Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 1-1)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } بالعقود أي : بالعهود ، ويقال : وَفَّى بالعهد ، وأوفى به . قال الزَّجَّاج : هي أوكد العهود ، ويقال : عاقدت فلاناً ، وعقدت عليه ، أي : ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل . فالعهد إلزام ، والعقد التزام على سبيل الإحكام ، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه ، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخَلْقِ إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه - أمر بالوفاء بالعقود ، أي : أنكم التزمتم بإيمكانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود . فصل في الكلام على فصاحة الآية قال القرطبي : هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها ، لكل بصير بالكلام ؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام : الأول : الأمر بالوفاء بالعقود . الثاني : تحليل بهيمة الأنعام . الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك . الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يُصَادُ . الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم . وحكى النقاش أن أصحاب الكندي ، قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ، ثم خرج ، فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة " المائدة " ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ ولا ] يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد . فصل في الخطاب في الآية واختلفوا في هذه العقود ، فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : { يا أيها الذين آمنوا } بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود ، التي عهدتها عليكم في شأن محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو قوله : { وَإِذَ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 187 ] . وقال آخرون : هو عام . وقال قتادة : أراد بها الحِلْفَ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية . وقال ابن عباس : هي عهود الإيمان والقرآن . قال ابن عباس : " أوفوا بالعقود " أي : بما أحل وبما حرم ، وبما فرض ، وبما حَدَّ في جميع الأشياء كذلك ، قاله مجاهد وغيره . وقال ابن شهاب [ الدين ] : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى " نجران " ، وفي صدره : هذا بيان للناس من الله ورسوله ، { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } الآية ، فكتب الآيات فيها ، إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } ، والمقصود أداء التكاليف فعلاً وتركاً . وإنما [ سميت التكاليف عقوداً لأنه - تعالى - ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل ] الموثق . وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم . فصل في فقه الآية قال الشافعي : إذا نذر صوم [ يوم ] العيد ، أو نذر ذبح الولد لغى . وقال أبو حنيفة رحمه الله : بل يصح ، واحتج بقوله : " أوفوا بالعقود " وبقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] ، وبقوله : { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } [ الإنسان : 7 ] { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : " أوفِ بنَذْرِكَ " . وقال الشافعي : هذا نذر معصية ، فيكون لغواً ؛ لقوله عليه السلام : " لا نذر في معصية الله " . وقال أبو حنيفة : خيار المجلس غير ثابت ؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا ، فحرم الفسخ لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } . وقال الشافعي : يثبت ؛ لأن هذا العموم [ قد خص بقوله عليه الصلاة والسلام : " المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا " . وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات ] حرام ؛ لأن النكاح عقد ، فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } تُرك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع ، فيبقى فيما عداها على الأصل . وقال الشافعي : ليس بحرام لتخصيص هذا العموم بالقياس ، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ ، وقد نفذ فلا يحرم . قوله سبحانه : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } لما قرر أولاً جميع التكاليف من حيث الجملة ، شرع في ذكرها من حيث التفصيل . والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر [ وقيل : ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم . قالوا وأصله : كل حي لا عقل له فهو بهيمة ] من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل ، وهذا البابُ مُبْهم ، أي : مسدود الطريق ، ثم اختص هذا الاسم بذوات الأربع ، وكل ما كان على وزن " فعيل " أو " فعيلة " حلقي العين ، جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه ، نحو : بهيمة ، وشعيرة ، وصغيرة ، وبحيرة . والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، قال تعالى : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } [ النحل : 5 ] إلى قوله : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } [ النحل : 8 ] وقال تعالى : { مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } [ يس : 71 ] إلى قوله : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] وقال : { وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } [ الأنعام : 142 ] . وقال الواحدي : لا يدخل في اسم الأنعام الحافر ؛ لأنه مأخوذ من نعومة الوطء ، وقد تقدم في " آل عمران " . فإن قيل : البهيمة اسم جنس ، والأنعام اسم نوع ، فقوله : " بهيمة الأنعام " يجري مجرى قول القائل : حيوان الإنسان ، فالحيوان إن قلنا إن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد ، فإضافة البهيمة إلى الأنعام [ إما للبيان ] فهو كقولك : خاتم فضّة ، أي : من فضّة ، ومعناه [ أنَّ ] البهيمة من الأنعام ، أو للتأكيد كقولنا : نفس الشيء وذاته وعينه . وإن قلنا : المراد بالبهيمة شيء ، والأنعام شيء آخر ، ففيه وجهان : أحدهما : أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ، ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار ، فأضيف الاجترار إلى الأنعام لحصول المشابهة . والثاني : أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام ، روي عن ابن عباس [ - رضي الله عنهما - ] أن بقرة ذبحت ، فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنبه ، وقال : هذا من بهيمة الأنعام . وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام ، وذكاته ذكاة أمه ، ومثله عن الشعبي . وذهب أكثر اهل العلم إلى تحليله ؛ لما " روى أبو سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله : " نَنْحَرُ الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله " ؟ قال : " كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ ، فإنَّ ذكاتَه ذكاة أمِّهِ " " وشرط بعضهم الإشعار . فإن قيل : لو قال : أحلت لكم الأنعام ، لكان الكلام تاماً ؛ كقوله تعالى في آية أخرى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ } [ الحج : 30 ] فما فائدة زيادة لفظ " البهيمة " هنا ؟ [ الجواب : إن قلنا : إن بهيمة الأنعام هي الأجنة ] فالجواب : ما تقدم من الإضافة ، أعني إضافة بهيمة الأنعام . فإن قيل : لِمَ أفرد " البهيمة " وجمع لفظ " الأنعام " ؟ فالجواب : إرادة للجنس . فصل في الرد على شبهة الثنوية قالت الثنوية : ذبح الحيوان إيلامٌ ، والإيلام قبيح ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم ، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله ، وتحقيق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة على الدفع عن أنفسها ، ولا لها لسان تحتج به على من قصد إيلامها ، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح . وعند هذه الشبهة افترق المسملون فرقاً كثيرة : فقالت المكرمية : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح ، بل لَعَلَّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح ، وهذا مكابرة للضروريات . وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً ، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقاً بجناية ، ولا ملحوقاً بعوض . وهاهنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة ، فخرج هذا الذبح عن كونه ظُلْماً . ويدلُّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألَم الفَصْد والحجامة لطلب الصحة ، فإذا حَسُنَ تحمُّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة ، فكذا القول في الذبح . وقال أهل السُّنة : إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه ، والمسألة طويلة . فصل قال بعضهم : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } مجمل ؛ لأن الإحْلال إنما يضاف إلى الأفعال ، وهاهنا أضيف إلى الذات ، فتعذر إجراؤه على ظاهره ، فلا بُدَّ من إضمار فعل ، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض ، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها ، أو بعظمها ، أو صوفها ، أو لحمها ، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل ، فصارت الآية مجملة ، إلا أن قوله تعالى : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ النحل : 5 ] دل على أن المراد بقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه ، والله أعلم . [ قوله { إلا ما يتلى عليكم } هذا مستثنى من " بهيمة الأنعام " والمعنى : ما يتلى عليكم تحريمه ] وذلك قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] إلى قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] . وفي هذا الاستثناء قولان : أحدهما : أنه متصل . والثاني : أنه منقطع حسب ما فُسر به المتلوُّ عليهم ، كما سيأتي بيانه . وعلى تقدير كونه [ استثناء ] متصلاً يجوز في محلّه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب ؛ لأنه استثناء متصل من موجب ، ويجوز أن يرفع على أنه نعت لـ " بهيمة " على ما قرر في علم النحو . ونقل ابن عطيَّة عن الكوفيين وجهين آخرين أحدهما : أنه يجوز رفعه على البدل من " بهيمة " . والثاني : أن " لا " حرف عطف ، وما بعدها عطف على ما قبلها ، ثم قال : وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، نحو : جاء الرجال إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد ، وقوله : وذلك ظاهره أنه مُشارٌ به إلى الوجهين : البدل والعطف . وقوله : إلا من نكرة غير ظاهرة ؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [ والبصريين . ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً وأما العطف فذكره بعض الكوفيين ] . وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير ، أو ما قاربه ، فإنما اشترطوه في النعت بـ " إلاَّ " فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت ، فجعله شرطاً في البدل ، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمه في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] إلى آخره . وإن أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمره ، فيكون منقطعاً بمعنى " لكن " عند البصريين ، وبمعنى " بل " عند الكوفيين . وسيأتي بيان هذا المنقطع [ بأكثر من هذا ] في نصب " غير " . قوله : " غَيْرَ " في نصبه خمسة أوجه : أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في " لكم " ، وهذا قول الجمهور ، وإليه ذهب الزمخشري ، وابن عطية وغيرهما . وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييدُ إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غَيْرَ محلِّي الصيد ، وهم حرم ؛ إذْ يصير معناه : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } [ في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد ، وأنتم حرم ، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام ] في هذه الحال وفي غيرها ، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعام نفسها . وأما إذا عني بها الظباء ، وحُمُر الوحش ، وبقره على ما فسَّره بعضهم ، فيظهر للتقييد بهذه الحالة فائدة ؛ إذ يصير المعنى " أحلّت لكم " هذه الأشياء حال انتفاء كونكم تحلُّون الصيد وأنتم حرم ، فهذا معنى صحيح ، ولكن التركيب [ الذي قدرته لك ] فيه قَلَقٌ ولو أريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه . القول الثاني : وهو قول الأخفش وجماعة أنه حال من فاعل " أوفوا " ، والتقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلِّين الصيد وأنتم حُرم ، وقد ضعفوا هذا المذهب من وجهين : الأول : أنه يلزم [ منه ] الفَصْلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية ، ولا يجوز الفَصْل إلا بجمل الاعتراض ، وهذه الجملة وهي قوله : { أحلَّت لكم بهيمة الأنعام } ليست اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ومبينة لها . وجملة الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسْديداً . والثاني : أنه يلزم تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة ، ويصير التقدير ؛ كما تقدم ، فإذا اعتبرنا مَفْهُومه يصير المعنى : فإذا انتفت هذه الحال فلا توفوا بالعقود ، والأمر ليس كذلك فإنهم مأمورون بالإيفاء بالعقود على كل حال من إحرام وغيره . الوجه الثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير المجرور في " عليكم " [ أي ] : لا [ ما ] يتلى عليكم ، حال انتفاء كونكم محلّين الصيد ، وهو ضعيف أيضاً بما تقدم من أن المتلو عليهم لا يتقيد بهذا الحال دون غيرها ، بل هو متلو عليهم في هذه الحال ، وفي غيرها . الوجه الرابع : أنه حال من الفاعل المقدر يعني الذي حُذِفَ ، وأقيم المفعول مقامه في قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } ، فإن التقدير عنده : أحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محلي لكم الصيد وأنتم حرم ، فحذف الفاعل ، وأقام المفعول مقامه ، وترك الحال من الفاعل باقية . وهذا الوجه فيه ضعف من وجوه : الأول : أن الفاعل المنوب عنه صار نَسْياً مَنْسياً غير ملتفت إليه ، نَصُّوا على ذلك ، لو قلت : أنزل الغيث مجيباً لدعائهم ، وتجعل مجيباً حال من الفاعل المنوب عنه ؛ فإن التقدير : أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم ، لم يجز ، فكذلك هذا ، ولا سيما إذا قيل : بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين ، وجماعة من البصريين . الثاني : أنه يلزم منه [ التقييد بهذه الحال إذا عُني بالأنعام الثمانية الأزواج ، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقاً ] . الثالث : أنه كتب " مُحلّي " بصيغة الجمع ، فكيف يكون حالاً من الله تعالى ، وكأن هذا القائل زعم أن اللفظ " محل " من غير ياء ، وسيأتي ما يشبه هذا القول . الوجه الخامس : أنه منصوب على الاستثناء المكرر ، يعني أنه هو وقوله : " إلا ما يتلى [ عليكم ] " مستثنيان من شيء واحد ، وهو بهيمة الأنعام . نقل ذلك بعضهم عن البصريين ، قال : والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد ، وأنتم محرمون ، بخلاف قوله تعالى : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الذاريات : 32 ] على ما سيأتي بيانه . قال هذا القائل : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ؛ لأنه مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذاً معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد . انتهى . وقال أبو حيان : إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلّل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم وغرَّهم في ذلك كونه كتب " مُحِلِّي " بالياء ، وقدروه هم أنه اسم [ فاعل ] من " أحَلَّ " وأنه مضاف إلى " الصيد " إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصله غير محلِّين الصيد ، إلا في قول من جعله [ حالاً ] من الفعل المحذوف ، فإنه لا يقدر حذف نون ، بل حذف تنوين ، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : " محلي الصيد " من باب قولهم : حِسَان النِّسَاء ، والمعنى : النساء الحسان ، فكذلك [ هذا ] أصله غير الصيد المُحلّ ، [ والمحل ] صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف . ووصف الصيد أنه " محل " على وجهين : أحدهما : أن يكون معناه دخل في الحل ، كما تقول : أحَلَّ الرجل إذا دخل في الحِلِّ ، وأحرم إذا دخل في الحرمِ . والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حلٍّ أي : حلالاً بتحليل الله تعالى ، وذلك أن الصيد على قسمين : حلال وحرام . ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ، لكنه يختصُّ به شرعاً ، وقد تجوزت العرب ، فأطلقت الصيد على ما لا يُوصَفُ بحلّ ولا حُرْمة . كقوله : [ البسيط ] @ 1913 - لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إذَا مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرَانِهِ صَدَقَا @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 1914 - وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ @@ وقول امرئ القيس : [ المتقارب ] @ 1915 - وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ @@ ومجيءُ " أفْعَلَ " على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ ، فَمِنْ مجيءِ " أفْعَلَ " لبلوغ المكان ، ودخوله قولُهم : أحْرَم الرجلُ ، وأعْرَقَ ، وأشْأمَ ، وأيْمَنَ ، وأتهم ، وأنْجَدَ ، إذا بلغ هذه الأماكنَ ، وحَلَّ بها . ومن مَجِيء " أفْعَل " بمعنى صار ذا كذا قولُهُمْ : أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ ، وأغَدَّ البعير وألْبَنَتِ الشاة ، وغيرُها ، وأجْرَتِ الكلبُ ، وأصْرَمَ النخل ، وأتْلَتِ الناقةُ ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ ، وأنْجبتِ المرأةُ . وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانياً ، ولا يكون استثناءً من استثناء ؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم ؛ لأنَّ المستثنى من المحلل مُحرَّمٌ ، [ والمستثنى من المحرم محلل ] بل إنْ كان المعني بقوله : بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها ، فيكون استثناءً منقطعاً وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ ، فيكون استثناءً متصلاً على أحد تَفْسِيري المحل ، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم ، مُحْرِمينَ . فإنْ قُلْتَ : ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل ، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضاً ؟ قُلْتُ : الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ [ الذي ] في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم - وإنْ كان حَلالاً لِغَيْرِه - فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ ، وعلى هذا التفسير [ يكون ] قوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ } [ المائدة : 3 ] الآية استثناءً منقطعاً ؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه ، فيَصيرُ التقديرُ : لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي : تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [ الأنعام ] والوحوش ، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع على التَّفْصِيلِ ، فيَرْجِع { مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } إلى " ثَمَانِيَة " الأزْوَاجِ ، ويرجِعُ { غَيْرَ مُحِلِّي الصّيدِ } إلى الوحوشِ ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ ، وإذا لم يمكنْ ذلك ، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوّلِ بوجهٍ ما رجع إلى الأولِ . وقد نَصَّ النحويونَ : أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل ، نحو : قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً ، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف " محلّي " بالياء ، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ " مُحِلّ " من غير ياءٍ ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك . قلتُ : لا يعكّر ذلك على هذا التخريج ؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم : { لأَاْذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] ، { وَلأَوْضَعُواْ } [ التوبة : 47 ] ، ألفاً بَعْد لامِ الألف وكتابتهم { بِأَيْيْدٍ } [ الذاريات : 47 ] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم " أولئك " بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ ، وكِتَابتِهِمْ : " الصَّالِحَاتِ " [ ونحوه ] بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك . وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه . وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار . على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها ، وهو أن لُغَةَ " الأزْد " يَقفونَ فيها على " بزيدٍ ، بزيدي " بإبدال التَّنْوين ياءً ، فَكُتِبَ " مُحِلّي " على الوقف على هذه اللُّغَةِ - بالياءِ ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه ، انتهى . قال شهابُ الدين : وهذا الذي ذَكَرَهُ ، وأجازه ، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء ، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطّاً ووَقْفاً ، فَخَطَأٌ محض ؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ ، فأيْنَ التنوينُ الذي في " مُحِلّ " ؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ ، وهو مضافٌ حَتّى يقول : إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ " الأزْدِ " ؟ وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة ، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه ؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها ، فكيفَ يقول : يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء ؟ وأيضاً فإنهم لم يُعْرِبُوا [ غَيْر ] إلاَّ حالاً ، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك . وإنما اختلفُوا في صاحِبِ الحالِ ، فقوله : إنه استثناءٌ ثانٍ مع هذه الأوجه الضَّعيفةِ خَرْقٌ للإجماع إلا ما تقدَّم نقْلُهُ عن بعضهِم منْ أنَّه استثناءٌ ثانٍ ، وعَزَاهُ للبصريين ، لكِنْ لا على هذا المَدْرَكِ الذي ذكره الشيخ . وقديماً وحديثاً اسْتَشْكَلَ النَّاسُ هذه الآية . وقال ابن عَطِيَّة : وقد خلطَ الناسُ في هذا الموضع في نصب " غَيْرَ " وقدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأخِيراتٍ ، وذلك كُلُّه غيرُ مُرضٍ ؛ لأنَّ الكلام على اطّرادِهِ ، فيمكنُ اسْتِثْناء بعد استثناءٍ . وهذه الآيةُ مِمّا اتضحَ لِلْفُصَحاء والبُلغَاءِ فَصَاحَتُها وبلاغَتُها ، حتى يُحكَى أنَّهُ قِيلَ لِلْكنديّ : أيّها الحكيمُ ، اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هذا القرآنِ ، فقال : نَعَمْ أعمل لَكُمْ مِثْلَ بعضه ، فَاحْتَجَبَ أيَّاماً كثيرةً ، ثُمّ خرج فقال : والله لا يَقْدِرُ أحدٌ على ذلك ، إنّني فتحتُ [ سورة ] من المصحف فخرجتْ سورةُ " المائدة " ، فإذا هو قَدْ نَطَقَ بالوَفَاءِ ، ونَهَى عن النّكثِ ، وحَلَّل تَحْلِيلاً عامّاً ، ثم اسْتَثْنَى استثناءً بعد استثناءٍ ، ثُمَّ أخبر عَنْ قُدْرتِهِ وحِكْمته في سَطْريْنِ . والجمهورُ على نَصْبِ " غَيْرَ " ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه ، وفيه وجهان : أظهرُهُمَا : أنّه نعتٌ لـ " بهيمة الأنعام " والمَوْصُوفُ بـ " غير " لا يلزمُ فيه أنْ يكونَ مُمَاثِلاً لما بَعْدها [ في جنسه ] تقولُ : مررتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ حِمَارٍ ، هكذَا قالُوه ، وفيه نظر ، ولَكِنْ ظاهرُ هذه القراءةِ يَدُلُّ لهم . والثاني : أنَّهُ نعتٌ للضمير في " يُتْلَى " . قال ابنُ عَطِيَّة : لأنَّ { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } في المَعْنَى بمنزلةِ غَيْرِ مُسْتَحَلٍّ إذَا كان صَيْداً ، وفيه تكلُّفٌ ، والصيدُ في الأصلِ مصدرُ : صَادَ يَصِيدُ ويُصَاد ، ويُطْلَقُ على المَصِيدِ ، كدِرْهَمٍ ضَرْبِ الأميرِ . وهو في الآية الكريمةِ يَحْتَملُ الأمرين أي من كونه بَاقِياً على مَصْدْرِيَّته ، كأنَّهٌ قيل : أحِلّ لَكُمْ بهيمَةُ الأنْعَام ، غَيْرَ مُحِلّينَ الاصْطِيادَ وَأنْتُم مُحْرِمُونَ ، ومَنْ كونِهِ وَاقِعاً مَوْقِعَ المفعول أيْ : غَيْر مُحلِّينَ الشَّيْءَ [ المصيد ] وأنتم محرمون . وقوله : " وَأنْتُمْ حُرُم " مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وما هو صاحبُ هذه الحالِ ؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : هِيَ حَال عَنْ " محلّي الصيد " ، كأنه قِيلَ : أحْلَلْنَا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتناعِكُم مِنَ الصيد ، وأنْتُمُ مُحْرِمُونَ ، لِئَلاّ نَتحرَّج عليكم . قال أبو حَيّان : وقد بَيَّنَا فسادَ هذا القولِ بأنَّ الأنعامَ مُبَاحَةٌ ، مُطْلقاً لا بالتَّقْييدِ بهذا الحالِ . قال شهاب الدين : وهذا الرَّدُ لَيْسَ بشيءٍ ؛ لأنَّه [ إذا ] أحَلَّ لهم بعضَ الأنعامِ في حالِ امتناعِهِمْ مِنَ الصيد ، فأن يحلَّها لهم وهم غير مُحْرِمين بطريق الأوْلَى و " حُرُم " جمع " حَرَام " بمعنى مُحْرم . قال : [ الطويل ] @ 1916 - فَقُلْتُ لَهَا : فِيئي إليكِ فإنَّني حَرَامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ @@ أيْ : مُلَبٍّ ، وأحْرَمَ إذا دَخَل في الحَرَمِ ، أو في الإحْرَامِ . وقال مَكيُ بنُ أبي طالب : هو في موضع نَصْبٍ على الحال [ من ] المضمر في " مُحِلّي " ، وهذا هو الصحيحُ . و [ أما ] ما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ ، فلا يَظْهَرُ فيه مجيءُ الحالِ من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة . وقرأ يَحْيَى بنُ وثَّاب ، وإبراهيم والحسن " حُرْم " بسكون الراء . وقال أبو الحسن البصريُّ : هي لغة " تَمِيم " يَعْنِي يُسَكِّنون ضمة " فُعُل " جمعاً ، نحو : " رُسْل " . قد تقدم كلامُ المعربين في الآية الكريمة . قال المفسرون : معنى الآيةِ ، أحِلَّتْ لَكُم الأنعامُ كُلُّها ، إلا ما كان منها وَحْشِيًّا ؛ [ فإنه صَيْدٌ ] لا يَحِلُّ لكم في حال الإحرامِ ، وقوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } استثناءٌ مُجْمل ، واستثناءُ المجمل من الكلام المفصل يجعلُ ما بقي بعد الاستثناء مُجْملاً ، إلاَّ أن المفسرِينَ أجْمعوا على أنّ المرادَ من هذا الاستثناءِ هو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ووجهُ هذا أن قوله { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } يقتضي إحْلاَلَها لهم على جميع الوجوهِ ، ثُمَّ بيَّن أنّها إنْ كانت مَيْتةً أو موقُوذةً أو مُتردِّيةً أو نَطيحةً أو افترسها السبعُ أو ذُبِحت على غير اسم الله فهي مُحرمةٌ . وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصّيد } معناه : أنه لما أحلّ بهيمة الأنعامِ ، ذكر الفرقَ بين صيدها وغيره ، فبيَّن أنَّ كُلَّ ما كان صَيْداً ، فإنّه حلالٌ في الإحلالِ دُونَ الإحرامِ ، وما لم يكنْ صيداً فإنّه حلالٌ في الحاليْنِ جَمِيعاً . وظاهرُ هذه الآيةِ يَقْتضِي أنّ الصيد مُطْلقاً حَرَامٌ على المُحْرم ، [ إلاَّ أنَّه تعالى أباح في آيةٍ أخْرَى أنّ الصيدَ المحرَّمَ على المحْرِم ] إنَّما هو صيدُ البَرِّ لا صيدَ البحرِ ، بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] فبيَّن ذلك الإطلاق . ثم قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أيْ أنَّ الله تعالى أباح الأنعامَ في جميع الأحوالِ ، وأباح الصيد في بعضِ الأحوالِ دُون بعضٍ ، فلو قال قائلٌ : ما السببُ في هذا التفصيل والتَّخْصيصِ ، كان جوابهُ : أنَّه تعالى مالك الأشياءِ وخالقها فلا اعْتراضَ عليه في حُكْمه .