Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 2-2)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } الآية لما حَرّم [ الله ] الصيد على المحرم نَهَى في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ الله تعالى . قال المُفسِّرون : نزلتْ في الحطم ، واسمُه : " شُرَيْحُ بنُ ضُبَيْعَةَ البَكْرِيّ ، أتى المدينة ، وخَلَّفَ خَيْلهُ خارجَ المدينةِ ، ودخل وَحْدَه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال [ له : ] إلام تدعُو الناس إليه ؟ ، فقال : " إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاةِ " ، فقال حسنٌ ، إلاّ أنّ لي أمراء لا أقطعُ أمْراً دُونهم ، ولَعَلِّي أسْلِمُ وَآتِي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " يدخلُ عليكم رجلٌ مِنْ رَبيعَة يتكلمُ بلسانِ شَيْطان " ثم خرج شُرَيْحٌ منْ عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِر ، وخرج بِقَفَا غَادِرٍ ، وما الرَّجُلُ بِمُسْلمٍ " ، فمرّ بِسَرْحِ المدينة فاسْتاقَه وانْطلقَ ، فتَبعُوه وَلَمْ يُدْرِكُوه ، فلما كان العامُ المقبلُ خرج حَاجًّا في حُجاج بَكْر بن وائلٍ مِنْ اليمَامَةِ ، ومعه تجارةٌ عظيمةٌ ، وقد قَلَّدُوا الهَدْي ، فقال المسلمونَ للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حَاجًّا ، فخلِّ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّه قَدْ قَلَّد الهديَ " ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيءٌ كنا نفعله في الجاهلية ، فأبَى النبي صلى الله عليه وسلم " فأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } الآية . قال ابن عباسٍ ومجاهدٌ : هي مناسِكُ الحج ، وكان المشركون يَحُجُّونَ فيهدُونَ ، فأراد المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم فناههم الله عن ذلك . وقال أبُو عُبَيْدَة : " شَعَائِرَ الله " هي الهَدَايَا [ المُشْعَرةُ لقوله تعالى : { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [ الحج : 36 ] ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّه تعالى ذكر { شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } ] ثم عطف عليها الهدايا ، والمعطوفُ يجبُ أنْ يكون مُغَايِراً للمعطوف [ عليه ] ، والإشعارُ من الشعار وهي العلامَةُ ، وإشعارُهَا إعلامُهَا بما يُعْرَفُ أنَّها هَدْيٌ ، والشَّعَائِرُ جَمْعٌ ، والأكثرونَ على أنَّهُ جَمْعُ شَعيرَة . وقال ابنُ فارسٍ : واحِدَتُهَا شِعَارةٌ ، والشَّعِيرةُ : فَعِيلَةٌ بِمَعنى مفعلة والمُشْعَرَةُ : المُعْلَمَةُ ، والإشْعَارُ : الإعلامُ ، وكُلُّ شَيْءٍ أشْعرَ فقد أعْلم ، وهو هاهنا أنْ يُطْعَنَ في صَفحةِ سنَان البَعير بحديدةٍ حَتّى يَسِيلَ الدَّمُ ، فيكونَ ذلك علامَةً أنها هَدْيٌ ، وهي سنَّةٌ في الهدايا إذَا كانَتْ من الإبل . وقاسَ الشَّافِعِيُّ البَقَرَ على الإبل في الإشْعارِ ، وأمّا الغنمُ فلا تُشْعَرُ بالجرح ، فإنها لا تَحْتَمِلُ الجُرْحَ لِضَعْفِهَا . وعند أبي حَنِيفَةَ لا يُشْعَرُ الهَدْيُ . وروى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عباس : { لاَ تُحِلُّوا شَعَائِر الله } في أنْ تَصِيد وأنْتَ مُحْرم لقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } . وقال السُّدِّيُّ : أراد حرمَ الله ، وقيل المرادُ النَّهْيُ عَنِ القتلِ في الحرمِ . وقال عطاءُ : " شَعَائِرَ اللَّهِ " حُرُمَاتِ اللَّهِ . ثم قال : { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } أي بالقتال فيه ، قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] فقيل هي : ذُو القَعْدَةِ وذُو الحَجَّةِ ومُحَرَّمٌ ورَجَب ، فقوله : { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ رجب ، لأنَّه أكمل هذه الأشهرَ الأربعةَ في هذه الصفة . وقال ابنُ زَيْدٍ : هي النَّسِيءُ ؛ لأنَّهُم كَانُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَه عَاماً . قال : " وَلاَ الْهَدْي " . قال الواحدي : الهدي ما أهْدِيَ إلى بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ مِنْ نَاقَةٍ أو بَقَرَةٍ أوْ شَاةٍ ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ ، ويُقالُ [ أيضاً ] : هَدِيِّةٌ ، وجمعها هَدِيّ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 1917 - حَلَفْتُ برَبِّ مكَّة والمُصَلَّى وأعْنَاقِ الهديِّ مُقَلَّداتِ @@ ونَظِيرُ هذِهِ الآيَةِ قولُهُ تعالى : { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وقولُهُ : { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] . قَوْلُهُ سُبحانَهُ : { وَلاَ ٱلْقَلاَۤئِدَ } [ أيْ : ولا ذَواتِ القَلاَئِد ] عَطفٌ على الهَدْي مُبَالَغَةً في التوصية بها ؛ لأنَّها أشَرَفُ الهَدْي ، كَقَوْلِهِ تعالى : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] كأنَّهُ قِيلَ : وَذَواتِ القَلاَئِد ] كأنَّهُ قِيلَ : وَذَواتِ القلائِدِ مِنْهَا خُصُوصاً . قال القُرْطُبِيُّ : فَمَنْ قَالَ المرادُ بالشَّعَائِرِ المناسِكُ ، قال : ذَكَرَ الهَدْي تَنْبيهاً عَلَى تَخْصيصه ، ومَنْ قَالَ : الشَّعَائِرُ الْهَدْي قال : الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَراً ، أيْ : مُعْلَماً بإسَالَةِ الدَّمِ من سنامه ، والْهَدْي ما لم يُشعَر ، [ اكْتَفَى فِيهِ بالتَّقْلِيدِ ، وقيل : الشعائرُ هي البُدنُ مِنَ الأنْعامِ ، والْهَدْيُ البقر والغَنَمُ والثِّيَابُ وكُلُّ ما يُهدى ] . وقال الجُمْهُور : الهَدْيُ عامٌّ في كُلِّ ما يُتقرّبُ به من الذَّبَائحِ والصَّدَقَاتِ ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " المُبَكِّرُ للجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنة " ، إلى أنْ قَالَ : " كالمُهْدِي بَيْضَة " فَسَمَّاهَا هَدْياً ، وتسميةُ البَيْضَةِ هَدْياً إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ وكذلك قال العلماءُ : إذَا قالَ جعلتُ ثَوْبِي هَدْياً فَعَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ؛ إلاَّ أنَّ الإِطْلاَقَ يَنْصَرِفُ إلى أحَدِ الأصْنَافِ الثَّلاثَةِ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والْغَنَمِ ، وسَوْقُها إلى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ ، وهَذَا إنَّما يُلَقَّى مِنْ عُرْف الشَّرع . قال تعالى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [ البقرة : 196 ] وأراد به الشَّاةَ ، وقال : { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وأقَلُّهُ شاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ . وقال مَالِكٌ : " إذَا قَالَ : ثَوْبِي هَدْيٌ ، يَجْعَلُ ثَمَنُهُ في هَدْيٍ " . ويجوز أنْ يكونَ المرادُ " والقَلاَئِدَ " حَقيقَةً ، ويكونُ فِيهِ مبالغَةٌ في النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْي المَقلَّدِ بِهَا ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] ؛ لأنَّهُ نَهَى عَنْ إظْهارِ الزِّينةِ ، فَمَا بالُكَ بِمَواضِعِهَا مِنَ الأعْضَاءِ ، والقَلاَئِدُ : جَمْعُ قِلاَدَة وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ البَعيرِ . وقالَ عَطَاءٌ : أرَادَ أصْحَابَ القَلاَئِدِ ، وذلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا في الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أرَادُوا الخُرُوج مِنَ الحرمِ قَلَّدُوا أنْفُسَهُم وإبلَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ ، كَيْلاَ يُتعرَّض لَهُمْ ، فَنَهى الشَّرْعُ عَنِ اسْتِحْلاَلِ شَيْءٍ مِنْهَا . قوله تعالى : { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } . أيْ : وَلاَ تُحِلُّوا قوماً آمين ، أيْ : قَاصِدِينَ ، ويَجُوزُ أنْ يكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، أيْ : لا تُحِلُّوا قِتَالَ قَوْم [ أوْ أذَى ] قَوْمٍ آمِّينَ . وقَرَأ عَبْدُ الله وَمَنْ تبعَهُ : " ولا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ " بِحَذْفِ النّونِ ، وإضَافَةِ اسْمِ الفَاعِلِ إلى مَعْمُولِهِ ، والْبَيْتُ نُصِبَ على المفْعُولِ بِهِ بـ " آمين " [ أيْ : ] قاصِدِينَ الْبَيْتَ ، وَلَيْسَ ظَرْفاً . وَقولُهُ : " يَبْتَغُونَ " حالٌ مِنَ الضَّميرِ في " آمِّينَ " ، أيْ : حَالَ كَوْنِ " الآمِّينَ " مُبْتَغِينَ فَضْلاً ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ تكُونَ هَذِهِ الجملةُ صِفَةً لـ " آمِّين " ؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ مَتَى وُصِفَ بَطَلَ عَمَلُهُ على الصَّحيحِ . وخَالَف الكُوفيُّونَ فِي ذلِكَ . وأعْرَبَ مَكي هذه الجملة صِفَةً لـ " آمين " ، ولَيْسَ بِجيِّدٍ لما تقدَّمَ ، وكأنَّهُ تَبعَ في ذَلِكَ الكُوفِيِّين . وهَاهُنَا سُؤالٌ ، وهَوَ أنَّهُ لم لا قيل بجوازِ إعْمَالِهِ قَبْلَ وَصْفِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ قِيَاساً على المصْدَرِ ، فإنَّه يعملُ قَبْلَ أنْ يُوصَفَ ، نَحْو : يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ زيداً شديدٌ . والجُمْهُورُ عَلى " يَبْتَغُونَ " بيَاءِ الْغَيْبَةِ ، وقَرَأ حُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ ، والأعْرَجُ " تَبْتَغُونَ " بِتَاءِ الخِطَابِ ، على أنَّه خطابٌ للمؤمنينَ ، وهي قلقَةٌ ، لقوله : " مِنْ ربِّهمْ " وَلَوْ أُريد خطَابُ المؤمنينَ ، لكانَ تَمامُ المناسَبَةِ " تَبْتَغُون فَضْلاً مِنْ ربِّكُم " و " من ربِّهمْ " ، يجُوزُ أن يتعلَّقَ بِنَفْسِ الْفِعْلِ ، وأنْ يتعلَّقَ بمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ لـ " فَضْلاً " ، أيْ : فَضْلاً كَائِناً " مِنْ ربِّهِمْ " . وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ضَمِّ رَاءِ " رُضْوَان " في آلِ عمران . وإذا عَلَّقْنَا " مِنْ ربِّهمْ " بِمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ لـ " فَضْلاً " ، فَيَكُون قَدْ حَذَفَ صِفَةَ " رِضْوَان " لِدلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ ، أيْ : وَرِضْوَاناً مِنْ رَبِّهِم . وَإذَا عَلَّقْنَاهُ بِنَفْسِ الفِعْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ . فصل قِيلَ : المرادُ بـ " الفَضْل " الرِّزْقُ بالتِّجارَةِ و " الرِّضْوَانُ " ، أيْ : عَلَى زَعْمِهِمْ ؛ لأنَّ الكَافِرَ لا نَصِيبَ لَهُ فِي الرِّضْوَانِ . قال الْعُلَمَاءُ : المشركون كَانُوا يَقْصدُونَ بِحَجِّهِمْ رضْوَان اللَّهِ ، وَإنْ كانُوا لا يَنَالُونَ ذَلِكَ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بسَبَبِ ذَلِكَ القصدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ . وَقِيلَ : المرادُ بِفَضْلِ اللَّهِ الثَّوابُ ، وبالرِّضْوانِ أنْ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهم ؛ وذَلِكَ لأنَّ الْكَافِرَ وإنْ كان لا ينَالُ الفضْل والرِّضْوَان لَكِنَّهُ يَظُنُّ [ أنَّهُ بِفِعْلِهِ طَالبٌ لهما ] فَوُصِفَ بذلِكَ بِنَاءً على ظَنهِ ، كقوله : { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ } [ طه : 97 ] ، وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . فصل قال قَوْمٌ : هذه الآيةُ مَنْسُوخَةٌ ؛ لأنَّ قوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } يَقْتَضي حُرْمَةَ القِتَالِ [ في ] الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ يقُولُ اللَّهُ تعالى : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقوله : { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } يَقْتَضِي حُرْمَة مَنْعِ المُشْرِكِينَ عن المسْجِدِ الحرامِ ، وذلك مَنْسُوخٌ بقوْلهِ : { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وُمجَاهِدٍ والحسَن وقتادَةَ . وقال الشَّعْبيُّ : لم يُنْسخْ مِنْ سورةِ المائدةِ إلاَّ هذهِ الآية ، وقال آخرُون : هذه الآيةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ ، وهؤلاء لَهُم طَريقَانِ : الأوَّلُ : أنَّ الله تعالى أمَر في هذه الآية ألاَّ نُخيفَ مَنْ يَقْصُدُ بَيْتَهُ من المُسْلِمينَ ، وحَرَّمَ عَلَيْنَا أخْذَ الْهَدْي مِنَ المُهْدين إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ لقوله أوّلِ الآية : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } وهذا إنَّما يَلِيقُ بنُسُكِ المسلمينَ لا بنُسُكِ الكُفَّار ، وقولُهُ آخِرِ الآية : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنَّمَا يَلِيقُ بالمسلمِ لاَ بالْكافِرِ . والثاني : قال أبُو مُسْلِم : المرادُ بالآيةِ الكفارُ الذين كَانُوا في عَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا زَالَ [ الْعَهْدُ زَالَ ] الحَظْرُ ، وَلَزِمَ المُرَادُ بقوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] . قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } وقُرِئ " أحْلَلْتُم " وهي لُغَةٌ في " حَلَّ " ، يُقَالُ : أحلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ، كما يُقَالُ : حَلَّ . وَقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ عِمْران وأبُو وَاقِدٍ والجَرَّاح بِكَسْرِ الْفَاءِ العَاطِفَةِ وهِيَ قَراءَةٌ ضَعِيفَةٌ مُشْكِلَةٌ . وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أنَّ الكَسْرَ فِي الْفَاءِ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ [ في ] الابْتِدَاءِ . وقال ابْنُ عَطِيَّةَ : هِيَ قِرَاءةٌ مُشْكِلَةٌ ، وَمنْ توجيهها أنْ يكُونَ راعَى كَسْرَ ألف الوَصْلِ إذَا ابْتَدَأ فَكَسَر الْفَاءَ مُرَاعَاةً ، وتَذَكُّراً لِكَسْرِ ألِفِ الْوَصْلِ . وقال أبُو حَيَّان : وليس هُو عِنْدي كَسْراً مَحْضاً ، بَلْ هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لتوهُّمِ وُجُودِ كَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ ، كَمَا أمَالُوا " فإذَا " لِوُجُودِ كَسْرِ الهَمْزَة . فصل هَذَا أمْرُ إبَاحَةٍ ، أبَاحَ لِلْحُلاَّلِ أخْذَ الصَّيْدِ ، وظَاهِرُ الأمْرِ وإنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فهو هنا للإبَاحَةِ ، كقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الجمعة : 10 ] ، وهو كقول القائِلَ : " لا تَدخُلَنَّ هذِهِ الدَّارَ حَتّى تُؤدِّيَ ثَمَنَها ، فإذَا أدَّيْتَ فادْخُلْهَا " أيْ : فإذا أدَّيْتَ فقد أبيحَ لك دُخُولُهَا ، وحاصِلُ الكلام أنَّا إنَّما عَرَفْنَا أنَّ الأمرَ هُنَا لَمْ يُفد الوُجوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، وهذه الآيةُ مُتَعلِّقَةٌ بقوله { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] يعني [ إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِن ] حل الاصطِيَادِ هُوَ الإحْرَامَ ، فإذَا زَالَ الإحْرَامُ وَجَبَ أنْ يَزُول المنْعُ . قوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } قرأ الجمهور : " يَجْرمنكم " بفتحِ اليَاءِ مِنْ " جَرَمَ " ثُلاثياً ، وَمَعْنَى " جَرَمَ " عِنْدَ الكِسَائِيِّ وثَعْلَبٍ " حَمَلَ " ، يقال : جَرَمَهُ على كَذا ، أيْ : حَمَلَهُ علَيْهِ . قال الشاعر : [ الكامل ] @ 1918 - وَلَقَدْ طَعَنْت أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَة [ جَرَمَتْ فَزَارَة ] بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا @@ فَعَلى هذا التَّفْسِير يتعدَّى " جَرَم " لِوَاحدٍ ، وهو الكافُ والميمُ ، ويكونُ قولُهُ : " أَن تَعْتَدُواْ " عَلَى إسْقَاطِ حَرْفِ الخَفْضِ ، وهو " عَلَى " أيْ : وَلاَ يَحْمِلنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ على اعْتِدَائِكُم عليْهِم ، فَيَجِيءُ في مَحَلِّ " أنْ " الخلافُ المشْهُورُ ، وإلى هذا المعْنَى ذَهَب ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ . ومَعْنَاهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرَّاءِ : كسب ، وَمِنْهُ فُلانٌ جَريمةُ أهْلِهِ أيْ : كَاسِبُهُم . وعَنِ الكِسَائيّ - أيضاً - أنَّ جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنَى : كَسَبَ غَيْرَهُ فَالْجَرِيمَةُ والجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ ، وأجْرَمَ فُلانٌ أيْ : اكْتَسَبَ الإثْمَ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : [ الوافر ] @ 1919 - جرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ تَرَى العِظَام ما جَمَعتْ صَلِيبا @@ أيْ : كَاسِبٌ قُوَّةً ، والصَّلِيبُ الوَدَكُ . قال ابنُ فَارِسٍ : يُقَالُ جَرَمَ وأجْرَمَ ، ولا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ : لا بُدَّ وَلاَ مَحَالَةَ [ وأصْلُه ] مِنْ جَرَمَ أيْ : كَسَبَ ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أحدهُمَا : أنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ . والثاني : [ أنَّهُ ] مُتَعَدٍّ لاثْنَيْنِ ، [ كما أنَّ " كَسَبَ " كَذلِكَ ، وأمَّا في الآية الكريمة فلا يكون إلاَّ مُتَعَدِّياً لاثْنَيْن : ] أوَّلُهمَا : ضَمِيرُ الْخطَابِ ، والثَّانِي : " أنْ تَعْتَدُوا " أيْ : لا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُكَمْ لقوم الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ . وَقَرَأ عَبْدُ الله " يُجْرِمَنَّكُمْ " بِضَمِّ الياءِ مِنْ " أجْرَمَ " رُبَاعِيّاً . وقيل : هو بمعنى " جَرَم " كما تقدم عن الكِسَائِي . وقيل : " أجْرَمَ " مَنْقُولٌ مِنْ " جَرَم " بهمزة التَّعْدِية . قال الزَّمَخْشَرِيّ : " جَرَمَ " ؛ يجري مَجْرَى " كَسَبَ " في تعْدِيَتهِ إلى مَفْعُولِ وَاحِدٍ وإلى اثْنَيْن ، تقولُ : جَرَمَ ذَنْباً أيْ كَسَبَهُ ، وجرَمْتَهُ ذَنْباً ، أيْ كَسَبْتَهُ إيَّاهُ ، ويقال أجْرَمْتُه ذَنْباً على نقل المُتَعَدِّي إلى مفعولٍ بالهمزةِ إلى مَفْعُولَيْنِ كقولك : أكْسَبْتُهُ ذَنْباً ، وعليه قراءةُ عبْدِ الله " وَلاَ يُجْرمَنَّكُمْ " وأوَّلُ المفعوليْنِ على القراءتين ضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ . وثانيهما : " أَنْ تَعْتَدُوا " اهـ . وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابنُ عيسَى الرُّمَّانِي - القطعُ ، فَجَرَمَ حُمِلَ عَلَى الشَّيءِ لِقَطْعِهِ عَنْ غيره ، وجَرَمَ كَسَبَ لانْقِطَاعِهِ إلى الكَسْبِ ، وجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ ؛ لأنَّ الحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ . قَالَ الخَلِيلُ : " لاَ جَرَمَ أنَّ لَهُم الْنَّارَ " أيْ : لقد حَقَّ [ هكذا ] قاله الرُّمانيُّ ، فجعل بين هذه الألفاظ قَدْراً مُشْتركاً ، وليس عنده مِنْ باب الاشْتِراكِ اللَّفْظِيّ . و " شَنآن " [ معناه ] : بُغْض ، وهو مَصْدَرُ شَنىءَ ، أيْ : أبْغَضَ . وقرأ ابْنُ عَامِرٍ وأبُو بَكرٍ عَنْ عَاصِمٍ " شَنْآنُ " بسُكونِ النُّونِ ، والباقون بِفَتْحِهَا ، وجَوَّزُوا فِي كُلٍّ منهما أنْ يكونَ مَصْدراً ، وأنْ يكُونَ وَصْفاً حَتَّى يُحْكى عَن أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قال : مَنْ زَعَمَ أنَّ " فَعلاَن " إذَا سُكِّنَتْ عَيْنُهُ لَم يكُنْ مَصْدَراً فَقَدْ أخْطَأ ، لأنَّ " فَعْلان " بِسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ في المصَادِرِ ، نحو : لَوْيتُه دَيْنَهُ لَيَّاناً ، بَلْ هُوَ كَثير في الصِّفَاتِ نَحْوُ : سَكْرَان وَبَابُهُ و " فَعَلاَن " بالْفَتْحِ قليلٌ في الصفاتِ ، قالُوا : حِمَارٌ قَطَوَان ، أي : عَسِرُ السير ، وتَيْسٌ عَدَوَان . قال : [ الطويل ] @ 1920 - … كَتَيْس ظِبَاءِ الْحُلَّبِ العَدَوَانِ @@ ومِثْلُهُ قولُ الآخَرِ ، أنْشَدَهُ أبُو زَيْدٍ : [ الطويل ] @ 1921 - وقَبْلَكَ مَا هَابَ الرِّجَالُ ظُلاَمَتي وَفَقَّأتُ عَيْنَ الأشْوَسٍ الأبَيَانِ @@ بِفَتْحِ الباء واليَاء ، بل الكثيرُ أنْ يكُونَ مَصْدَراً ، نحو : الغَلَيَان والنَّزَوَان ، فإن أريد بـ " الشَّنْأنَ " السَّاكِن الْعَيْنِ الوصْفُ ، فالمعْنَى : وَلاَ يَجرمنكُمْ بَغيضُ قَوْمٍ ، وَبَغيضٌ بِمَعْنَى : مُبْغِضٍ ، اسمُ فاعِلٍ من " أبْغَضَ " ، وهو مُتعدٍّ ، فَفَعِيلٌ بمعنى الفاعِلِ كقَدِير ونَصِير ، وإضافَتُه لـ " قوْمٍ " على هذا إضَافَةُ بيانٍ ، أيْ : إنَّ البغيض مِنْ بَيْنِهم ، وليس مَضَافاً لفاعِل ولا مَفْعولٍ ، بخلاف ما إذَا قَدَّرْتَهُ مَصْدراً فإنه يكون مُضَافاً إلى مَفْعُولِهِ أوْ فَاعِلِه كما سيأتي . وقال صاحبُ هذا القول : يُقَالُ : رَجُلٌ شَنْآنُ ، وآمْرأةٌ شَنْآنَةٌ ، كنَدْمَانَ ، ونَدْمَانَةٍ ، وقياسُ هذا أنْ يكونَ مِنْ فِعْلٍ متعد [ وحكي : رجل شَنْآن ، وامرأة شَنْأى كـ " سكران وسكرى " وقياس هذا أن يكون من فعل لازم ] ، ولا بُعْدَ في ذلك ، فإنَّهم قد يشتقُّون من مادَّةٍ واحدةٍ القَاصِرَ والمتعدِّي ، قالُوا : فَغَرْتُ فاه ، وفَغَرَ فوه أيْ : فَتَحته فانفتح ، [ وإنْ ] أُرِيدَ بِه المصدَرُ فَوَاضِحٌ ، ويَكُونُ مُضَافاً إلى مفعُولِه ، أيْ : بُغضكم لِقَوْم ، فحذف الفاعل ، ويجوزُ أنْ يكونَ مُضَافاً إلى فاعلِهِ ، أيْ بُغْضُ قَوْمٍ إيَّاكُمْ ، فحذف مَفْعُولَهُ . والأوَّلُ أظْهَرُ في المعنى ، وحُكْمُ شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونَ مَصْدَراً وَصِفَةُ حُكْم إسْكَانِهَا ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، ومِنْ مَجِيءِ شَنْآن السَّاكِنِ الْعَيْنِ مَصْدَراً قَوْلُ الأحوصِ : [ الطويل ] @ 1922 - وَمَا الْحُبُّ إلاَّ مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي وإنْ لاَمَ فيه الشَّنَانِ وَفَنَّدَا @@ أرَادَ الشَّنْآنَ بِسُكُونِ النُّونِ فنقل حركة الهمزة إلى النُّونِ السَّاكنة ، وحذف الهمزة [ ولَوْلاَ سُكُونُ النُّونِ لما جَازَ النَّقْلُ ولو قال قَائِلٌ : إنَّ الأصْلَ الشَّنَآنُ بفتح النون ] وخَفَضَ الهَمْزَةَ بحَذْفِهَا رَأساً ، كما قُرِئ { إِنَّهَا لاَحْدَى الكُبَرِ } [ المدثر : 35 ] بحذفِ همزة " إحْدَى " لكانَ قَوْلاً يَسْقُطُ به الدليلُ لاحتماله ، و " الشَّنآن " بالفتح عَمَّا شذَّ عن القاعدةِ الكُلِّيَّةِ . قال سِبَوَيْه : كُلُّ بِنَاءٍ مِنَ المصادِرِ على وَزْنِ " فَعَلاَن " بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَم يتعدَّ فِعْلُهُ إلاَّ أنْ يَشذَّ شيءٌ كالشَّنَآنِ ، يَعْنِي أنَّه مصدرٌ على " فَعَلاَن " بالفتح ، ومع ذلك فعْلُهُ مُتَعِدّ ، وفعلهُ أكثرُ الأفعالِ مَصَادِر سُمِعَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدراً ، قالُوا : شَنِئَ يَشْنَأُ [ شَنْئاً ] وشَنآناً مُثَلَّثي الشِّين ، فهي سِتُّ لُغَاتٍ . وَقَرَأ ابْنُ وثَّابٍ ، والحسنُ ، والوليدُ عَنْ يَعْقُوبَ " يَجْرِمَنْكُمْ " بِسُكُونِ النُّون جعلوها نون التوكيد الخَفِيفةِ ، والنَّهيُ في اللَّفْظِ للشَّنْآنِ ، وهو في المعنى للمُخَاطبينَ نحو : " لا أريَنَّكَ هاهُنَا " و { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] قالَهُ مَكِّيٌّ . فصل قال القَفَّالُ : هذا معطوفٌ على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } إلى