Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 32-32)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : [ { مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ } ] فيه وجهان : أظهرهما : أنه متعلِّق بـ " كَتَبْنَا " وذلك إشارةٌ إلى القَتْل ، و " الأجْل " في الأصْل هو : الجناية ، يقال : " أجَل الأمْر يأجل [ إجْلاً ] وأجْلاً وإجْلاَء ، وأجْلاَء " بفتح الهمزة وكسْرِها إذا جَنَاهُ وحْدَه ، مثل : أخَذَ يَأخُذُ أخْذاً . ومنه قول زُهَيْرٍ : [ الطويل ] @ 1954 - وَأهْلِ خِبَاءٍ صالحٍ ذَاتُ بَيْنهمْ قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أنَا آجِلُهْ @@ أي : جَانِيه . ومعنى قول النَّاس " فَعَلْتُه من أجْلِك ولأجلك " أي : بِسببك ، يعني : مِنْ أنْ جَنَيْتَ فِعْلَه وَأوْجَبْته ، وكذلك قولهم : " فَعَلْتُه مِنْ جَرَّائك " ، أصْلُهُ من أن جَرَرْتَهُ ، ثم صار يستعمل بمعنى السَّبَب . ومنه الحديث " مِن جَرَّاي " أي : من أجْلِي . و " من " لابتداء الغاية ، أي : نَشَأ الكَتْبُ ، وابتدى من جناية القَتْلِ . ويجُوزُ حَذْفُ " مِنْ " واللاَّم وانتصاب " أجْل " على المَفْعُول له إذا استكمل الشُّروط له . قال : [ الرمل ] @ 1955 - أجْلَ أنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ … @@ والثاني : أجَازَ بعض النَّاس أن يكون مُتعلِّقاً بقوله : " من النَّادمين " أي : ندم من أجْلِ ذلك ، أي : قَتْلِهِ أخاه قال أبو البقاء : ولا تتعلَّقُ بـ " النَّادمين " ؛ لأنَّه لا يحسن الابتداء بـ " كَتَبْنَا " هنا ، وهذا الردُّ غير وَاضِح ، وأين عَدَمُ الحُسْنِ [ بالابتداء ] بِذَلك ؛ ابتدأ الله - تعالى - إخْبَاراً بأنَّه كتب ذلك ، والإخْبَار مُتعلِّق بقصة ابْنَيْ آدم إلا أنَّ الظَّاهر خلافه كما تقدَّم . [ والجمهور على فتح همزة " أجل " ، وقرأ أبو جعفر بكسرها ، وهي لغة كما تقدم ] ورُوي عنه حذفُ الهمزة ، وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون " مِنْ " ، كما يَنْقِل وَرْش فتحتها إليها ، والهاء في " أنَّه " ضمير الأمْر والشَّأن ، و " منْ " شرطيَّة مبتدأة ، وهِيَ وخَبَرُها في مَحَلِّ رفعٍ خبراً لـ " أن " ، فإن قيل : قوله { مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ } أي : من أجْل ما مَرَّ من قصَّة قَابِيل وهَابِيل كَتَبْنَا على بَنِي إسْرَائيل القصاص وذلك مُشْكِلٌ ، لأنه لا مُنَاسَبَة بين واقِعَة قَابِيل وهَابِيل ، وبين وُجُوب القِصَاص على بَنِي إسْرائيل . فالجواب من وجهين : أحدهما : ما تقدَّم نَقْلُهُ عن الحسن ، والضَّحَّاك : أنَّ هذا القَتْل إنما وقع في بَنِي إسْرَائيل ، لا بَيْنَ ولديْ آدم لصُلْبِه . الثاني : أن " مِنْ " في قوله { مِنْ أجْلِ ذَلِكَ } ليس إشارة إلى قصَّة قَابِيل وهَابِيل بَلْ هُو إشَارَةٌ إلى ما ذكر في القِصَّة من أنْوَاع المَفَاسِدِ الحاصلة بِسَبَب القتل المحرَّم ، كقوله { فأصْبَح من الخَاسِرين } ، و { أصْبَح من النَّادِمين } ، فقوله " أصبح من الخَاسِرِين " إشارةٌ إلى أنه حَصَل في قلبه أنْوَاع النَّدم والحسرة والحُزْن ، مع أنَّه لا دَافِع لذلك ألْبَتَّة . فإن قيل : حُكْم القِصَاص ثَابتٌ في جميع الأمَم فما فَائِدَة تخْصِيصِه بِبني إسْرائيل ؟ . فالجواب : أنَّ وجوب القِصَاص وإن كان عاماً في جميع الأمَمِ ، إلا أنَّ التَّشْديد المَذْكور في حقِّ بَنِي إسْرائيل غير ثَابتٍ في جميع الأدْيَان ؛ لأنَّه - تعالى - حكم هاهُنَا بأن قَتْل النفس جار مُجْرى قَتْل جَمِيع النَّاس ، فالمقصود منه : المُبَالَغَة [ في عقاب القتل العَمْد العدوان ، والمقصود من هذه المُبَالَغَة : أنَّ اليهُود مع عِلْمهم بهذه المُبَالغة العَظِيمة ] أقدَموا على قتل الأنبياء والرُّسل ، وذلك يدُلُّ على غاية قَسَاوَة قُلُوبهم ونِهَاية بُعْدهم عن طَاعَة الله ، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص ، تَسْلية الرَّسول في الواقعة التي ذكرْنا ، من أنَّهُم عزموا على الفتك برسُول اللَّه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وبأكابر الصَّحابة ، [ فكان تَخْصِيص ] بَنِي إسرائيل في هذه القِصَّة بهذه المُبَالغَة مُنَاسِباً للكَلاَم . فصل استدلَّ القَائِلُون بالقياس بهذه الآية على أنَّ أحْكَام الله تعالى قد تكون مُعَلَّلة ؛ لأنَّه قال : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا } وهذا تَصْرِيح بأن كتبه تلك الأحْكَام معلَّلٌ بتلك المَعَانِي المُشَار إليها بقوله { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ } . وقالت المُعتزلةُ : دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ أحْكَام اللَّه معلّلة بمصالح العِبَاد ، وإذا ثَبَتَ ذلك امْتَنَع كونه خَالِقاً للكُفْر والقَبَائح ، مُريداً وقوعها مِنْهم ؛ لأنَّ خلق القَبَائح وإراداتها يمنع من كونه تعالى مُرَاعياً للمصالح ، وذلك يُبْطِل التَّعْلِيل المَذْكُور في هذه الآية . وأجاب القَائِلُون بأنَّ تعلِيلَ أحْكَام اللَّه مُحَالٌ بوجوه : أحدها : أن العِلَّة إذا كانت قَدِيمة لزم قدم المَعْلُول ، وإن كانت مُحْدَثة وجب تَعْلِيلُها بعلَّة أخرى ولزم التَّسَلْسُل . وثانيها : لو كان مُعَلَّلاً بِعِلَّة ، فوجود تلك [ العِلَّة ] وعدمها بالنِّسْبَة إلى اللَّه تعالى إن كان على السَّوِيَّة امتنع كونه عِلَّة ، وإن لم يَكُن فأحدهما به أوْلى ، وذلك يَقْتَضِي كونه مُسْتَفِيداً تلك الأوْلويَّة من ذلك الفِعْلِ [ فيكون ناقِصاً لذاته مُسْتَكْملاً بغيره وهو مُحَال . وثالثها : ثبت توقف الفعل ] على الدَّوَاعي ، ويمتنع وقوع التَّسَلْسُل في الدَّواعي ، بل يجب انْتِهَاؤُها إلى الدَّاعية الأولَى التي حَدَثَت في العَبْد ، لا مِن العَبْد بل من الله تعالى ، وثبت أنَّ عند حُدُوث الدَّاعِية يجب الفعل . وعلى هذا التقدير : فالكُلّ من الله تعالى ، وهذا يَمْتَنِع من تَعْلِيل أفْعَال اللَّه وأحكامه برعاية المصالح ، وإذا ثبت امْتِنَاع تَعْليل أفعال اللَّه وأحكامه ثَبَتَ خلوّ ظاهر هذه الآية من