Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 61-65)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } اعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين : الأول : كأنه تعالى قال : إني أنعمت عليك قبل طلبك هذه النعم العظيمة ، ومن أنعم عليك قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال ؟ ! . والثاني : أنه تعالى لما أمر بالدعاء فكأنه قيل : الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القدر ؟ فذكر تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته ، وقد تقدم ذِكْرُ الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وهي إما فلكيّة ، وإما عُنْصُرِيَّة وأن الفلكيات أقسامٌ كثيرة ، أحدُها الليلًُ والنهارُ ، وأن أكثرَ مصالح العالم مربوطةٌ بهما فذكرهما الله تعالى ههنا ، وبين أن الحكمة في خلق الليل حصولُ الراحة بالنوم والسكون ، والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء ؛ لِيُمْكِنَ التصرفُ فيها على الوجه الأنفع . فإن قيل : هلاَّ قِيلَ بحسب رِعاية النظم هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال : جعل لكم الليلَ ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك ، فما الفائدة ؟ وما الحكمة في تقدم ذكر الليل ؟ . فالجواب عن الأول : هو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عَدَمِيَّة فهو غير مقصود بالذات ، وأما اليقظة فأمور وجودية ، وهي مقصودة بالذات . وقد بيّن الشيخ عَبْدُ القَاهِر النَّحوِيُّ في دلائل الإعْجَازِ أن دلالة صيغة الاسم على الكمال والتمام أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفَرْق . وأما الجواب عن الثاني : فهو أن الظلمة طَبِيعَةٌ عدمِيَّة ، والنورُ طبيعةٌ وجودية ، والعدم في المُحْدَثَاتِ مقدَّمٌ على الوجود ؛ فلهذا السبب قال في أول سورة الأنعام : { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] . ثم قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } والمعنى أن فضل الله تعالى على الخلق كثيرٌ جداً ، ولكنه لا يشكرونه . واعلم أن ترك الشكر لوجوه : الأول : أن يَعْتَقِدَ الرجل أنّ هذه النعم ليست من الله ، مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، واجبة الدوران ( لذواتها ) فيعتقد أن هذه النعم منها . الثاني : أن يَعْتَقِدَ أن كلَّ هذا العالم إنما حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن نعمةَ تَعَاقُبِ الليل والنهار لما دامت واستمرت نَسِيها الإنسان ، فإذا ابْتُلِيَ الإنسان بفِقْدانِ شيء منها عرف قدرها مثل أن يحبس في بئر عميق مظلمةٍ مًُدَّةً مديدةً ، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قَدْرَ نعمةِ الهواء الصافي وقَدْر نعمة الضوء ، وقد كان بعض الملوك يعذب بعض خدمه بأن يأمر أقواماً يمنعونه من النوم وعن الاستناد إلى الجدار . والثالث : أن الإنسان وإن كان عارفاً بهذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا ، محبًّا المالَ والجاهَ ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كُفْران هذه النعم العظيمة ، ولما كان أكثر الخلق واقعون في أحد هذه الأودية الثلاثة لا جرم قال تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } . ونظيره قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الاعراف : 17 ] . ولما بين الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال : { ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ رَبُّـكُمْ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } . قال الزمخشري : ذَلِكُمُ المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو اللهُ رَبُّكُمْ ، خالق كل شيء " لا إله إلا هو " أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثانيَ له . { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي فأنى تُصْرَفُونَ أي ولِمَ تَعْدِلُونَ عن هذه الدلائل وتكذبون بها ؟ . قوله : { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } العام على الرفع ، وزيْدُ بْنُ عليِّ بالنصب . قال الزَّمخشريُّ : " على الاختصاص " . وقرأ طلحة يُؤْفَكُونَ بياء الغيبة . وقوله : " وكذلك يُؤْفَكُ " أي مثل ذلك الإفك بمعنى كما أَفِكْتُمْ عن الحق مع قيام الأدلة { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } يعنى كلّ من جحد بآيات الله ولم يَتَأَملْهَا ولم يكن فيه عزمُ طَلَبِ الحقِّ وخَوْفِ العاقبة أفِكَ كما أَفِكُوا . قوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً … } لما تقدم أن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما أن يكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام ، وذكر منها أحوالَ الليل والنهار كما تقدم ، وذكر منها أيضاً ههنا الأرض والسماء فقال : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً } قال ابن عباس رضي الله عنهما قراراً أي منزلاً في حال الحرارة وبعد المَمَات والسماء بناء أي قائماً ثابتاً وإلا وَقَعَتْ علينا . وقيل : سَقْفاً كالقُبَّة ، ثم ذكر دلائل الأنفس ، وهي دلالة أحوال بَدَن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم ، وهو قوله : { وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } . قوله : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } قرأ أبو رَزِين والأعْمَشُ صِوَركُمْ بكسر الصاد فراراً من الضمة قبل الواو . وقرأت فِرْقَةٌ بضم الصاد وسكون الواو ، وجعلوه اسم جنس لصُورَةٍ ، كبُسْر وبُسْرَةٍ . فصل قال مقاتل : خلقكم فأحسن خَلْقكم . قال ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُمَا خُلِقَ ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده ، وغَيْرُ بن آدم يتناول بفيه . { وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } ، قيل : من غير رزق الدوابِّ . ثم قال : { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ فَتَـبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } ، ومعنى تبارك إمّا الدوام والتبيان وإما كثرة الخيرات . ثم قال : " هُوَ الحَيُّ " وهذا يفيد الحَصْر ؛ ولأن لا حيَّ إلا هو . ثم نبّه على الوحدانية فقال : لا إله إلا هو ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال : { فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } . ثم قال : { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . والمراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجَلال والعِزة استحق لذاته أن يقال له : الحمد لله رب العالمين وقال الفراء هو خبر ، وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحْمدُوهُ . وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما من قال : لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين ، فذلك قوله : فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين .