Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 15-16)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } تقدم نظيره . قرأ الكوفيون : إحْساناً ، وباقي السبعة " حسناً " بضَمِّ الحاء وسكون السين ، فالقراءة الأولى يكون " إحْسَاناً " فيها منصوباً بفعل مقدر أي وصيناه أن يحسن إليهما إِحْسَاناً وقيل : بل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى " أَلْزَمْنَا " فيكون مفعولاً ثانياً وقيل : بل هو منصوب على المفعول له ، أي وصَّيْنَا بهما إحْسَاناً منا إليهما . وقيل : هو منصوب على المصدر ، لأن معنى وصينا أحْسَنًّا ، فهو مصدر صريحٌ ، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء . وقال ابن عطية : إنها تتعلق إما " بوصَّيْنَا " وإما " بإحْسَاناً " وردَّ عليه أبو حيان هذا الثاني بأنه مصدر مؤول فلا يتقدم معموله عليه ، ولأن " أَحْسَنَ " لا يتعدى بالباء ، وإنما يتعدى باللام لا تقول : أَحْسِنْ بزَيْدٍ على معنى وصول الإحسان إليه . ورد بعضهم هذا بقوله : { أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي } [ يوسف : 100 ] . وقيل : هو بغير هذا المعنى . وقدر بعضهم : ووصينا الإنسان بوالديه ذَا إحْسَانٍ ، يعني فيكون حالاً . وأما " حُسْناً " فقيل فيها ما تقدم في " إحسان " . وقرأ عِيسَى والسُّلَمي بفتحهما . وقد تقدم معنى القراءتين في البقرة وفي لقمان . قال ابن الخطيب : حجة من قرأ إحساناً قوله تعالى في سورة بني إسرائيل : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ومعناه أمر بأن يوصل إليهما إحساناً . وحجة القراءة الأخرى قوله تعالى في سورة العنكبوت : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [ العنكبوت : 8 ] ولم يختلفوا فيه . والمراد أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسنا ، كما يقال : هذا الرجل عِلْمٌ وكَرَمٌ . قوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الكاف ، والباقون بضمها ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل الضَّعْف والضُّعْف ، والفَقْر والفُقْر ، ومن غير المصادر الدَّفُّ ، والدُّفُّ ، والشَّهْدُ والشُّهْدُ وقال الواحدي : الكُرْهُ مصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ والكَرْهُ الاسمُ كأنه الشيء المكروه ، قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] فهذا بالضم ، وقال : { تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } [ النساء : 19 ] فهذا في موضع الحال ، وما كان مصدراً في موضع الحال فالفتح فيه أحسن . وقال أبو حاتم : الكره بالفتح لا يحسن ، لأنه بالفتح الغَصْبُ والغَلبة . ولا يلتفت لما قاله لتواتر هذه القراءة . وانتصابهما إمَّا على الحال من الفاعل أي ذات كره ، وإِمَّا على النعت لمصدر مقدر أي حَمْلاً كُرْهاً . فصل قال المفسرون : حملته أمُّه مشقةً على مشقةٍ ، ووضعته بمشقَّةٍ وليس المراد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة ، لقوله تعالى : { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ } [ الأعراف : 189 ] فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً يريد شدة الطلق . فصل دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } فذكرهما معاً ، ثم خص الأُمَّ بالذكر فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } وذلك يدل على أن حقها أعظمُ وأَنَّ وصول المشاقّ إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب . قوله : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ } أي مدة حمله . وقرأ العامة وفِصَالُهُ مَصْدَر " فَاصَل " كأن الأم فَاصَلَتْهُ وهُوَ فَاصَلَهَا . والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ وقَتَادَةُ : وفَصْلُهُ . قيل : والفَصْلُ والفِصَالُ بمعنى كالعَظْمِ والعِظَامِ والقَطْفِ والقِطَافِ . ولو نصب " ثلاثين " على الظرف الواقع موقع الخبر جاز وهو الأصل ، هذا إذا لم نُقدر مضافاً فإن قدرناه أي مُدَّة حَمْلِهِ لم يجز ذلك وتعين الرفع لتصادق الخَبَر والمُخْبَرِ عَنْهُ . فصل دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرَّضَاع ثلاثونَ شَهْراً وقال تعالى : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر . وروى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : إذا حملتِ المرأةُ تسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرينَ شهراً . وروي عن أبي بكر ( الصديق ) رضي الله عنه أَنَّ امرأةً رفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها . فقال عمر : لا رَجْمَ عليها وذكر الطريق المتقدمة . وعن عقمان نحوه وأنه يعم بذلك فقرأ ابن عباس عليه الآية . وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه . قوله : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } لا بد من جملة محذوفة ، تكون " حَتَّى " غاية لها ، أي عاش واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده ، قال ابن عباس في رواية عطاء الأشد ثماني عشرة سنة وقيل : نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة ، فذلك قوله : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مَضَت القِصَّةُ . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قُحَافَةً عُثْمَانَ بْنِ عمرو ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو . وقال علي بن أبي طالب : الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده ، وكان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام فلما بلغ أربعين سنة ، ونُبِّىء النبيُّ صلى الله عليه وسلم آمن به ودعا ربه فقال : { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } بالهداية والإيمان . وأكثر المفسرين على أن الأشد ثلاثٌ وثلاثون سنةً . فصل قال ابن الخطيب : مراتب سن الحيوان ثلاثة ، لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية ، والرطوبة الغريزية زائدة في أول العمر ، وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلى إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام : فأولها : أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية ، وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذَوَاتِها وزيادتها في الطول والعرض والعُمْق وهذا هو سن النُّشُوِّ ( والانتماء ) . والثانية : وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافيةً بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نُقْصَان ، وهذا هو سنّ الوقوف وهو سِنّ الشباب . والمرتبة الثالثة : أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية . ثم هذا النقصان على قسمين : فالأول : هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة . والثاني : هو النقصان الظاهر وهو سن الشَّيْخُوخَةِ . قوله : " أَرْبَعِينَ " أي تمامها ، " فأربعين " مفعول به . قال المفسرون : لم يبعث نَبِيٌّ قَطُّ إلاَّ بعد أربعين سنة . قال ابن الخطيب : وهذا يشكل بعيسى عليه الصلاة والسلام فإنه تعالى جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال : الأغلب أن ما جاء ( ه ) الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ـ . قوله : " أَوْزِعْنِي " قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) معناه أَلْهِمْنِي . قال الجوهري : أَوْزَعْتُهُ أَغْرَيْتُهُ به ، فَأُوزعَ بِه فَهو مُوزعٌ به أي مُغْرًى به ، واسْتَوْزَعْتُ اللهَ فَأَوْزَعَنِي أي اسْتَلْهَمْتُهُ فأَلْهَمَنِي . قوله : { وأَن أعمل صالحاً ترضاه } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أجاب الله عزَّ وجَلَّ دعاء أبي بكر ، فأعتق تسعةً من المؤمنين يُعَذَّبُونَ في الله ، منهم بلالٌ ، وعامرُ بنُ فُهَيْرة ، فلم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه . ودعا أيضاً فقال : " فَأَصْلِح لِي فِي ذُرِّيَّتِي " فأجاب الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً . فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً . فأدرك أبو قحافة النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وابنه أبو بكر ، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابن عبد الرحمن أبو عتيق ، كلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة . قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } أصلح يتعدى بنفسه لقوله : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] وإنَّمَا تعدى بـ " في " لتضمنه معنى : الطف بي في ذريتي أو لأنه جعل الذرية طرفاً للاصلاح كقوله : @ 4452ـ يَخْـرُجُ فِـي عَـرَاقِيهـا نُصَـلِّـي @@ والمعنى هب لي الصلاح في ذريتي ، وأوقعه فيهم . قوله : { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة ، ومع كونه من المسلمين . قوله : { أولئك الذين نتقبل عنهم } قرأ الأَخَوانِ وحَفْصٌ : نَتَقَبَّلُ بفتح النون مبنياً للفاعل ونصب " أحسن " على المفعول به ، وكذلك " نتَجَاوَزُ " والباقون بنيابتهما للمفعول ، ورفع " أحْسَن " لقيامه مقام الفاعل ، ومكان النون ياء مضمومة في الفعلين . والحَسَنُ والأَعْمَشُ وعِيسَى بالياء من تحت ، والفاعل الله تعالى . ( فصل ) ومعنى أولئك أي أهل هذا القول الذي تقدَّم ذكره ، فمن يدعو بهذا الدعاء نتقبل عنهم ، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله . وقوله : { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن . فإن قيل : كيف قال : { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } والله يَتَقبَّل الأحْسَنَ وَمَا دُونَه ؟ ! . فالجواب من وجهين : الأول : المراد بالأحسن الحسن ، كقوله تعالى : { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [ الزمر : 55 ] وكقولهم : النَّاقِصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان . الثاني : أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ، ولا عقاب ، والأحسن ما يغاير ذلك وهو المندوب أو الواجب . وقوله : { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } فلا يعاقبهم عليها . قوله : { في أصحاب الجنة } فيه أوجه : أظهرها : أنه في محل الحال أي كائنين في جملة أصحاب الجنة كقولك : " أَكْرَمَنِي الأَميرُ في أصحابِهِ " أي في جُمْلَتِهِم . والثاني : أن " في " معناها " مَعَ " . الثالث : أنها خبر ابتداء مضمر أي هُمْ في أصحاب الجنَّة . قوله : { وَعْدَ ٱلصِّدْقِ } مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } في معنى الوعد ، فيكون قوله : " نَتَقَبَّلُ وَنَتَجَاوَزُ " وعداً من الله بالتقبل والتجاوز والمعنى ( أنه ) يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء ، وذلك وعد من الله ، فبين أنه صدق لا شك فيه .