Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 18-18)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واعلم : أنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا يقُولُون ذلك ؛ فَلِهَذا ذكر المُفَسِّرُون وُجُوهاً : أحدها : أنَّ هذا من باب حَذْفِ المُضَاف ، أي : نحن أبناءُ رُسُلِ الله ، كقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] . الثاني : أن لَفْظَ الابْنِ كما يُطلَقُ على ابن الصَّلْب ، قد يُطْلَق - أيضاً - على من يتَّخِذُ أبْنَاء ، بمعنى تَخْصِيصه بِمَزيدِ الشَّفقة والمحبَّة ، فالْقَوْم لما ادَّعَوْا عِنَاية الله بِهِم ، ادَّعَوْا [ أنَّهُمْ أبْنَاءُ لِلَّه ] . الثالث : أنَّ اليهود زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ [ ابْن اللَّه ] ، والنَّصَارى زَعَمُوا أنَّ المسيح ابن الله ، ثم زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ والمسيحَ كانَا مِنهُم كأنَّهمُ قالوا : نَحْنُ أبْنَاء الله ، ألا تَرَى أنَّ أقارِبَ المَلكِ إذا فاخَرُوا أحَداً يقولون : نَحْنُ مُلُوك الدُّنْيَا ، والمُرادُ : كَوْنهُم مُخْتَصِّينَ بالشَّخْصِ الذي هو الملك ، فكذا هَا هُنَا . الرابع : قال ابن عبَّاسٍ : إن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا جماعَةً من اليَهُودِ إلى دين الإسْلام ، وخوَّفهم بِعِقَاب اللَّه تعالى ، فقَالُوا كيف تُخَوِّفُنَا بِعِقَاب الله ونَحْنُ أبْنَاء الله وأحِبَّاؤُه ، فهذه الرِّواية [ إنما ] وقعت عن تلك الطَّائِفَة . وأما النَّصارى فإنَّهُم يتلون في الإنجيل أنَّ المسيح قال لَهُم : أذهب إلى أبِي وأبيكُمْ ، وقيل : أرَادُوا أن اللَّه تعالى كالأبِ لنا في الحُنُوِّ والعَطْفِ ، ونحن كالأبْنَاء [ له ] في القُرْبِ والمَنْزِلَة . وقال إبْراهيم النَّخْعِي : إنَّ اليَهُود وجدوا في التَّوْرَاة ، يا أبناء [ أحْبَاري ، فَبَدَّلوا يا أبناء ] أبْكَارِي فمن ذلك قالوا : { نَحْنُ أبْنَاءُ ٱللَّهِ وأحِبَّاؤُهُ } ، وجملة الكلام أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يَرَوْنَ لأنْفُسِهِم فَضْلاً على سَائِر الخَلْقِ ، بسبب أسْلافِهِم الأنْبِيَاء إلى أن ادَّعَوْا ذلك . قوله تعالى : " فَلِمَ يُعَذِّبكُمْ " هذه الفاء جوابُ شرط مقدَّر ، وهو ظاهرُ كلام الزَّمَخْشَرِي ، فإنَّهُ قال : فإن صَحْ أنكم أبْنَاء اللَّه وأحِبَّاؤُه فلم تُذْنِبُون وتُعذَّبُون ؟ ويجُوزُ أن يكُون الكلامُ كالفَاءِ قَبْلَها في كَوْنِها عَاطِفَة على جُمْلةٍ مُقَدَّرة ، أي : كَذَبْتُم فلم يُعَذِّبكُم ، و " الباءُ " في " بِذُنُوبِكُم " سببية ، و " مِمَّنْ خَلَقَ " صِفَة لـ " بَشَر " فهو في مَحَلِّ رفع مُتعلِّق بِمَحْذُوف . فإن قيل : القَوْمَ إما أن يدعُوا أنَّ الله عَذَّبَهُم في الدُّنْيَا أو يدَّعُوا أنَّه سيُعَذِّبُهُم في الآخِرَة ، فإن كان مَوْضِع الإلْزَامِ عَذَاب الدُّنْيَا ، فهذا لا يقْدَحُ في ادِّعَائِهِم كونهم أحِبَّاءُ الله ؛ لأنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كان يدعى هو وأمَّتهُ أحِبَّاء الله ، ثم إنَّهُم ما خَلَوْا عن مَحِنِ الدُّنْيَا كما في وَقْعَةِ أحُد وغَيْرها ، وإن كان مَوْضِعُ الإلْزَام هو أنَّهُ تعالى سيُعَذِّبُهُم في الآخِرة ، فالقَوْمُ يُنْكِرُون ذلك ، ومجرد إخْبَارِ مُحَمَّد - عليه السلام - ليس بكافٍ في هذا البَابِ ، فكان هذا اسْتِدْلالاً ضَائِعاً . الجواب : من وُجُوه : أحدُها : أنَّ موضع الإلْزَام هو عَذَابُ الدُّنْيَا ، والمعارَضَةُ بِيَوم أُحُدٍ غير لازِمَة ؛ لأنَّا نَقُول : لو كانوا أبْنَاء الله وأحِباءهُ ، لِمَ عذَّبَهُم في الدُّنيا ؟ ومَحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ادَّعى أنَّه من أحِبَّاء الله ولم يَدَّع أنَّهُ من أبْنَاء اللَّه . الثاني : أنَّ موضع الإلْزَام عذاب الآخِرَة ، واليَهُود والنَّصَارى كانوا مُعْتَرِفِين بِعَذَاب الآخِرَة ، كما أخْبَر اللَّه عَنْهُم أنَّهُم قالوا : { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] . الثالث : أن قوله : " فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ " أي : لِمَ عَذَّبَ من قَبْلَكُمْ بذنوبهم فَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وخَنَازِير ، إلاَّ أنَّهُم لما كانوا من جِنْسِ أولَئِكَ المُتَقَدِّمِين ، حسنت هذه الإضَافَةُ وهذا أوْلَى ؛ لأنَّهُ تعالى لم يَكُنْ لِيَأمُر رسُوله - عليه الصلاة والسلام - أن يحتَجَّ عليهم بِشَيءٍ لم يَدْخُل بَعْدُ في الوُجُود . قال تعالى : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } كسائر بَنِي آدَم يُجْزَوْنَ بالإحْسَان والإسَاءَة ، { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } : فضلاً ، { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } : عدلاً ، ليس لأحَد عليه [ حقٌّ يوجبُ عليه ] أن يغفر له ، يَفْعَلُ ما يَشَاءُ ، ويَحْكُم ما يُرِيدُ . ومذهب المُعْتَزِلَة : أنَّ كُلَّ من أطَاعَ الله واحْتَرَز عن الكَبَائِرِ ، فإنَّه يجب على الله عقلاً إيصال الرَّحْمة والنِّعْمة إليه أبدَ الآبَاد ، ولو قطع عَنْه تلك النِّعْمة لحظةً واحِدَة لبَطَلَتِ الإلهيَّة ، وهذا أعْظَمُ من قول اليَهُود والنَّصَارى نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأحِبَّاؤُه . كما أنَّ قوله : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } إبطالاً لِقَوْلِ اليَهُود ، فبأن يكون إبْطَالاً لِقَوْل المُعْتَزِلَة أوْلَى . ثم قال تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } يعني : من كان هكذا أو قُدْرَته هكذا ، كيف يستحق البَشَرُ الضَّعِيفُ عليه حقاً واجباً ؟ وكيف يَمْلِكُ عليه الجَاهِلُ بعبادته النَّاقِصَة دَيْناً لازِماً ؟ { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] . ثم قال : " وَإلَيْه المَصِيرُ " أي : وإليه يَؤُول أمْر الخَلْقِ ؛ لأنَّه لا يملك الضَّرَّ والنَّفْع هُنَاك إلاَّ هو .