Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 32-35)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } قرأ نافعٌ وأبو عمرو " الجواري " بياء في الوصل . وأما الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف ، وهي السفن ، وأحدثها جاريةٌ ، وهي السائرة في البحر . فإن قيل : الصفة متى لم تكن خاصةً بموصوفها امتنع حذف الموصوف ، لا تقول : مررت بماشٍ ؛ لأن المَشْيَ عامٌّ ، وتقول : مررت بمهندس وكاتبٍ ، والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك ؟ . فالجواب : أن قوله : " في البحر " قرينة دالة على الموصوف ، ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق ، فوليت العوامل دون موصوفها . و " في البَحْرِ " متعلق " بالجواري " ، إذا لم يجر مجرى الجوامد ، فإن جرى مجراه كان حالاً منه ، وكذا قوله : " كالأَعْلاَمِ " وهي الجبال قالت الخَنْسَاءُ : @ 4383ـ وَإِنَّ صَخْراً لتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ @@ روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد ( بـ ) قصيدتها هذه ، فلما وصل ( الراوي ) ( إلى ) هذا البيت قال : قَاتَلَهَا اللهُ مَا رَضِيَتْ تَشْبِيهَهُ بالجَبَلِ حَتَّى جَعَلتْ في رَأْسِهِ نَاراً . وقال مجاهد : الأعلام القصور ، واحدها علم . وقال الخليل بن أحمد : كل شيءٍ مرتفع عند العرب فهو علم وسمع : هذه الجوار ، وركبت الجوار ، وفي الجوار ، بالإعراب على الراء تناسياً للمحذوف ، وتقدم هذا في قوله تعالى : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] . فصل اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أمران : أحدهما : أن يستدل به على وجود الإله القادر الحكيم . الثاني : أن يعرف ما فيه من النِّعم العظيمة لله تعالى على العباد ، وأما وجه الأول فإن هذه السفن العظيمة التي كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الريح على أسرع الوجوه وعند سكون الرياح ( تقف ) وقد تقدم في سورة النحل أن مُحَرِّك الرياح و مُسَكِّنَها هو الله ( سبحانه و ) تعالى ؛ إذْ لا يقدر أحد من البشر على تحريكها ولا على تسكينها ، وذلك يدل وجود الإله القادر مع أن تلك السفينة في غاية الثقل ومع ثقلها بقيت على وجه الماء أيضاً . وأما دلالتها على النعم العظيمة ، وهو ما فيها من المنافع فإنه تعالى خص كل جانب من الأرض بنوع من الأمتعة ، فإذا نقل متاع هذا الجانب إلى الجانب الآخر في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة بالتجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفن . قوله : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ } التي تجري بها { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ } قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة : " إنْ يَشَأْ " لأن السكون علامة الجزم ، وورشٌ عن نافع بلا همز وقرأ ناقع " يُسْكِنِ الرِّيَاحَ " على الجمع والباقون " الريحَ " على التوحيد . وقوله : " فَيَظْللْنَ " العامة على فتح اللام التي هي عين الكلمة وهو القياس ؛ لأن الماضي بكسرها ، تقول ظَلِلْتُ قائماً . وقرأ قتادة بكسرها وهو شاذ ، نحو : حسب يحسب وأخواته وقد تقدمت آخر البقرة . وقال الزمخشري : قرىء بفتح اللام وكسرها من ظَلَّ يظل ويظل ، نحو : ضَلّ يَضَلّ ويَضِلُّ . قال أبو حيان : وليس كما ذكر ؛ لأن يضَلُّ بفتح العين من ضَلِلْت بكسرها في الماضي ويَضِلّ بالكسر من ضَلَلْتُ بالفتح وكلاهما مقيس يعني أن كلاً منهما له أصلٌ يرجع إليه بخلاف " ظَلَّ " فإن ماضيه مكسور العين فقط . والنون أسمها ، و " رَوَاكِدَ " خبرها ويجوز : أن يكون " ظل " هنا بمعنى صار ؛ لأن المعنى ليس على وقت الظلول ، وهو النهار فقط وهو نظير : أين باتت يده ، من هذه الحيثية . والرُّكود والثُّبُوتُ الاستقرارُ قال : @ 4384ـ وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا رُكُوداً بِوَادِي الرَّبْرَب المُتَفَرِّقِ @@ والمعنى فيظللن رواكد أي ثوابت على ظهر البحر ، لا تجري { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على بلاء الله " شَكُورٍ " على نعمائه . قوله : " أوْ يُوبِقْهُنَّ " عطف على " يُسْكِنْ " قال الزمخشري : لأن المعنى : إن يَشَأْ يُسْكِنْ فَيَرْكُدْنَ ، أو يَعْصِفْهَا فَيَغْرقْنَ بِعَصْفِهَا ، قال أبو حيان : ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها بقلع لوح أو خسفٍ . قال شهاب الدين : والزَّمخشريُّ لم يذكر أن ذلك متعين ، وإنما ذكر شيئاً مناسباً ؛ لأن قوله : يسكن الرياح يقابله " يعصفها " فهو في غاية الحسن والطِّباق . فصل معنى " يُوبِقْهُنَّ " يُهْلِكْهُنَّ ويغرقهن " بِمَا كَسَبُوا " أي بما كسبت ركابها من الذنوب { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من ذنوبهم فلا يعاقب عليها . يقال : أوْبَقَهُ أي أهلكه ، كما يقال للمجرم : أوْبَقَتْهُ ذنوبه أي أهلكته . فإن قيل : ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله ؟ . فالجواب : معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ " ويعفو " فقد استأنف الكلام . والعامة على الجزم عطفاً على جواب الشرط . واستشكله القشيريُّ ، وقال : لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكداً ويهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف : " وَيَعْفُ " على هذا لأن المعنى يصير : إن يشأ يعف ، وليس المعنى على ذلك ، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى . قال أبو حيان : وما قاله ليس بجيّد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم . وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو . وهي تحتمل أن تكون كالمجزوم ، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في " مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ " . ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً ، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السَّيِّئات . وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار " أنْ " بعد الواو كنصبه في قول النابعة : شعراً : @ 4385ـ فَإنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ رَبِيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بذنابِ عَيْشٍ أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ @@ بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه ، وهذا كما ترى بالأوجه الثلاثة بعد الفاء في قوله تعالى : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 284 ] كما تقدم آخر البقرة ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من " أَنْ " المضمرة والفعل على مصدر متوهَّم من الفعل قبله تقديره : أو يقع إيباقٌ ، وعفوٌ عن كثيرٍ . فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى إلا أن في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم وفي تيك عطفُ فعل على مثله . قوله تعالى : { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } قرأ نافع وابن عامر برفعه والباقون بنصبه . وقرىء : بجزمه أيضاً . فأما الرفع فواضح جداً ، وهو يحتمل وجهين : الاستئناف بجملة فعلية , والاستئناف بجملة اسمية ، فتقدر قبل الفعل مبتدأ أي وهو يعلم الذين و " الذين " على الأول فاعل ، وعلى الثاني مفعول . وأما قراءة النصب ففيها أوجه : أحدها : قال الزجاج : على الصرف قال : ومعنى الصرف صرف العطف عن اللفظ إلى العطف على المعنى قال : وذلك أنه لم يحسن عطف " ويعلم " مجزوماً على ما قبله ؛ إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار " أن " ليكون من الفعل في تأويل اسم . وقال البغوي : قرىء بالنصب على الصَّرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب كقوله : { وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] نقل من حال الجزم إلى النصب استخفافاً وكراهية توالي الجزم . الثاني : قول الكوفيون : إنه منصوب بواو الصرف يعنون أن الواو نفسها هي الناصبة ، لا بإضمار " أنْ " وتقدم معنى الصَّرف . الثالث : قال الفارسي ونقله الزمخشري عن الزجاج إن النصب على إضمار " إنْ " ؛ لأن قبلها جزاءً تقول : ما تصنع أصنع ، وأكرمك وإن شئت : وأكرمك على : وأنا أكرمك ، وإن شئت : وأكرمك جزماً . قال الزمخشري : وفيه نظر ؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أنَّ النَّصب بالواو والفاء في قوله : إن تَأْتِنِي آتِكَ ، وأُعطِيكَ ضعيفٌ ، وهو نحو من قوله : @ 4386ـ … وَأَلْحَـقَ بِالحِجَـازِ فَأَسْتَرِيحَـا @@ فهذا ( لا ) يجوز ، لأنه ليس بحَدٍّ الكلام ولا وجه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً ؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه . قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحصل القراءة المستفيضة على وجةٍ ليس بحدِّ الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه . وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة . الرابع : أن ينتصب عطفاً على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه : { وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] { وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ } [ الجاثية : 22 ] قاله الزمخشري . قال أبو حيان : ويبعد تقديره : لينتقم منهم لأنه مرتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن " لينتقم منهم " وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقةً بفعل محذوف تقديره " وَلِنجْعَلَهُ آيَةً للِنَّاسِ فَعَلنَا ذلك ، ولتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ " وهو كثيراً ( ما ) يقدر هذا الفعل مع هذه اللام إذا لم يكن فعل يتعلق به . وقال شهاب الدين : بل يحسن تقدير : لينتقم ؛ لأنه يعود في المعنى على إهلاك قوم المترتب على الشرط . وأما الجزم فقال الزمخشري : فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم " وَيَعْلَمْ " ؟ ! . قلت : كأنه قيل : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين . وإذا قرىء بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } في محل نصب ، بسدها مسدَّ مفعولي العلم . فصل المعنى وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله عزّ وجلّ بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله ، كما أنه لا مخلص لهم إذا وُقصت السفن وإذا عصفت الرياح ، ويكون ذلك سبباً لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله .