Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 33-34)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض . وقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ } : مُبْتَدأ وخبره " أنْ يُقَتَّلُوا " وما عطف عليه ، أي : إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ ، أو التَّصلِيب ، أو النَّفْي . وقوله : " يُحارِبُون اللَّه " ، أي : يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور . وقال الزَّمَخْشَريُّ : " يُحَارِبُون رسُول الله ، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه " . يعني : أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ ، كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 9 ] . فإن قيل : المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة ، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه ، والمحاربةُ مع رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ممكِنَةٌ فلفظ { يحاربون اللَّه ورسولَهُ } يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً ، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه ، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة ، وذلك مُمْتَنِعٌ . فالجواب : إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ . والتقدير : إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه ، ويَسْعَوْن في الأرْض فَسَاداً كذا وكذا ، ومن يجز ذلك لم يَحْتَجْ إلى شيء من هذه التَّأوِيلات بل يقول تُحْمَلُ محاربتهم للَّه - تعالى - على مَعْنًى يَلِيق بها ، وهي المُخالفةُ مَجازاً ، ومحاربَتُهم لِرسُوله على المُقاتلةِ حَقِيقة . قوله : " فساداً " في نصبه ثلاثة أوجُه : أحدها : أنه مَفْعُول من أجله ، أي يُحَاربُون ويسْعَون لأجل الفساد ، وشروط النَّصْبِ موجُودة . الثاني : أنَّه مصدر وَاقع موقع الحَالِ : ويسْعَوْن في الأرْض مفسدين ، أو ذوي فساد ، أو جُعِلُوا نفس الفساد مُبالغةً ، ثلاثة مذاهب [ مشهورة ] تقدَّم تَحْرِيرها . الثالث : أنه منْصُوب على المصدر ، أي : إنَّه نَوْع من العامل قبله ، فإنَّ معنى " يَسْعَوْن " هنا : يُفْسدُون وفي الحَقِيقة ، فـ " فسادٌ " قائم مقام الإفساد [ والتقدير : ] ، ويفسدون في الأرْض بسعيهم إفْساداً . و " فِي الأرْضِ " الظّاهر : أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه ، كقوله : { سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ } [ البقرة : 205 ] . وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له . وأجيز أن يتعلَّق أيضاً بنَفْس " فساداً " ، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا " فَسَاداً " حالاً . أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدراً امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه ، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل . وقرأ الجمهور " أنْ يُقَتَّلُوا " وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل ، ومعناه : التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال . وقرأ الحسن وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا . قوله تعالى " مِن خِلافٍ " في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من " أيْدِيهِمْ " و " أرْجُلِهِمْ " أي : [ تقطع مختلف ] بمعنى : أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى ، ورجله اليُسرى . والنَّفي : الطَّرْد . و " الأرض " المراد بها هاهُنَا ما يُريدُون الإقامَة بها ، أو يُراد من أرْضِهِمْ . و " ألْ " عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاهُ . فصل قال الضَّحَّاك : نزلت في قوم مِنْ أهْل الكتاب ، كان بَيْنهم وبين رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ ، فَنَقَضُوا العَهْد وقطعُوا السَّبِيل وأفْسَدوا . وقال الكَلْبِي : نزلت في قَوْم هِلال بن عُوَيْمر ، وذلك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم واعد هلال بن عُوَيْمِر وهو أبو بُرْدَة الأسْلَمي ، على ألا يُعِينَهُ ولا يُعِين عليه ، ومن مرَّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فهو آمِنٌ لا يُهَاجُ ، فمرَّ قوم من بَنِي