُمْلِيها عليَّ ، فقال : يا رسُول الله ، لو أستطيعُ الجِهَاد لجَاهَدتُ ، وكان رجلاً أعْمَى ، فأنزل الله - تعالى - عليه وفخذُهُ على فَخْذِي ، فثقلتْ عليّ حَتَّى خِفْتُ أن ترضَّ فَخذِي ، ثم سري عنه " ، فأنزل الله : { غير أولي الضرر } في فضل الجهاد والحثِّ عليه . روى أنس - رضي الله عنه - ؛ " أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رَجَع من غَزْوَة تَبُوك ، فَدَنَا من المَدِينَة فقال : " إن في المَدِينَة لأقْوَاماً ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قَطَعْتُم من وَادٍ وإلا كَانُوا مَعَكُم فيه ، قالوا : يَا رسُول الله وَهُم بالمَدِينَة ؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبَسهم العذر " ، وروى مقسم عن ابْن عبَّاس ؛ قال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } عن بَدْر ، والخَارِجُون إلى بدر . وقوله : { في سبيل الله بأموالكم } كلا الجارَّيْن متعلِّق بـ " المُجَاهِدُون " و " المُجَاهِدُون " عَطْف على القَاعِدُون . فصل اخْتَلَفُوا في هذه الآية : هل تَدُلُّ على أن المُؤمنين القَاعِدِين الضْراء ، يُسَاوُون المجاهدين أم لا ؟ . قال بعضهم : لا تدل ؛ لأنا إن حملنا لفظ " غَيْر " على الصفَة ، وقلنا : [ إن ] التَّخْصِيص بالصِّفَة لا يدل على نَفْي الحُكْم عمّا عَدَاه ، لم يلزم ذلك ، وإن حَمَلْنَاه على الاستِثْنَاء ، وقلنا : [ إن ] الاستثناء من النَّفي ليس بإثْبَات ، لم يلزم أيضاً ذلك ، أمَّا إذا حَمَلْنَاه على الاستثناء وقلنا : الاستثناء من النَّفْي إثبات ، لزم القَوْل بالمُسَاوَاة . واعلم أن هذه المُسَاواة في حق الأضْرَاء ، عند من يَقُول بها مَشْرُوطة بشَرْط آخر ذكره الله - تعالى - في سُورة التَّوْبة ، وهو قوله : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } [ التوبة : 91 ] إلى قوله : { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، ويدل على المُسَاواة ما تقدَّم في حَدِيث غزوة تَبُوكٍ . وتقرير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " إن بالمدِينَةِ قَوْماً ما سلكتُم وادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم " وقال عليه السلام : " إذا مَرِض العَبْدُ قال الله - تعالى - : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ " . وقال المُفَسَِّرون في قوله - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ التين : 5 ، 6 ] ؛ أن من صَار هرماً ، كتب له أجْر عمله قبل هرمه غير مَنْقُوص ، وقالوا في تَفْسِير قوله - عليه الصلاة والسلام - " نِيَّة المُؤْمِن خَيْرٌ من أجْر عَمَلِهِ " إن المُؤْمِن يَنْوِي الإيمان والعمل الصَّالح ، لو عاش لهذا لا يحصَّل له ثواب تلك النِّيَّة أبداً . قوله - تعالى - : { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } لما بيَّن [ تعالى ] أن المُجاهدين والقاعِدين لا يَسْتَويان ، ثم إن عَدَم الاسْتِوَاء يَحْتَمل الزِّيَادة والنُّقْصَان ، لا جرم بَيَّنَه الله - تعالى - . قوله : " درجةً " في نصبه أربعة [ أوْجُه : ] أحدها : أنها مَنْصُوبة على المَصْدر ؛ لوقوع " درجة " موقع المَرَّة من التَّفْضِيل ؛ كأنه قيل : فَضَّلهم تَفْضيلة ، نحو : " ضَرَبْتُه سَوْطاً " وفائدة التنكير التَّفْخِيم . الثاني : أنها حَالٌ من " المُجَاهِدِين " أي : ذوي درجة . الثالث : مَنْصُوبة انتصابَ الظَّرْف ، أي : في دَرَجَةٍ ومَنْزِلة . الرابع : انْتِصَابها على إسْقَاط الجَارِّ أي : بِدَرَجة . فلما حُذِف الجَارُّ ، وَصَل الفِعْل فعَمِل ، وقيل : نُصِب على التَّمْيييز . قوله : { وكلاًّ وعد الله الحسنى } " كلاًّ " مَفْعُول أول لـ " وَعَد " مُقَدماً عليه ، و " الحُسْنَى " مفعول ثان ، وقرئ : " وكُلٌّ " على الرَّفْع بالابتداء ، والجُمْلَة بعده خبره ، والعَائِد مَحْذُوف ، أي : وعده ؛ وهذه كَقِرَاءة ابن عامر في سورة الحديد : { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [ الحديد : 10 ] . والمعنى : كلاًّ من القاعِدِين والمُجاهِدِين ، فقد وَعَدَه الله الحُسْنَى . قال الفُقَهَاء : وهذا يَدُلُّ على أن الجِهَاد فرض كِفَايَةٍ ، وليس على كُلِّ واحدٍ بِعَيْنِه ؛ لأنه - تعالى - وعد القاعِدِين الحُسْنَى كما وعَد المُجَاهِدِين ، ولو كان الجِهَادُ واجِباً على كلِّ أحدٍ على التَّعْيين ، لما كان القَاعِدُ أهْلاً لوعد اللَّه إيَّاه الحُسْنَى . وقيل : أراد بـ " القَاعِدِين " هنا : أُولِي الضَّرَر ، فضَّل الله المُجَاهِدِين عليهم دَرَجَة ؛ لأن المُجَاهِد باشَر الجِهَاد مع النِّيَّة ، وأولُو الضَّرر لهم نِيَّة بلا مُبَاشَرة ، فنزلوا عَنْهُم درجَة وعلى هذا نزول الدَّلالة . قوله - تعالى - : { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } في انتصاب " أجراً " أربعة أوجُه : أحدها : النَّصْب على المَصْدَر من مَعْنَى الفِعْل الذي قَبْلَه لا من لَفْظِه ؛ لأن مَعْنَى " فَضَّلَ الله " : آجرَ ؛ فهو كقوله : أجْرُهُم أجْرٌ ، ثم قوله - تعالى - : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ [ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } بدل من قوله : " أجْراً " . الثاني : أنه انْتَصَب على إسْقَاط الخافِضِ ، أي : فضلهم بأجْر . الثالث : النَّصْب على أنَّه مَفْعُول ثاني ؛ لأنه ضَمَّن فضَّل معنى أعْطَى ، أي : أعْطَاهم أجراً تفضلاً مِنْه . الرابع : أنه حالٌ من درجات ] . قال الزمخشري : " وانتصب " أجْراً " على الحَالِ من النّكرة التي هي " دَرَجَاتٍ " مقدَّمةً عليها " وهو غير ظَاهِر ؛ لأنه لو تأخَّر عن " دَرَجَاتٍ " لم يَجُز أن يَكُون نعتاً لـ " دَرَجَاتٍ " لعدم المطابقة ؛ لأنَّ " درجات " جَمْع ، و " أجْراً " مفرد ، كذا ردَّه بعضهم ، وهي غَفْلَة ؛ فإنَّ " أجراً " مَصْدرٌ ، والأفْصَحُ فيه يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مطلقاً ، [ وقيل : انتصَب على التَّمْيِيز ، و " دَرَجَاتٍ " عَطْف بَيَان ] . قوله - تعالى - " درجات " فيه سِتَّة أوجه : الأربعة المذكورة في " دَرَجَة " . والخامس : أنه بدلٌ من " أجْراً " . السادس ذكره ابن عَطِيَّة أنه منصوبٌ بإضْمَار فعلٍ ، على أن يكون تَأكِيداً للأجْرِ ، كما تقول : " لك عليَّ ألفُ دِرْهَمٍ عُرْفاً " كأنك قُلْت : أعْرِفُها عُرْفاً ، وفيه نظر ، و " مغفرة ورحمة " عطف على " دَرَجَاتٍ " ، ويجُوز فيهما النَّصْب بإضْمَار فِعْلِهِما [ تَعْظِيماً ] ، أي : وغَفَرَ لهم مَغْفِرَةً ، ورحِمَهُم رَحْمَةً . فأن قيل : إنه - تعالى - لِمَ ذَكَرَ أولاً " دَرَجَة " وهَهُنَا " دَرَجَاتٍ " ؟ فالجواب من وُجوه : أحدها : ليس المُرَاد بالدَّرجة الوَاحِدَةَ بالعَدَدِ ، بل الوَاحِد بالجِنْسِ ، فيدْخُل تحته الكَثير بالنَّوْعِ . وثانيها : أن المُجَاهِد أفضَل [ بالضَّرُورة ] من القَاعِد المَضْرُور [ بدرجَة ] ومن القَاعِد الصَّحيح [ بدَرَجَات ] وهذا على القَوْل بعدم المُسَاواةِ بين المُجَاهِدِين والأضِرّاء . وثالثها : فضَّلَ المُجَاهِدِين في الدُّنْيَا بدرجَة وَاحِدة ، وهي الغَنِيمَة ، وفِي الآخِرة بدرجَات كَثيِرة في الجَنَّة . ورابعها : أن المُرَاد بـ " المُجَاهِدين " في الأولى : المُجَاهِدِين بأمْوَالِهِم وأنفُسِهِم ، وههنا المراد بـ " المُجَاهِدِين " : من كان مُجَاهِدَاً على الإطْلاق