Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 97-99)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذَكَر - [ تعالى ] - ثواب من أقْدَم على الجِهَاد ، أتْبَعَه بِعِقَاب من قَعَدَ عَنْهُ ورضي بالسُّكُون في دَارِ الحَرْبِ . قوله : " توفَّاهم " يجوز أن يكون مَاضِِياً ، وإنما لم تَلْحَق علامة التَّأنيث للفعل ؛ لأن التأنيث مَجَازِيّ ؛ ويدلُّ على كونه فعلاً مَاضِياً قِرَاءَةُ " تَوَفتهُم " بتاء التأنيث . قال الفرَّاء : ويكون مثل قوله : { إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] فيكون إخْبَاراً عن حَالِ أقْوَام معيَّنين ، انْقَرَضُوا ومضوا ويجوز أن يَكُون مُضَارعاً حُذِفَتْ إحدى التَّاءَيْن تَخفيفاً مِنْه ، والأصل : تتوَفَّاهُم ، وعلى هذا تكُون الآيةُ عامَّة في حقِّ كلِّ من كان بهذه الصِّفَة . و " ظَالِمي " حالٌ من ضَمِير " تَوَفَّاهُم " ، والإضافة غير محضة ؛ إذ الأصْل : ظَالِمين أنفُسِهم ؛ لأنه وإن أُضِيف إلى المَعرِفَةِ ، إلا أنه نَكِرةٌ في الحَقِيقة ؛ لأن المَعْنَى على الانْفِصَال ؛ كأنه قيل : الظَّالِمِين أنْفُسهم ، إلا أنَّهم لما حَذَفُوا [ النُّون ] طلباً للخِفة ، واسْم الفَاعِل سواء أُرِيد به الحَالُ أو الاستِقْبَال ، فقد يكُون مفصُولاً في المَعْنَى وإن كان مَوْصُولاً في اللَّفْظِ ؛ فهو كقوله - تعالى - : { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] ، و { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] والتقدير : مُمْطِر لَنَا وبَالِغاً للكَعْبَةِ وثانِياً عِطْفه ، والإضافة في هَذِهِ المَوَاضع لَفْظِيَّة لا مَعْنَوِيَّة . وفي خبر " إنَّ " هذه ثلاثة أوْجُه : أحدها : أنه مَحْذُوفٌ ، تقديُره : إنَّ الذين توفَّاهُم الملائكةُ هَلَكُوا ، ويكون قوله : " قالوا : فيم كنتم " مبيِّناً لتلك الجُمْلَةِ المَحْذُوفة . الثاني : أنه { فأولئك مأواهم جهنم } ودخلت الفَاءُ زائدة في الخَبَر ؛ تشبيهاً للموصُول باسم الشَّرْط ، ولم تمنع " إنَّ " من ذَلِك ، والأخْفَش يَمْنَعُه ، وعلى هذا فَيَكُون قوله : " قالوا : فيم كنتم " إمَّا صفةً لـ " ظَالِمِي " ، أو حالاً للملائكة ، و " قد " مَعَه مقدَّرَةٌ عند مَنْ يشتَرِط ذلك ، وعلى القول بالصِّفَة ، فالعَائِد محذوف ، أي : ظالمين أنْفُسَهم قَائِلاً لهم المَلاَئِكَة . والثالث : أنه { قالوا فيم كنتم } ، ولا بد من تَقْدِيرِ العَائِد أيْضاً ، أي : قالوا لَهُم كذا ، و " فيم " خَبَرَ " كُنْتُم " ، وهي " ما " الاستِفْهَامِيَّة حُذِفَت ألِفُها حين جُرَّتْ ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك عند قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 91 ] ، والجُمْلَة من قوله : " فيم كنتم " في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ ، و " في الأرض " متعلقٌ بـ " مُسْتَضْعَفِين " ، ولا يجوز أن يكُون " في الأرْضِ " هو الخَبَر ، و " مُسْتَضْعَفِين " حالاً ، كما يَجُوز ذلك في نَحْو : " كان زيدٌ قائَماً في الدَّارِ " لعدمِ الفَائدة في هذا الخَبَر . فصل في معنى التَّوَفِّي في هذا التَّوفِّي قولان : الأول : قول الجُمْهُور ، معناه تُقْبَض أرْوَاحهم عند الموْتِ . فإن قيل : كيف الجَمْع بَيْنَه وبين قوله - تعالى - : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] ، { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] وبين قوله { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] . فالجواب : خالق الموت هو الله - تعالى - ، والمُفَوَّض إليه هذا العمل هو مَلك المَوْت وسَائِر الملائكة أعْوانه . الثاني : توفَّاهم الملائِكة ، يعني : يَحْشُرونهم إلى النَّارِ ، قاله الحَسَن . فصل الظُّلْم قد يُراد به الكُفْر ؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، وقد يرادُ به المَعْصِيَة ؛ كقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] ، وفي المراد بالظُّلْمِ هَهُنَا قَوْلان : الأول : قال بَعْضُ المُفَسِّرين : نزلت في نَاسٍ من أهْلِ مَكَّة ، تكلَّمُوا بالإسْلام ولم يُهَاجِرُوا منهم : قَيْس بن الفاكه بن المُغيرَة ، وقَيْس بن الوَليد وأشْبَاهُهُمَا ، فلما خَرَج المُشْرِكُون إلى بَدْر ، خرجوا مَعَهُم ، فقاتَلُوا مع الكُفَّار وعلى هذا أراد بِظُلْمِهِم أنْفُسَهُم : إقامَتَهُم في دَارِ الكُفْرِ ، وقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } أي : ملك المَوْتِ وأعْوَانِهِ ، أو أراد مَلَك المَوْتِ وَحْدَه ؛ لقوله - تعالى - : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] والعَرَبُ قد تُخَاطِب الوَاحِد بلَفْظ الجَمْع . الثاني : أنها نَزَلَت في قَوْم من المُنَافِقِين ، كانوا يُظْهِرُون الإيمان للمُؤمِنِين خوفاً ، فإذا رَجَعُوا إلى قَوْمِهِم ، أظْهَرُوا لهم الكُفْر ، ولا يُهَاجِرُون إلى المَدِينَةِ . وقوله : { قالوا فيم كنتم } من أمْرِ دينكُم ، وقيل : فيم كُنْتُم من حَرْب أعْدَائه ، وقيل : لما تركتم الجِهَاد ورَضِيتُم بالسُّكُون دَارِ الكُفَّار ؛ لأن الله - تعالى - لم يَكُن يَقْبَل الإسلام بعد هِجْرَةَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهِجْرَة ، ثم نَسَخَ ذلك بَعْدَ فَتْحِ مكَّة بقوله " لا هِجْرَة بَعْدَ الفَتْح " وهؤلاء قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ ، وضرَبَت الملائكةُ وجوهَهُم وأدْبَارَهُم ، وقَالُوا لهم : فيم كُنْتُم ؟ [ " قالوا كُنَّا " ] أي : في ماذا كُنْتُم أو في أيِّ الفَرِيقَيِْن كنتم ؟ أفي المُسْلِمين أو في المُشْرِكِين ؟ سُؤال توبيخ وتَقْرِيع ، فاعتذروا بالضَّعْف عن مُقَاوَمَة المُشْرِكِين ، { وقالوا كنا مستضعفين } عَاجِزين ، " في الأرْضِ " يعني : أرْضَ مَكَّة . فإن قيل : كان حَقُّ الجَوَاب أن يَقُولوا : كنا في كَذَا وكذا ، ولم نكُن في شَيْء . فالجَواب : أن مَعْنَى " فِيمَ كُنْتُم " : التَّوْبِيخ ، بأنهم لم يَكُونوا في شَيْءٍ من الدِّين ، حَيْثُ قَدَرُوا على المُهَاجَرَة ولم يُهَاجِرُوا فقالوا : كُنَّا مستَضْعَفِين اعْتِذاراً عمَّا وُبَّخُوا بِه ، واعتِلالاً بأنَّهم ما كَانُوا قادِرِينِ على المُهَاجَرة ، ثم إنّ المَلاَئِكَة لم يَقْبَلُوا منهم هذا العُذْر ؛ بل ردُّوه عَلَيْهِم ، فقالوا : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } يعني أنكم كنتم قادرين على الخُرُوجِ من مَكَّة إلى بَعْضِ البِلاَدِ التي لا تُمْنَعُون فيها من إظْهَار دِينكُم ، فبقيتم بين الكُفَّار لا للعجز عن مُفَارَقَتِهِم ، بل مع القُدْرَة على المُفَارَقَة . فصل وقد ورد لَفْظُ الأرْض على ثَمَانِية أوْجُه : الأول : الأرض المَعْرُوفة . الثاني : أرْضُ المَدِينة ، قال الله - تعالى - : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } . الثالث : أرض مَكَّة ؛ قال - تعالى - [ { قَالُواْ ] كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي : بمكَّة . الرابع : أرْض مِصْر ؛ قال - تعالى - { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 103 ] . الخامس : أرض الجَنَّة ؛ قال تعالى { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 74 ] . السادس : بُطُون النِّساء ؛ قال - تعالى - : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } [ الأحزاب : 27 ] يعني : النساء . السابع : الرحمة ؛ قال - تعالى - : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } [ الزمر : 10 ] ، وقوله - تعالى - : { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } [ العنكبوت : 56 ] أي رحْمَتِي . الثامن : القَلْب ؛ قال - تعالى - : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] ، أي : يحيى القُلُوب بعد قَسْوَتِها . قوله : " فتُهاجِرُوا " مَنْصُوبٌ في جَوابِ الاسْتِفْهَام . وقال أبو البَقَاء : " ألَمْ تَكُنْ " استِفْهام بمعنى التَّوْبِيخ ، " فتُهَاجِرُوا " مَنْصُوبٌ على جواب الاستفهام ؛ لأنَّ النَّفْي صار إثْبَاتاً بالاستفهَام . انتهى . قوله : " لأنَّ النَّفْي " إلى آخره لا يَظْهَر تَعْلِيلاً لقوله : " مَنْصُوبٌ على جواب الاستِفْهَام " ؛ لأن ذلك لا يَصِحُّ ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه عِلّةً لقوله : " بمَعْنَى التَّوْبيخ " ، و [ " ساءت " ] : قد تَقَدَّم القول في " سَاء " ، وأنها تَجْرِي مَجْرى " بِئْس " فيُشْترط في فاعلها ما يُشْتَرَط فَاعِلِ تيك ، و " مصيراً " : تَمْيِِيز . وكما بَيَّن عَدَم عُذْرِهِم ، ذكر وعيدَهُم ، فقال : { فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً } [ أي : ] بِئْس المَصِير إلى جَهَنَّم ، ثم استَثْنى فقال : " إلا المستضعفين " : في هذا الاستثناءِ قولان : أحدُهُما : أنه متصلٌ ، والمسْتَثْنَى منه قوله : { فأولئك مأواهم جهنم } ، والضمير يعودُ على المُتوفَّيْن ظَالِمِي أنْفُسِهم ، قال هذا القَائِل : كأنه قيل : فأولئك في جَهَنَّم إلا المُسْتَضْعَفين ، فعلى هذَا يَكُون هذا استِثْنَاء مُتَّصلاً . والثاني - وهو الصَّحيح - : أنه مُنْقَطِعٌ ؛ لأن الضَّمير في " مَأواهُم " عائدٌ على قوله : { إن الذين توفاهم } ، وهؤلاء المُتوفَّوْن : إمَّا كُفَّارٌ أو عُصَاة بالتَّخَلُّف ، على ما قال المفَسِّرون ، [ وهم ] قادرون على الهِجْرَة ، فلم يندرجْ فيهم المُسْتَضْعَفُون فكان مُنْقَطِعاً ، و " مِنْ الرِّجَال " حالٌ من المُسْتَضْعَفِين ، أو من الضَّمِير المستتر فيهم ، فيتعلَّقُ بمَحْذُوف . قوله : { لا يستطيعون حيلة } في هذه الجُمْلَة أرْبَعة أوجه : أحدها : أنَّها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : ما وَجْهُ استِضْعَافِهم ؟ فقيل : كذا . والثاني : أنها حالٌ . قال أبو البَقَاء : " حالٌ مبيِّنة عن مَعْنَى الاستِضْعَاف " ، قال شهاب الدين : كأنَّه يُشِير إلى المَعْنَى المتقدِّم في كونها جَوَاباً لسُؤال مُقَدَّر . الثالث : أنها مفسِّرةٌ لنفسِ المُسْتَضْعَفِين ؛ لأنَّ وجوه الاستِضْعَاف كثيرة ، فبيَّن بأحد مُحْتَمَلاته ، كأنه قيل : إلا الذين استُضْعِفُوا بسبب عَجْزِهم عن كذا وكذا . الرابع : أنها صِفَة للمُسْتَضْعَفِين أو للرِّجَال ومن بَعْدَهم ، ذكره الزمخشري ، وعبارة البيضاوي أنه صِفَة للمُسْتَضْعَفِين ؛ إذ لا تَرْقِية فِيِهِ ، أي : لا تعيُّن فيه ، فكأنه نكِرةٌ ، فَصَحَّ وَصْفُهُ بالجُمْلَة . انتهى ما ذكرنا . واعتذر عن وصف ما عُرِّف بالألف واللام بالجُمَل التي في حُكم النَّكِرَات ، بأن المُعَرَّف بِهِما لمَّا لم يكن مُعَيَّناً ، جاز ذلك فيه ، كقوله : [ الكامل ] @ 1867 - وَلَقَدْ أمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي … @@ وقد قَدَّمْتُ تَقْرير المَسْألةِ . فصل في معنى الآية المعنى : لا يقدرون على حِيلَةٍ ولا نَفَقَةٍ ، إذا كان بِهِم مَرَضٌ ، أو كانوا تَحْتَ قَهْر قَاهِرٍ يَمْنَعُهم من المُهَاجَرَة . وقوله : " [ و ] لا يهتدون سبيلاً " أي : لا يَعْرِفُونَ طريق الحقِّ ، ولا يَجِدُون من يَدُلهُم على الطَّرِيق . قال مُجَاهد والسُّدِّي وغيرهما : المرادُ بالسَّبيل [ هنا : ] سبيل المَدِينَة . قال القُرْطُبِيّ : والصَّحِيح إنَّه عامٌّ في جَمِيع السُّبُل . روى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بهذه الآيَة [ إلى ] مسلمي مَكَّة ، فقال جندب بن ضمرة لِبنيه : احْمِلُونِي فإني لَسْت من المُسْتَضْعَفِين ، ولا أنِّي لا أهْتَدِي الطَّرِيق ، والله لا أبيتُ اللَّيْلَة بمكّة ، فحملُوه على سَرِير مُتَوجِّهاً [ إلى ] المدينة ، وكان شيخاً كبيراً فَمَات في الطَّريق . فإن قيل : كَيْف أدْخَل الوِلْدَان في جملة المسْتَثْنين من أهْل الوَعِيد ، فإن الاستِثْنَاء إنَّما يَحْسُن لو كَانُوا مستحِقِّين للوَعِيد على بَعْضِ الوُجُوه . قلنا : سُقُوط الوعيدِ إذا كان بِسَبَبِ العَجْزِ ، والعَجْزُ تارة يَحْصُل بسبَبِ عَدَمِ الأهْبَةِ ، وتارةً [ يَحْصُل ] بسبَبِ الصِّبَا ، فلا جرم حَسُن هذا الاستِثْنَاء ، هذا إذَا أريد بالوِلْدَان الأطْفَال ، ويجُوز أن يُرَاد المُرَاهِقُون منهم ، الَّذيِن كَمُلَت عُقُولُهم ، فتوجَّه التَّكْلِيف نَحْوَهُم فيما بَيْنَهُم [ وبين الله ] ، وإن أريد العَبِيدُ والإمَاءُ البَالِغُون ، فلا سُؤال . قوله : { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } وفيه سُؤالان : أحدهما : أن القَوْمَ [ لما ] كانوا عَاجِزِين عن الهِجْرَة ، والعَاجِز عن الشَّيْء غير مُكَلَّف له ، وإذا لم يَكُن مُكَلَّفاً ، لم يكن عَلَيْهِ في تَرْكه عُقُوبَة ، فلم قال : { عسى الله أن يعفو عنهم } والعفو لا يتصَوَّر إلاَّ مع الذَّنْبِ ، وأيضاً : " عَسَى " كلمة إطْمَاع ، وهذا يَقْتَضِي عدم القَطْعِ بحُصُول العَفْوِ . فالجواب عن الأول : أن المُسْتَضْعَف قد يكُون قَادِراً على ذَلِكَ الشَّيْء مع ضرْبٍ من المَشَقَّة ، وتمييز الضَّعْف الذي يَحْصُل عنده الرُّخْصة عند الحَدِّ الذي لا يَحْصُل عنده الرُّخْصَة شاقٌّ ، فربما ظَنَّ الإنْسَان أنَّه عاجز عن المُهَاجَرة ، ولا يكون كَذَلِكَ ، ولا سِيَّمَا في الهِجْرة عن الوَطَنِ ؛ فإنها شَاقَّة على النَّفْس ، وبسبب شِدَّة النَّفْرَة قد يظن الإنْسَان كونه عَاجِزاً ، مع أنَّه لا يكُون كذلك ، فلهذا المَعْنَى كانت الحَاجَة في العَفْو شَدِيدة في هَذَا المقَامِ . السؤال الثاني : ما فَائِدة ذكْر لَفْظَة " عَسَى " هَهُنا ؟ فالجواب : لأن فيها دَلاَلَة على [ أن ] ترك الهِجْرَة أمر مُضَيّق لا تَوْسِعة فيه ، حتى أن المُضْطَر البَيِّن الاضْطِرَار من حَقِّه أن يقُول : عسى الله أن يَعْفُو عني ، فكيف الحال في غَيْرِه ، ذكره الزَّمَخْشَرِي . قال ابن الخَطِيب : والأولى أن يكون الجَوَاب ما تَقَدَّم من أن الإنْسَان لشدة نُفْرَته عن مُفَارَقََة الوَطَن ، رُبَّما ظَنَّ نَفْسَه عَاجِزاً عنها مع أنه لا يَكُون كَذَلِك ، فلهذا المَعْنَى ذكر العَفْوَ بكلمة " عَسَى " لا بالكَلِمَة الدَّالَّة على القَطْع . قال المفَسِّرُون : وكلمة " عَسَى " من اللَّه وَاجِبٌ ؛ لأنه للإطْمَاع ، والله - تعالى - إذا أطْمَعَ عَبْدَه أوْصَلَه إليه . ثم قال : { وكان الله غفوراً رحيماً } . ذكر الزَّجَّاج في كان ثلاثة أوجه : الأول : " كان " قَبْل أن خلق الخَلْق مَوْصُوفَاً بِهَذِه الصِّفَةِ . الثاني : كان مع جَمِيع العِبَاد بِهذه الصِّفَة ، والمقصود بَيَان أن هذا عَادَة الله أجْرَاها في حَقِّ خلقه . الثالث : أنه - تعالى - لو قال : " عفو غفور " كان هذا إخْبَاراً عن كَوْنِهِ كذلك فقط ، ولمَّا قال : إنَّه كان كَذَلِكَ ، فهذا إخْبَار وقع بِخَبَرِه على وَقْفِهِ ، فكان ذلك أدلَّ على كونه صِدْقاً [ وحَقّاً ] ومُبَرَّأ عن الكَذِب . وقال ابن عباس : كُنْتُ أنا وأمِّي ممن عَذَرَ اللَّهُ [ يعني ] : من المستَضْعَفِيِن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدْعُو لهؤلاءِ المسْتَضْعَفِين . " روى أبو هُرَيْرَة ؛ قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : سَمِع الله لِمَنْ حَمِدَه في الرَّكْعَة الأخيرة [ من صَلاَةِ العِشَاء ] قنت : اللَّهمُ أنْجِ عيَّاش بن أبي رَبِيعَة ، اللَّهُم أنْجِ الوليدَ بن الوليدَ ، اللَّهُمَّ أنْج المسْتَضعَفِين من المؤمنين ، اللهم اشْدُدْ وطْأتَكَ على مُضَر ، اللهم اجْعَلْهَا عليهم سِنين كسِنِي يُوسُف " .