Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 15-16)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما حكى عن اليهود والنَّصارى نَقْضَ العَهْد ، دَعَاهُم بعد ذلك إلى الإيمان بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، فقال : { يَٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } وأراد اليَهُود والنَّصَارى ، وَوَحَّد " الكِتَاب " إرادة للْجِنْس . ثم قال : { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ } . قال ابن عباس : أخْفُوا آية الرَّجْمِ من التَّوْراة وبَيَّنَها الرَّسُول - عليه السلام - لهم ، وهو لَمْ يَقْرأ [ كتاباً ] ولم يتعلَّم علماً من أحَد ، وهذه مُعْجِزة ، وأخفوا صِفَةَ مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - في الإنْجِيلِ ، وغير ذَلِك . قوله : " يُبَيِّن " في محلِّ نَصْب على الحَال من " رَسُولُنَا " ، أي : جَاءَكم رسولُنا في هذه الحالة ، و " ممَّا " يتعلَّق بَمْحذُوف ؛ لأنَّه صِفَة لـ " كَثيراً " ، و " مَا " موصولةٌ اسميَّة ، و " تُخْفُون " صلتُهَا ، والعائد مَحْذُوفٌ ، أي : من الذين كُنْتُم تُخْفُونَهُ ، و " مِن الكِتَابِ " متعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من العَائِد المَحْذُوف . وقوله : { وَيعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ، أي : لا يُظْهِر كثيراً مما كُنْتُم تُخْفُون من الكِتَاب ، فلا يتعرَّض لكم ، ولا يُؤاخذكم به ؛ لأنَّه لا حاجةَ له إلى إظْهَارِهِ ، والفَائِدةُ في ذلك : أنهم علموا كَوْنَ الرَّسُول عالماً بكُلِّ ما يُخْفُونَه ، فيصير ذلك داعياً لهم إلى تَرْكِ الإخْفَاء ، لئلا يفتضح أمرهم . والضَّمِير في " يُبَيِّنُ " و " يَعْفُو " يعود على الرَّسُول . وقد جوَّز قومٌ أن يعود على الله تعالى ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ : " يُبَيِّنُ " من الإعراب ، ويمتنعُ أن يكون حَالاً من " رَسُولُنَا " لعدم الرَّابِط ، وصِفَةُ " كَثِير " محذوفة لِلْعِلْمِ بها ، وتَقْدِيرُه : عن كثير من ذُنُوبِكُمْ ، وحذف الصِّفَة قَلِيلٌ . قوله : { قَد جَاءَكُم من اللَّهِ نُورٌ } لا محلَّ له [ من الإعراب ] لاستئنَافِه ، و " من اللَّه " يَجُوز أن يتعلق بـ " جاء " ، وأن يتعلَّق بمحذُوف على أنَّه حَالٌ من " نُورٌ " ، قدِّمت صفة النَّكرة عليها ، فنُصِبَتْ حالاً . فصل في معنى الآية والمراد بالنُّور : محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وبالكتاب : القُرْآن ، وقيل : المراد بالنُّور : الإسلام ، وبالكِتَاب القُرْآن ، وقيل : النُّور والكتاب والقُرْآن ، وهذا ضعيفُ ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجبُ التَّغَاير . قوله تعالى : " يَهْدِي " فيه خَمْسَة أوجه : أظهرها : أنَّه في محلِّ رفْع ؛ لأنَّهُ صفة ثَانِيَةٌ لـ " كِتَاب " ، وصفَهُ بالمفرد ثم بالْجُمْلَة ، وهو الأصْلُ . الثاني : أن يكون صِفَةً أيضاً لكن لـ " نُورٌ " ، وصَفَهُ بالمُفْرَد ثم بالجُمْلَة ، ذكره أبو البقاء وفيه نظر ، إذ القَاعِدَةُ أنَّه إذا اجْتَمَعَتِ التَّوابع قُدِّم النَّعْت على عَطْف النَّسَق ، تقول جاء زَيْدٌ العَاقِل وعَمْرو ، ولا تقُولُ : جاء زيْدٌ وعمرو العَاقِل ؛ لأنَّ فيه إلباساً أيضاً . الثالث : أن يكون حالاً من " كِتَاب " ، لأن النَّكرة لما تخصَّصَت بالوَصْف قَرُبت من المَعْرِفة . وقياس قول أبي البقاء أنَّه يجوز أن يكون [ حالاً من " نُورٌ " ، كما جاز أن