في كُلِّ الأمُور ، وأعْنِي : في عمل الظَّاهِرِ ؛ كالجهاد بالنفس والمَالِ والحج ، وعلى العباداتِ كُلِّها ، وفي أعْمَال القلُوب وهو أشرف أنْوَاعِ الجِهَاد ؛ لأنه صَرْف القَلْبِ من الالْتِفَات إلى غَيْر الله إلى الاستغَراقِ في طَاعَةِ اللَّه . فصل ذكر المفَسِّرون معنى " الدرجات " . قال ابن جبير في هذه الآيَةِ هي سَبْعُونَ دَرَجَة ، ما بَيْن كل دَرَجَتَيْن عَدْو الفَرَسِ الجَوادِ المضمر سَبْعين خريفاً . وقيل : الدَّرَجَاتِ هي الإسْلام والهِجْرَةِ والجِهَادِ والشَّهَادَة ، فاز بها المُجَاهدُِون . فصل : في حكم الجهاد والجهاد في الجُمْلَة فَرضٌ ، غير أنه يَنْقَسِم إلى فَرْضِ العَيْنِ وفَرْضِ الكِفَاية ، ففرض العَيْنِ أن يَدْخُلَ العَدُوُّ دارَ قوم من المُؤمِنِيِن ، فيجب على كُلِّ مكَلَّفِ من الرِّجَالِ ممن لا عُذْرَ له مِنْ أهْلِ تلك البَلْدَةِ الخُرُوج إلى عَدوِّهم ، حراً كان أو عَبْداً ، غنياً كان أو فَقِيراً ، دفعاً عن أنفسهم وعن جِيِرانِهم ، وهو في حَقِّ من بَعُد مِنْهُم من المُسْلِمِين فرضٌ على الكِفَاية ، فإن لم يَقَع الكِفَاية بمن نَزَل بِهِم ، يجب على من بَعُد منهم من المُسْلِمِين عَوْنُهم ، وإن وقعت الكِفَاية بالنَّازِِلين بهم ، فلا فرضَ على الأبْعَدين ، ولا يَدْخُل في هذا القِسْم العَبيد والفُقَراء ، فإذا كان الكُفَّار قَادِرِين في بِلادهم ، فعلى الإمَام ألا يُخَلَّي كلَّ سَنَة عن غَزْوة يغزوها بِنفْسِه أو بسَراياه ، حتى لا يكُون الجِهَاد مُعَطلاً . فصل : رد شبهة الشيعة قال الشِّيعة : عَلِيُّ كان مِن المُجَاهِدِين ، وأبو بكر من القَاعِدِين ، فيكون عَلِيٌّ أفْضَل ، للآية ، فيُقَالُ لهم : مباشَرَة علي للقِتَالِ أكثر مُبَاشَرَةً من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فيكون أفْضَل منه ، وهذا لا يَقُولُه عَاقِلٌ ، فإن قالوا : جِهَاد النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأنه في إظْهَارِ الدِّين بتَقْرير [ الأدلة ] قُلْنَا : وكذلك أبُو بَكْر ، سعى في إظْهَارِ الدِّين في أوّل الإسْلام ، حتى أسْلَم على يَدِه جَمَاعَة ، وبالغ في الذَّبِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنفْسِه وماله ، وكان عَلِيُّ حينئذٍ صَبِيّاً لا يُسَلِّم أَحَدٌ بقوله ، وما كان قَادِراً على الدِّين ، وجهاد أبِي بكْر في أوَّل الإسْلام وضَعْفِه ، وجِهَاد عَلِيَّ كان وهو في الدِّين بعد ظُهُور الإسْلام وقُوَّتِه ، والأوّل أفضل ، وأيضاً : فجهَاد أبِي بكر كان بالدَّعْوةِ إلى الدِّين ، وأكثر أفاضل العَشْرة أسْلَمُوا على يَدِهِ ، وذلك حِرْفَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وجهاد عَلِيٍّ كان بالقَتْل ، والأوّل أفضل . فصل : رد شبهة المعتزلة [ قالت المعتزلة ] لما كان التَّفَاوُت في الثواب بحسب التَّفاوُت في العَمَل ، دَلَّ على أن عِلَّة الثَّوابِ هو العَمَل ، وأيضاً لو لم يكن العَمَل مُوجِباً للثَّوَاب ، لكان الثَّوَاب هِبَةً لا أجراً ، والله - تعالى - سمَّاه أجراً . فالجواب : أن العمل عِلَّةُ الثَّوَاب ، بجعل الشَّارع لا بِذَاتِه . فصل : الاشتغال بالنوافل أفضل من النكاح قال الشَّافِعِيّة : دَلَّت الآية على أن الاشتغال بالنَّوافِل ، أفْضَل من الاشتغال بالنكاح ، لأن من أقَام بالجِهَادِ ، سقط الفَرْضُ عن البَاقِين ، فلو أُقيموا عليه كان من النَّوافِل ، والآية تَقْتَضِي تَفْضِيل جميع المُجَاهِدين من مُفْتَرَضٍ و [ من ] مُتنَفِّل على القَاعِدِين والمتنقل بالنِّكاح قاعِد عن الجِهَاد ، فثبت أن الاشْتِغَال بالمَنْدُوب إليه من الجِهَاد أفْضَل من الاشْتِغَال بالنِّكاح .