كِنَانَة يريدون الإسلام ، بِنَاس من أسْلَم من قَوْم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شَاهِداً ، فَشَدُّوا عليهم فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالهم ، فنزل جبريل بالقِصَّة . وقال سعيد بن جبير : نزلت في نَاسٍ من عُرَيْنَة وعكل أتَوا النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة ، فَبَعَثَهُم النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى إبل الصَّدقةِ فارْتَدُّوا ، وقتلوا الرَّاعِي واسْتَاقُوا الإبِل ، فبعث النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من رَدَّهم وأمر بِقَطْع أيديهم وأرجُلهم ، وسَمْل أعْيُنِهم بمَسَامِير وكحلهم بها ، وطَرحهم في الحَرِّ يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون حتى ماتُوا . قال أبو قِلابَة : هؤلاء قَتَلُوا وسَرَقُوا ، وحاربُوا الله ورسُولَهُ وَسَعَوْا في الأرْضِ فساداً ، فنزلت هذه نَسْخاً لِفْعِل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فصارت السُّنَّة مَنْسُوخة بهذا القُرْآن العظيم ، ومن قال إنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقُرْآن قال : إنما كان النَّاسِخ لتلك السُّنَّة سُنَّة أخْرى : ونزل هذا القُرْآن العَظِيم مُطَابِقاً للسُّنَّة النَّاسخة . وقال بعضهم : حُكُمُهم ثَابِت إلا السَّمل والمُثْلَة ، وروى قتادةُ عن ابن سيرين أنَّ ذلك قَبْل أن تَنْزِل الحُدُود . قال أبو الزَّنَاد : ولما فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك بهم أنْزل اللَّه الحُدُود ، ونَهَاهُ عن المُثْلة فلم يَعُد ، وعن قتادةُ قال : بَلَغَنَا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم [ بعد ذلك كان يحثّ على الصَّدَقة ويَنْهَى عن المُثْلة ، وقال سليمان التَّيْمِي عن أنس : إنَّما سَمَل النبي - صلَّى الله ] عليه وعلى آله وسلَّم - أعْيُن هؤلاء ؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعَاة . وقال الليث بن سَعْد : نزلَت هذه الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وتَعْلِيماً له عُقُوبَتهم وقال : إنَّما جَزَاؤهم لا المُثْلَة ، ولذلك ما قَامَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خَطِيباً إلا نَهَى عن المُثْلَة . وقيل : نزلت هذه الآية في الَّذِين حُكي عنهم من بَنِي إسرائيل - أنَّهُم بعد أنْ غلظ عليهم عِقَابُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان ، فهم مُسْرِفون في القَتْلِ ويُفْسِدون في الأرْض ، فمن أتى منهم بالقَتْلِ والفَسَادِ في الأرْضِ فَجَزَاؤهُم كذا وكذا . وقيل : نزلت هذه الآية في قطَّاعِ الطَّرِيق من المُسْلِمين [ وهذا قول ] أكثر الفقهاء قالوا : والذي يدل على أنَّهُ لا يَجُوز حَمْلُ الآية على المُرْتَدِّين من وجوه : أحدها : أنَّ قطع المرتدِّ لا يقف على المُحَاربة ، ولا على إظهار الفَسَاد في دار الإسلام ، والآية تَقْتَضِي ذلك . وثانيها : لا يجوز الاقتصَار في المرتدِّ على قَطْعِ اليَدِ ، ولا على النَّفْي ، والآية تقتضي ذلك . وثالثها : أن الآية تَقْتَضِي سقوط الحد بالتَّوْبة قبل القُدْرة ؛ لقوله تعالى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } . والمرتَدُّ يسقط حَدُّه بالتَّوبة قبل القُدْرة وبعدها ، فدلَّ على أن الآية لا تعلُّقَ لها بالمُرْتَدِّين . ورابعها : أن الصَّلْب غير مشْرُوع في حق المُرْتَدِّ ، وهو مشروع هاهنا فوجَب ألا تكون الآية مُخْتَصَّة بالمرتدِّين . وخامسها : أنَّ قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } يتناول كل من يُوصَف بهذه سواءً كان مُسْلِماً أو كافراً ، ولا يُقالَ : الآية نزلت في الكُفَّار ؛ لأن العبرة بعُمُوم اللَّفْظ لا خُصوص السَّبَب ، فإن قيل : المُحَارِبُون هم الذين يَجْتَمِعُون ولهم مَنَعَةٌ ، ويَقْصدون المُسْلِمين في أرواحهم ودِمَائهم ، واتَّفَقُوا على أنَّ هذه الصِّفَة إذا حصلت في الصَّحَراء كانوا قُطَّاع الطَّريق ، وأما إن حصلت في الأمْصار ، فقال الأوْزَاعيُّ ومالِكٌ واللَّيْث بن سَعْد والشَّافِعِيّ : هم أيضاً قُطَّاع الطَّريق ، هذا الحدُّ عليهم ، قالوا : وإنَّهم في المُدُن يكونون أعْظَم ذَنْباً فلا أقَلَّ من المُسَاوَاة ، واحتَجُّوا بالآية وعُمُومها ، ولأنَّ هذا حدّ فلا يَخْتَلِفُ كَسَائِر الحدود [ وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد : إذا حصل ذلك في المِصر لا يُقام عَلَيْه الحُدُود ] لأنه لا يلحقه الغَوْثُ في الغالِبِ فلا يتمكَّن من المغالبة ، فصار في حكم السَّارِق . فصل قوله تعالى في الآية { أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } . اختلف العلماء في لفظة " أوْ " : فقال ابن عبَّاس في رواية الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومُجاهد ، والنَّخْعِي : إنَّها للتَّخْيير ، والمعنى : أنَّ الإمام مخيَّر في المُحَاربين ، إن شاء قَتَلَ ، وإن شَاء صَلَب ، وإن شاء قَطَعَ الأيْدِي والأرجل ، وإن شاء نَفَى ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عطاء : " أوْ " هاهنا [ لَيْسَت ] للتَّخيير ، بل لبيانِ الأحْكَام وتَرْتِيبهَا . قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - في قُطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخَذُوا المال : قُتِلُوا وصُلِبُوا ، وإذا قَتَلُوا ولم يأخُذُوا المال ، قُتِلُوا ولم يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا ؛ قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم ، وإذَا قَتَلُوا ولم يَأخذُوا المالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا ؛ قُطِعَتْ أيديهم وأرْجُلُهم من خلافٍ ، وإذا أخافُوا السَّبيل ، ولم يأخُذُوا مالاً ؛ نُفُوا من الأرض ، وهذا قول قتادة [ والشَّافعي ، والأوْزَاعِيِّ ] ، وأصحاب الرَّأي . واختَلَفُوا في كَيْفِيَّة القَتْلِ والصَّلْب ، فظاهر مَذْهَبِ الشَّافعيّ : أنه يُقْتَل ثم يُصْلَب ، وقيل : يُصْلب حيّاً ثم يُطْعَن حتى يموت مصْلُوباً ، وهو قول اللَّيْث بن سَعْد ، وقيل : يُصْلَب ثلاثة أيَّام ، ثم ينزل ثم يُقْتَل ، وإذا قَتَلَ يُقْتَلُ حتماً ، لا يسقط بعَفْو وَلِيّ الدَّم . واختُلِفَ في النَّفْي : فقال سعيد بن جُبَيْر ، وعُمَرُ بن عَبْد العزِيز : أنَّ الإمام يطلبه ففي كُلِّ بلد يُوجَد ينفى عنه ، وقيل : يُطْلَبُون ليُقَام عليهم الحُدُود ، وهو قول ابن عبَّاس ، واللَّيث بن سَعْد ، وبه قال الشَّافعي ، وإسْحَاق . وقال أبو حنيفة : النَّفْي هو : الحبس ، وهو اخْتِيَار أهْل اللُّغَة . قالوا : لأن قوله { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } : إمَّا أن يكُون المُرَادُ به النَّفي من جميع الأرْضِ ، وذلك غير مُمْكِن مع بَقَاءِ الحياة ، [ وإمَّا ] أن يكون المُرَاد إخراجه من تلك البلدة إلى بَلْدَةٍ أخرى وهو غَيْر جَائِزٍ ، لأنَّه إمَّا أن يُنْفَى من بِلاد الإسْلام فَيُؤذيهم ، أو إلى بِلاد الكُفْر فيكون تَعْرِيضاً له بالرِّدَّة ، وذلك غَيْرُ جَائِزٍ ، فلم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكُون المُراد من النَّفْي نَفْيهُ عن جميعِ الأرْض إلى مكانِ الحَبْس قالوا : والمَحْبُوس : قد يُسَمَّى منفياً من الأرض لأنه لا يَنْتَفِع بشيء من طَيِّبَات الدُّنيا ولذَّاتها ، ولا يرى أحَداً من أحبابه ، فصار منفياً عن اللَّذات والشَّهَوات والطَّيِّبات فكان كالمَنْفِي في الحقيقةِ ، ولما حَبَسُوا صالح بن عبد القُدُّوس على تُهْمَة الزَّندقة في حبس ضيقٍ وطال لَبْثه هُنَاك ذكر شِعْر منه : [ الطويل ] @ 1957 - خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا ولا الأحْيَا @@ وقال - سامَحه اللَّه وعفا عنه وعنَّا - قوله : [ الطويل ] @ 1958 - إذا [ جَاءنَا ] السَّجَّانُ يَوْماً لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا : جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا @@ قوله تعالى : { ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا } . " ذلك " إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم ، وهو مُبْتَدأ . وقوله : " لَهُمْ خِزْيٌ " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكُون " لهم " خبراً مُتقدِّماً ، و " خِزْي " مُبْتَدأ مُؤخَّر ، و " فِي الدُّنْيا " صِفَةٌ له ، فيتعلق بمحذُوف ، أو يتعلَّق بنفس " خِزْي " على أنَّه ظَرْفيَّة ، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر لـ " ذَلِكَ " . الثاني : أن يكون " خِزْي " خبراً لـ " ذلك " ، و " لهم " مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من " خِزْي " ؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له ، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالاً . وأمَّا " في الدُّنْيَا " فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً لـ " خزي " أو مُتعلِّقاً به ، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به " لَهُم " . الثالث : أن يكون [ " لَهُمْ " ] خبراً لـ " ذلك " و " خِزْي " فاعل ، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ ، و " فِي الدُّنْيَا " على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة . فصل في شبهة للمعتزلة وردها المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا : الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب ، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم . قالت المُعْتَزِلَةُ : دلَّت الآية [ على القَطْعِ بوَعِيد ] الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم ؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم ؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدَّيْن ، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق ، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط . والجوابُ : لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة ، وإذا جازَ لكم [ أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة ] لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط ، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو ، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ الدَّليل [ على أنَّه - تعالى - ] يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا ؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } [ البقرة : 81 ] . قوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } فيه وجهان : أحدهما : أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين ، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق ، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها ، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط ؟ . وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس ، فلا تسقط ، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال ، وَوَلِيِّ الدَّم ، والظَّاهر الأوّل . الثاني : أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء ، والخبر قوله : " فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم " والعَائِد مَحْذُوف ، أي : غفور له ؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء . وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى : لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ . فصل من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال : { إلاَّ الَّذِين تَابُوا } : من شركهم : وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال . أما المُسْلِمُون المحاربون : فمن تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه ، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى ، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد ، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [ قبل القُدْرَة عليه ] تحتُّم القَتْل ، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه ، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه ، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع ، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب ، ويجب ضَمَان المال . وقال بعضهُم : إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [ عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه . روي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء ، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة . أما من تاب بعد القدرة ] فلا يَسْقُط عنه شيء منها . وقيل : كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق ، وقطع السَّرقة ، وحدِّ الزنا ، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط .