Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 42-42)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : يجُوزُ أن يكُونَ مُكَرَّراً للتَّوْكيدِ إنْ كان مِنْ وصف المنافقينَ ، وغَيْرَ مُكرَّرٍ إنْ كانَ مِنْ وصف بَنِي إسْرائيلِ . وإعْرَابُ مفرداتِهِ تقدَّم ، ورفْعُه على خبرِ ابْتَداءٍ مُضْمَرٍ ، أيْ : هُمْ سمَّاعون . وكذلك " أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ " في " اللاَّمِ " الوجهانِ المذكورانِ في قوله : " لِلْكَذِبِ " . و " السُّحْتُ " الحَرَامُ ، سُمِّي بذلك ؛ لأنَّه يُذْهِبُ البَرَكَةَ ويَمْحَقُها ، يُقالُ : سَحَتَهُ اللَّهُ ، وأسْحَتَهُ : أيْ : أهْلكهُ وأذهَبَهُ . قال الزَّجَّاجُ : أصلُهُ مِنْ : سَحَتُّهُ إذ اسْتَأصَلته ، قال تعالى : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 62 ] أيْ : يَسْتأصلهمْ ، أوْ لأنَّه مَسْحوتُ البَرَكَةِ . قال الله تعالى : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرِّبَا } [ البقرة : 276 ] . وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ : إنَّهُ حرامٌ يحصلُ مِنْه العار . وعن الفرَّاءِ : " السُّحْتُ " : شدَّةُ الجُوعِ ، يُقال : رجلٌ مَسْحُوتُ المعدةِ إذا كان أكُولاً ، لا يُلْفَى إلاَّ جائعاً أبداً وهو راجعٌ إلى الهلكة . وقد قُرِئ قوله تعالى : " فَيُسْحِتَكُمْ " بالوجهين : مهن سَحَتُّهُ ، وأسْحَتُّهُ . وقال الفرزدقُ : [ الطويل ] @ 1968 - وعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ @@ وقرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ ، وعاصمٌ ، وحمزةُ : " السُّحْت " بضَمِّ السِّينِ وسكون الحاء ، والباقون بضمهما ، وزيد بن علي ، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء ، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفَتْحتيْنِ ، فالضمتانِ : اسمٌ للشيء المسحُوتِ ، والضمةُ والسكونُ تخفيفُ هذا الأصْلِ ، والفتحتانِ والكَسْرِ والسُّكُونِ اسمٌ له أيضاً . وأمَّا المفتوحُ السينِ السَّاكن الحاءِ ، فمصدرٌ أُريدَ بِهِ اسمُ المفعولِ ، كالصَّيْد بمعنى المصيدِ ، ويجوزُ أنْ يكُونَ تَخْفِيفاً مِنَ المَفتُوحِ ، وهُوَ ضعيفٌ . والمرادُ بالسُّحْتِ : الرَّشْوَةُ في الحُكْمِ ، ومَهْرُ البَغِيّ ، وعَسِيبُ الفَحْلِ ، وكَسْبُ الحجامِ ، وثَمنُ الكَلْبِ ، وثمنُ الخمرِ ، وثمنُ المَيْتَةِ ، وحُلوانُ الكَاهِنِ ، والاستعجالُ في المعصية ، رُوِيَ ذلك عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ وابن عباسٍ وأبِي هُريرةَ ومجاهدٍ ، وزاد بعضهُم ، ونقص بعضهم . وقال الأخْفَش : السُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لا يَحقُّ . فصل قال الحسنُ : كان الحاكِمُ منهم إذا أتاهُ أحَدٌ برشْوَةٍ جعلها في كُمِّهِ ، فَيُريها إيَّاهُ ، وكان يَتَكلَّمُ بحاجتِهِ ، فَيُسْمعُ مِنْه ، ولا ينظرُ إلى خَصْمهِ ، فَيَسْمَعُ الكذبَ ، ويأكُلُ الرشْوَةَ . وقال أيضاً : إنَّما ذلك في الحُكْم إذا رشوتَهُ ليحقَّ لك باطلاً ، أو يُبْطل عنك حقاً ، فأمَّا أنْ يُعْطِيَ الرجلُ الوالِيَ يَخافُ ظُلْمَهُ لِيَدْرَأ به عَن نفسه فلا بأسَ ، والسُّحْتُ هو الرَّشْوَةُ فِي الحكمِ على قول الحسن وسُفيانِ وقتادةَ والضَّحَّاكِ . وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - هو الرشوةُ في كُلِّ شيْءٍ ، مَنْ يشفعُ شفاعَةً ليَرُدَّ بِهَا حَقًّا أو يدفَعَ بها ظُلْماً ، فأهدي له فَقَبِلَ ، فهو سُحْتٌ . فقيل له : يا أبَا عَبْد الرَّحْمنِ ، ما كُنَّا نَرَى ذلك إلاَّ الأخْذَ على الحُكْمِ ، فقال : الأخذُ على الحُكْمِ كُفْرٌ ؛ قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] . وقال بَعْضُهُم : كان فقراؤهُم يأخُذُونَ مِنْ أغْنِيائِهم مالاً ليقيمُوا على ما هُمْ عليه من اليَهُوديَّة ، فالفقراءُ كانُوا يسمعُونَ أكاذيبَ الأغنياءِ ، ويأكُلُونَ السُّحْتَ الذي يأخذوه مِنْهُم . وقيل : سمَّاعُون للأكاذِيبِ التي كانوا يَنْسِبُونَها إلى التوراةِ ، أكَّالُونَ لِلرِّبَا لقوله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 161 ] . وقال عمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - رَشْوَةُ الحاكم من السُّحْتِ . وعن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال : " كُلُّ لَحْمٍ نبتَ بالسُّحْتِ فالنَّارُ أوْلَى به " قالُوا : يا رسولَ الله ، ومَا السُّحْتُ ؟ قال : " الرشوةُ في الحُكْمِ " . وعن ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أيْضَاً أنَّهُ قال : السحتُ أنْ يَقْضِيَ الرجلُ لأخيه حَاجَةً ، فيُهْدِي إلَيْهِ هديَّةً فَيَقْبَلهَا . وقال بعضُ العلماءِ : من السحتِ أنْ يأكلَ الرجلُ بجاهِهِ ، بأنْ يكون للرجل حاجةٌ عند السلطانِ ، فيسألَهُ أنْ يَقْضِيَها له ، فلا يَقْضِيهَا له إلاَّ بِرشْوَةٍ يأخُذُها . انتهى . وقال أبُو حَنيفَةَ [ - رضي الله عنه - ] : إذا ارْتَشَى الحاكمُ انعزَلَ في الوقْتِ ، وإنْ لم يُعزلْ بطلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ به بَعْدَ ذلك . قال القرطُبي : وهذا لا يجوزُ أن يُخْتلفَ فيه إنْ شاء الله ؛ لأنَّ أخْذَ الرشوة فِسْقٌ والفاسِقُ لا يَنْفُذُ حُكْمُهُ . قوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } . خيَّره تعالى بَيْنَ الحُكْمِ وبَيْنَ الإعراضِ عنهم ، واختلفُوا فيه على قولَيْنِ : الأولُ : أنَّهُ في أمرٍ خاصٍّ ، ثُم اختلف هؤلاءِ . فقال ابنُ عباسٍ ، والحسنُ ، والزهريُّ - رضي الله عنهم - : إنَّهُ في أمر زنا المُحْصَنِ ، وقيل : في قَتيلٍ قُتل من اليهودِ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِير كما تقدم ، فتحاكمُوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجعل الدِّيَّةَ سَواءً . وقيل : هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم ، فإن شاء حكم بينهم ، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم . والقول الثاني : أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار ، ثم اختلفُوا : فمنهم من قال : إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة ، وعطاء ، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ ، وأبِي مُسْلِمٍ . وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ ، ومنهم مَنْ قال : إنه منسوخٌ بقوله تعالى : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 49 ] وهو قولُ ابن عباسٍ ، والحسنِ ، ومجاهد ، وعكرِمَة [ رضي الله عنهم ] ، ومذهبُ الشافعيِّ - رضي الله عنه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه ، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم . فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم ، بل يتخيَّرُ في ذلك . قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلاَّ آيتَانِ : قوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } [ المائدة : 2 ] نسخَهَا قوله : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] . وقوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسخها قوله تعالى : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 49 ] فأمَّا إذا تحاكَمَ مسلمٌ وذميٌّ يجبُ علينا الحكمُ بَيْنَهُمَا بلا خلافٍ ، لأنَّهُ لا يجُوزُ للمسلم الانقيادُ لحكم أهْلِ الذِّمَّةِ . ثُمَّ قال : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم ، وصاروا أعداءً لَهُ ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له . ثُمَّ قال تعالى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ } أيْ بالعَدْلِ : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أيْ : العادِلينَ .