يكُون ] صِفَة لَهُ . الرابع : أنَّهُ حال من " رسُولُنا " بدلاً من الجُمْلَة الواقِعَة حالاً له ، وهي قوله : " يُبَيِّنُ " . الخامس : أنَّهُ حالٌ من الضَّمير في " يُبَيِّن " ذكرهما أبُو البقاء ، ولا يَخْفَى ما فيهما من الفَصْلِ ؛ ولأن فيه ما يُشْبِهُ تَهْيِئَة العَامِل للعَمَلِ ، وقَطْعه عنه ، والضَّمِير في " بِهِ " يعُودُ على من جعل " يَهْدي " حالاً منه ، أو صِفَة لَه . قال أبو البقاء : فَلِذَلِكَ أفْرِدَ ، أي : إن الضمير في " بِهِ " أُتِي به مُفْرداً ، وقد تقدَّمه شيئان وهُمَا : " نُورٌ " و " كِتَابٌ " ، ولكن لما قصد بالجُمْلَة من قوله : " يَهْدي " الحال ، أو الوصف من أحدهما ، أُفْرِد الضَّمير . وقيل : الضمير في " بِهِ " يعود على الرَّسُول [ وقيل : يَعُودَ على " السَّلام " ] ، وعلى هذين القَوْلَيْن لا تكون الجُمْلَةُ من قوله : " يَهْدِي " حالاً ولا صِفَةً لعدم الرَّابط . و " مَنْ " موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، ورَاعَى لَفْظَها في قولِهِ : " اتَّبَع " فلذلك [ أفرد الضَّمِير ، ومَعْناها ، فَلِذَلك ] جمعه في قوله : " وَيُخْرِجُهُم " . وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر ، ومُسْلِم بن جُنْدُب ، والزُّهَري " بهُ " بضم الهاء حيث وقع ، وقد تقدَّم أنَّه الأصْل . وقرأ الحسن " سُبْلَ " بسكون الباء ، وهو تخْفيفٌ قياسي به كقولهم في عُنُق : عُنْق ، وهذا أوْلَى لِكَوْنه جمعاً ، وهو مَفْعُول ثانٍ لـ " يَهْدِي " على إسقاط حَرْفِ الجرِّ ، أي إلى " سُبْل " ، وتقدَّمَ تحقيق نظيره ، ويجُوزُ أن يَنْتَصِبَ على أنَّهُ بدَل من " رِضْوَانَهُ " إما بَدَل كُل من كلّ لأن سبل السلام [ هي رضوان الباري تعالى ، وإما بدل اشتمال ؛ لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام ؛ أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى ، وإما بدل ] بعض من كل ؛ لأن سبل السلام بعض الرضوان . فصل معنى { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ } أي : بالكِتَابِ المُبِين { من اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } أي : كان مطلوبُهُ من طلب الدِّين اتِّباع الدِّين [ الذي ] يَرْتَضِيه اللَّه ، " سُبُلَ السلام " [ أي : طُرُق السَّلامَة ] وقيل : السلام هو الله عزَّ وجلَّ ، و " سُبُلَهُ " : دينَهُ الذي شرع لِعبَادِه ، ويجُوزُ أن يكون على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : سُبُل دار السلام ، ونظيره قوله : { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [ محمد : 4 - 5 ] ومعلومٌ أنَّه ليس المُرادُ هِدَايَة الاسْتِدْلاَل ، بل الهدايَةُ إلى طَرِيق الجَنَّة . ثم قال : { ويخْرِجُهُم من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ } أي : من ظُلمات الكُفْر إلى نورِ الإيمان " بإذْنِهِ " بتوفيقه و " بإذنِهِ " متعلِّق بـ " يُخْرِجُهُم " أي : بتَيْسِيره أو بأمْره ، و " البَاءُ " للحال أي : مُصَاحِبِين لِتَيْسِيرِه أو للسَّبَبِيَّة ، أي : بسبب أمْرِه المُنَزَّل على رسوله . وقيل : " الباء " تتعلق بالاتِّبَاع ، أي : يتَّبع رِضْوَانه بإذْنِه . قال ابنُ الخَطِيب : ولا يجُوزُ أن تتعلَّق بالهِدَاية ، [ ولا بالإخْرَاج ؛ لأنَّه لا مَعْنَى له ، فَدَلَّ ذلك على أنَّه لا يتبع رضوان الله إلا من أرَادَ اللَّه منه ذَلِكَ ] . ثم قال : { يَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيم } وهو الدِّين الحقُّ .