قوله : { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } يعني : لا يَحْمِلَنكمْ عَدَاؤُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عن المسْجِد الحَرَامِ أنْ [ تَعْتَدوا فَتَمْنَعُوهُمْ ] عَنِ المسْجِد الحرامِ ، فإنَّ البَاطِل لا يَجُوز أنْ يعتدَى به . قال محمدُ بنُ جَرِير : هذه السورةَ نزلتْ بعد قِصَّةِ " الحُدَيْبِيَةِ " ، فكان الصَّدُّ قد تقدّمَ ، وليس للناس أنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً على العُدْوانِ ، حتى إذا تَعَدَّى واحدٌ منهم على الآخر [ تَعَدَّى ذلك الآخرُ ] عليه ، لكنَّ الواجبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهُم بَعْضاً على ما فيه البِرُّ والتَّقْوَى . قوله سبحانه وتعالى : { أَن صَدُّوكُمْ } . قرأ أبُو عَمرو ، وابْنُ كَثِيرٍ ، بِكَسْرِ " إنْ " ، والباقُون بِفَتْحِهَا ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ ، والْفَتْحُ على أنها عِلَّةٌ للشنآنِ ، أيْ لا يَكسْبَنَّكُمْ أوْ لا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ لأجْلِ صَدِّهِمْ إيَّاكُم عن المسْجِد الحرامِ ، وَهِيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ ، وقد اسْتَشْكَلَ [ الناسُ ] قراءةَ الأخَويْن مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ المشروطَ لَمْ يَقَعْ والغَرضُ أن صَدَّهُمْ عنِ البيت الحَرَامِ كان قَدْ وَقَعَ ، ونزولُ هذه الآيةِ مُتَأخرٌ عنه بمدّةٍ ، فإنَّ الصَّدَّ وقع عَامَ " الحُدَيْبِيَة " وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ ، والآيةُ نزلَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ . وأيضاً ، فإنَّ " مَكَّةَ " كانت عامَ الفتحِ في أيْدِيهم ، فكيف يُصَدُّونَ عَنْها . قال ابنُ جُرَيْج والنَّحاسُ وغيرُهما : هذه القراءةُ مُنْكَرَةٌ ، واحْتَجُّوا بما تقدَّمَ مِنَ الإشْكَالِ . قال شهابُ الدِّين رحمه الله : ولا إشْكَالَ في ذَلِكَ ، والجوابُ عَمَّا قَالُوه مِنْ وَجْهَيْنِ : أحدهما : ألاَّ نُسَلم أن الصَّدَّ كان قبلَ نُزولِ الآية ؛ فإنَّ نُزُولَهَا عامَ الفتح ليس مُجْمَعاً عليه . وذكر اليزيدِيُّ أنَّها نزلتْ قبل الصَّدِّ ، فصاد الصدُّ أمراً مُنْتَظَراً . والثاني : أنَّهُ وَإنْ سَلَّمْنَا أنَّ الصَّدَّ [ كان مُتقَدَّماً على نُزُولِها ، فيكون المَعْنَى : إنْ وقع صَدٌّ مِثْلُ ذلك الصدِّ ] الذي وقع زمن " الحديبية " " فَلاَ يَجْرِمَنكُم " . قال مَكِّي : ومثلُه عند سيبويْهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ : [ الطويل ] @ 1923 - أتَغْضَبُ إنْ أذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا … @@ [ وذلك شَيْء قد كان وقع ، وإنما معناهُ : ] إنْ وقع مِثْلُ ذلِكَ الغَضَبِ ، وجوابُ الشَّرْطِ ما قَبْلَهُ ، يَعْنِي : وجوابُ الشرطِ ما دَلَّ عليه ما قَبْلَهُ ؛ لأنَّ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ تَقْدِيمَ الْجَواب إلاَّ أبَا زَيْدٍ . وقال مَكِّي - أيضاً - : ونظيرُ ذلك أنْ يقولَ الرجلُ لامْرأتِهِ : أنْتِ طَالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، بِكَسْر " إنْ " لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِهَا الأوَّلِ ؛ لأنَّه أمْرٌ يُنْتَظَرُ ، وَلَوْ فَتَحَ لَطُلِّقَتْ عَلَيْه ؛ لأنَّه أمرٌ كَانَ وَوقَعَ ، فَفَتْحُ " أنْ " لما هو عِلّةٌ لما كان ووقع ، وكسرُهَا إنَّما هو لأمرٍ مُنتظر ، والوَجْهَانِ حَسَنانِ على معنييهما وهذا الذي قاله مَكِّي فَصَّل فيه الفقهاءُ بين مَنْ يعرفُ النحوَ ، وبين مَنْ لا يعرِفُهُ ، وَيُؤيِّدُ هذه القراءةَ قراءةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " إنْ يَصُدُّوكُمْ " . قال أبُو عُبَيْدَة : حدثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ ، قَالَ : قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فذكرها قال : وهذا لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الصَّدِّ ، يعني إنْ وقع صَدٍّ آخر ، مِثْلُ ما تَقَدَّمَ في عام " الحُدَيْبِيَة " . ونَظْمُ هذه الآياتِ على ما هِيَ عَلَيْهِ مِنْ أبْلَغِ مَا يَكُونُ وأفْصَحه ، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخيرٌ كما زعم بعضُهم ، فقال : أصلُ تركيب الآية الأولى { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] فإذا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا . وأصلُ تركيب الثَّانِيَة : { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } . ونَظَّرَه بآيةِ البقرةِ يَعْنِي : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، وهذا لا حاجة إليه مع أنَّ التقديمَ والتَّأخيرَ عند الجمهورِ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ ، فَيَجِبُ تَنْزيهُ القرآنِ عَنْه ، ولَيْست الجملةُ - أيضاً - مِنْ قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } مُعْتَرِضَةً بَيْن قوله : { وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الحرامَ } وبَيْنَ قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ، بَلْ هي مؤسِّسةٌ ومُنْشِئَةٌ حُكْماً ، وهو حِلُّ الاصْطيادِ عند التَّحَلُّلِ مِنَ الإحْرَامِ ، والجملة المُعْتَرِضَةٌ إنَّما تُفِيد تَوْكيداً وتَسْديداً ، وهذه مفيدةٌ حُكْماً جَدِيداً كما تقدم . وقوله : " أنْ تَعْتَدُوا " قَدْ تقدم أنَّه مِنْ مُتعلقاتِ { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } على أنَّه مَفْعُولٌ ثانٍ ، أوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجر ، فمَنْ كَسَرَ { إنْ صَدُّوكُمْ } يكُون الشرطُ وجوابُه المقدَّرُ في مَحَلِّ جرٍّ صِفَةً لـ " قَوْم " ، أيْ : شَنَآنُ قَوْمٍ هذه صِفَتُهُم ومَنْ فتحها فمحلُّها الجَرُّ والنَّصْبُ ، لأنَّها على حَذْفِ لامِ الْعِلَّةِ كما تقدم . قال الزَّمخْشَرِيُّ : والمعنى : ولا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغضُ قَوْمٍ ؛ لأنَّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه . قال أبو حيّان : وهذا تفسيرُ مَعْنًى لا تفسير إعْراب ؛ لأنّه يمتنعُ أنْ يكون مدلولُ " جرم " حمل وكسب في استعمالٍ واحدٍ لاختلاف مُقتضاهما ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يكُون [ أنْ تَعْتَدوُا ] في مَحَلِّ مفعول به ، ومحلُّ مفعولٍ على إسْقاطِ حَرْف الجر . قال شهابُ الدِّين : هذا الذي قاله لا يتصَوَّرُ أنْ يتوهمه من له أدْنَى بَصَرٍ بالصِّنَاعةِ حتى ينبِّهَ عليه . وقد تقدم قراءةُ البَزِّي في نحو : " ولا تَعاوَنُوا " وأنَّ الأصَل : [ " تتعاونوا " فأدغم ] وحذف الباقون إحْدَى التاءيَنْ عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [ البقرة : 267 ] . قوله عز وجل : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } أيْ : ليعن بعضُكم بَعْضاً على البر والتقوى . قِيلَ : البِرُّ : متابعةُ الأمْرِ ، والتَّقْوَى مُجانَبَةُ النَّهْيِ . وقيل : البرُّ : الإسلامُ ، والتقوى : السُّنةُ . { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } . قيل الإثُم : الكفرُ ، والعُدْوانُ : الظلمُ . وقيل : الإثمُ : المعصيةُ والعُدوان : البِدْعَةُ . وقال النَّواسُ بْنُ سَمْعان الأنْصَارِيّ : " سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثْمِ ، فقال : " البرُّ حُسْنُ الخلقِ ، والإثمُ ما حَاكَ في [ صَدْرِك ] ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه الناسُ " " ، ثم قال تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } ، والمرادُ منه التهديدُ والوعِيدُ .