المُتَشَابِهَات ، ويؤكِّده قوله تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ المائدة : 17 ] ، وذلك نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّه يحسن من اللَّه كُلُّ شيء ، ولا يَتَوَقَّف خلقه وحُكْمُه على رعاية المَصْلَحة ألبتة . قوله تعالى " بِغَيْر نَفْسٍ " فيه وجهان : أحدهما : أنه مُتَعَلِّقٌ بالقتل قَبْلها . والثاني : أنَّه في مَحَلّ حالٍ من ضمير الفاعل في " قتل " ، أي : قَتلها ظالماً ، ذكره أبو البقاء . وقوله تعالى " أوْ فسادٍ " الجمهور على جَرِّهِ عَطْفاً على " نَفْس " المجرور بإضافة [ " غَيْر " إليها ] ، وقرأ الحسن بنصبه ، وفيه وجهان : أظهرهُمَا : أنَّه منصوبٌ على المَفْعُول بعامل مضمر يَلِيقُ بالمَحَلِّ ، أي : أو أتى أو عَمِل فَسَاداً . والثاني : أنه مصدرٌ ، والتقدير : أو أفْسَد فَسَاداً بمعنى إفساد فهو اسْمُ مَصْدَر ، كقوله : [ الوافر ] @ 1956 - وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا @@ ذكره أبو البَقَاء . و " في الأرض " متعلِّق بنفس " فَسَاد " ؛ لأنَّك تقول : " أفْسَد في الأرْض " إلاَّ في قراءة الحسن بنَصْبِه ، وخرَّجناه على النَّصْب على المَصْدرية ، كما ذكره أبُو البقاء ، فإنه لا يتعلَّق به ؛ لأنه مصدر مُؤكِّد ، وقد نَصُّوا على أنَّ المؤكد لا يعمل ، فيكُون " في الأرضِ " متعلِّقاً بمحذُوف على أنه صِفَة لـ " فساداً " والفاءُ في " فَكَأنَّمَا " في الموضعين جواب الشَّرْط واجِبَة الدُّخول ، و " ما " كافة لحرف التَّشْبيه ، والأحْسَن أن تسمى هُنَا مهيِّئة لوقوع الفِعْل بَعْدَهَا ، و " جَمِيعاً " : إمَّا حال أو تَوْكِيدٌ . فصل قال الزَّجَّاج : التقدير : من قتل نَفَساً بغير نَفْس أو فَسَاد في الأرْض ، وإنَّما قال تعالى ذلك ؛ [ لأنَّ ] القَتْل يحل لأسْبَاب كالقصاص ، والكفر ، والزِّنا بعد الإحْصَان ، وقطع الطَّرِيق ونحوه ، فجمع تعالى هذه الوُجُوه كُلَّها في قوله تعالى { أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ } ثم قال : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } . فإن قيل : كيف يكُون قتل النَّفْس الوَاحِدة مساوِياً للكُلِّ ؟ فذكر المُفَسِّرُون له وُجُوهاً ، وهي مَبْنِيَّة على مُقَدِّمة ، وهي أنَّ تَشْبيه أحَد الشَّيْئَيْن بالآخَر ، لا يَقْتَضِي الحُكْم بمُشَابَهَتِهما من كلِّ الوُجُوه ، وإذا صحَّت المُقدِّمة ، فنقُول : الجواب من وجوه : أحدها : [ المقصُود من تَشْبيه ] قَتْل النَّفْس الواحِدَة بقَتْل النُّفُوس : المُبَالغَة في تَعْظيم أمر القَتْل العَمْدِ العُدوان وتَفْخِيم شَأنه ، يعني : كما أنَّ قَتْل كلِّ الخَلْق أمر مستَعْظمٌ عند كلِّ أحَدِ ، فكَذَلِك يجب أن يكون قتل الإنْسَان الواحِد مستَعْظَماً منهياً ، فالمَقْصُود بيان مُشاركتهمَا في الاستِعْظَام ، لا بيان مُشاركتِهمَا في مقدار الاسْتِعْظام ، وكيف لا يكُون مُسْتعْظَماً وقد قال - تعالى - : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [ النساء : 93 ] . وثانيها : أنَّ جميع النَّاس لو عَلِمُوا من إنْسَان واحد أنَّه يقصد قَتْلَهم بأجْمَعِهِم ، فلا شكَّ أنهم يَدْفَعُونه دفعاً لا يُمْكِن تَحْصِيل مَقْصُوده ، فكذلِكَ إذا عَلِموا منه أنَّه يقصد قَتْلَ إنْسَان واحد [ مُعيَّن يجب أن ] يَجِدُّوا في دَفْعِه ، ويَجْتَهِدوا كاجْتِهَادهم في الصُّورة الأولى . وثالثها : أنه لمَّا أقدم على القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان فقد رجَّح داعِية الشَّهْوة والغضب على دَاعِيَة الطَّاعة ، ومتى كان الأمر [ كَذَلِكَ ] كانَ التَّرْجِيح حَاصِلاً بالنِّسبة إلى كلِّ واحد ، فكان في قلبه أنَّ كلَّ أحد نازعه في شيءٍ من مَطَالبه ؛ فإنَّه لو قدر عليه لقتَلَهُ ، ونيَّة المؤمن في الخَيْرَات خَيْر من عَمَلِهِ ، فكذلك [ نِيَّة المؤمن في الشُّرور شرٌّ من عمله ، فيصير المَعْنَى : من يَقْتُل إنساناً قَتْلاً عمداً عُدْوَاناً فكأنَّمَا قَتَل جَمِيع النَّاس ] . ورابعها : قال ابْنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عِكْرِمة " مَنْ قتل نَبيّاً أو إمامَ عَدْلٍ ، فكأنَّما قتل النَّاسَ جَمِيعاً ومن أحْيَاها : من سَلِمَ من قتلها ، فكان كمن سَلِمَ من قَتْلِ النَّاس جَمِيعاً " . وخامسها : قال مُجَاهِد : من قتل نَفْساً محرَّمة يَصْلَى النَّار بقتلها ، كما يصلاها لو قتل النَّاس جميعاً ، ومَنْ أحْيَاها : من سلم من قتلها ، فكان كمن سلم من قتْلِ النَّاس جَمِيعاً . وسادسها : قال قتادة : أعْظَم اللَّه أجرَهَا وعظَّم وزرَها ، معناه : من استَحَلَّ قتل مُسْلِم بغير حَقِّه ، فكأنَّما قتل النَّاس جميعاً في الإثْم لا يَسْلَمُون منه ، ومن أحْيَاها وتورَّع عن قَتْلِها ، فكأنَّما أحْيَا النَّاس جَمِيعاً في الثَّواب لسلامتِهم منه . وسابعها : قال الحسن : فكأنَّما قتل النَّاس جَمِيعاً ، يعني : أنَّه يَجِبُ عليه من القِصَاص بِقَتْلِها ، مثل الذي يجب عليه لو قتل النَّاسَ جَمِيعاً ، ومن أحْيَاها ، أي : عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ عليه القِصَاص له ، فَلَمْ يَقْتُلْه فكأنَّما أحيا النَّاس جَمِيعاً ، قال سُليمان بن عَلِي : قلت للحَسَن : يا أبَا سَعِيد : أهِيَ لَنَا كما كانت لِبَني إسْرائيل ؟ قال : والذي لا إله غيره ما كان دَمُ بَنِي إسرائيل أكرم على الله من دَمائِنا . وإحْيَاء النَّفْس : هو تَخْلِيصُها من المُهْلِكَات كالحَرق ، والغَرَقِ ، والجُوعِ المُفْرط ، والبرد والحرِّ المُفْرطيْن . ثم قال : { ولقدْ جاءَتْهُم رُسُلُنَا بِالبيِّنَاتِ ثُمَّ إنَّ كثيراً مِنهُمْ بعدَ ذَلِك } ، أي : بعد مَجِيء الرُّسل وبعدما كَتَبْنَا عليهم تَحْريم القَتْل ، " لمُسْرِفُون " الذي هو خَبَر " إن " ولا تَمْنَعُ من ذلك لام الابتداء فاصِلَة بين العامل ومعمُوله المتقدِّم عليه ؛ لأنَّ دخولها على الخَبَر على خِلاف الأصْل ؛ إذ الأصْل دُخولُها على المُبْتَدأ ، [ وإنَّما منع منه دخول " إنَّ " و " ذلِكَ " إشارة إلى مجيء الرُّسُل بالبيِّنات ] .