Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 48-48)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذا خطابٌ مع النَّبِي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والمرادُ بالكتابِ القرآن العظيم . والباءُ [ في " بالحَقِّ " ] يجوزُ أن تكونَ لِلْحَالِ مِنَ " الكتابِ " أيْ : مُلْتَبِساً بالحقِّ والصِّدْقِ ، وهي حالٌ مؤكدة ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الفاعلِ أيْ : مُصَاحبينَ للحقِّ ، أو حالاً من " الكافِ " في " إليْكَ " أيْ : وأنت مُلْتَبِسٌ بالحَقِّ . و " مِنَ الكتابِ " تقدم نظيرُه ، و " ألْ " في الكتابِ الأولِ للعَهْدِ ، وهو القرآنُ بلا خلافٍ ، وفي الثاني : يحتملُ أن تكونَ للجنْسِ ، إذ المُرادُ الكُتُبُ السماويَّة [ كما تقدم ] . وجوَّز أبُو حيان : أنْ تكُون لِلْعَهد ؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ [ صفة ] أيْ : مِنَ الكتابِ الإلهِي ، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ . قوله تعالى : " وَمُهَيْمِناً " الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ ، اسمُ فاعلٍ ، وهو حالٌ من " الكتاب " الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو " مُصدِّقاً " ، ويجوزُ في " مُصَدِّقاً " و " مُهَيْمِناً " أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ " إلَيْكَ " ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رحمه الله . " وعليْهِ " متعلقٌ بـ " مُهَيْمِن " . و " المهيمنُ " : الرَّقيبُ قال حسَّان : [ الكامل ] @ 1971 - إنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ @@ والحافِظُ أيْضاً قال : [ الطويل ] @ 1972 - مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمنٌ لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ @@ وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - " شاهِداً " وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي ، وقال عِكْرِمَةُ : دالاً ، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ ، وأبُو عُبيدَةَ : مُؤتَمناً عليه . وقاله الكسائيُّ والحسنُ . واختلفوا : هل هو أصل بِنَفْسِهِ ، أيْ : أنه ليس مُبْدَلاً مِنْ شيءٍ ، يقالُ : " هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن " كـ " بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر " . وقال أبُو عُبَيْدة : لم تَجِىءْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ : " مُبَيْطِر ، ومُسَيْطِر ، ومُهَيْمن ، ومُحَيْمِر " . وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ " أدَبِ الكاتبِ " لفظاً خامساً ، وهو مُبَيْقِر ، اسم فاعل من : بَيْقَر يُبَيْقِر أيْ : خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان . وقيل : إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة ، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ ، والأصْلُ " مُأَأْمِن " بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين ، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً كـ " هراق وهراح ، وهَبرتُ الثوب " في : " أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ " و " أيهاتَ وهَيْهَات " ونحوها ، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه ، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها كـ " مُبَيْطِر " وإخوانه ، وأيضاً فإنَّ هَمْزَةَ " مُأَأْمِن " اسمُ فاعلٍ من " آمَنَ " قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت ، ثم أبدلت هاءً ، هذا ما لا نظيرَ له . وقد سقط ابنُ قُتَيْبَة سقطَةً فاحِشَةً حيث زعم أن " مُهَيْمِناً " مُصَغَّرٌ ، وأنَّ أصلهُ " مُؤيْمِنٌ " تصغيرُ " مُؤمِن " اسمُ فاعلٍ ، ثُم قُلبتْ همزتهُ هاءً كـ " هَرَاق " ، ويُعْزَى ذلك لأبِي العبّاس المُبَرّدِ أيضاً ، إلاَّ أنَّ الزَّجَّاج قال : " وهذا حسنٌ على طريق العربية [ وهُو مُوافقٌ لِمَا جَاءَ فِي التفسيرِ مِن أنَّ معنى " مُهَيْمِن " : مُؤمِنٌ " . وهذا الذي قالَهُ الزَّجَّاجُ واسْتَحْسَنَهُ ] أنكره الناسُ عليه ، وعلى المبرِدِ ، وعلى مَنْ تَبِعَهُما . ولما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَباً هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة ، وكتب إليه : أن اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ ، لأنَّ أسماءَ الله - تعالى - لا تُصَغَّر ، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم شَرْعاً . وقال ابنُ عطيَّة : " إنَّ النقَّاش حَكَى أنَّ ذلك لمَّا بلغ ثعلباً فقال : إنَّ ما قال ابنُ قُتَيْبَة رَدِيءٌ باطِلٌ ، والوُثُوب على القرآنِ شديدٌ ، وهو ما سَمِعَ الحديثَ مِنْ قويٍّ ولا ضعيفٍ ، وإنَّما جمع الكتُبَ من هَوَسٍ غلبه " . وقرأ ابنُ مُحيصن ومُجاهد : " وَمُهَيْمَناً " بفتح الميمِ الثانيةِ على أنَّه اسمُ مفعولٍ . وقال أبُو البقاءِ : وأصلُ " مُهَيْمن " : مُؤيمنٌ ؛ لأنه مُشْتَقٌّ من " الأمانة " ؛ لأنَّ المهيمنَ الشاهدُ ، وليس في الكلام " هَيْمَنَ " حتى تكُون " الهاء " أصْلاً ، وهذا الذي قالهُ ليس بِشَيءٍ لما تقدَّمَ مِنْ حِكايةِ أهْلِ اللُّغَةِ " هَيْمَنَ " ، وغايةُ مَا في البابِ أنهم لم يستعمِلُوه إلاَّ مَزِيداً فيه الياءُ كـ " بَيْطَر " وبابِهِ ، بمعنى أنَّه حُوفِظَ عليه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ ، والفاعلُ هو الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] أو الحافظُ لهُ في كُلِّ بلدٍ ، حتَّى إنَّه إذا غيَّرْتَ مِنْه الحَرَكَةَ تَنَبَّهَ لها الناسُ ، ورَدُّوا على قارئها بالصوابِ . والضميرُ في " عَلَيْه " على هذه القراءةِ عائدٌ على الكتابِ الأولِ ، وعلى القراءة المشهورةِ عائدٌ على الكتاب الثاني . وروى ابنُ أبِي نَجيح عَنْ مُجاهدٍ قراءتَهُ بالفتحِ ، وقال : " معناه : مُحَمدٌ مؤتمنٌ على القرآنِ " . قال الطَّبرِيُّ : فعلى هذا يكون " مُهَيْمِناً " حالاً من " الكَافِ " في " إليْك " ، وطعنَ على هذا القولِ لوجود " الواو " [ في ] " ومهيمناً " ؛ لأنها عطفٌ على " مُصدِّقاً " ، و " مُصدِّقاً " حالٌ مِنَ " الكِتاب " لا حَالٌ مِنَ " الكَافِ " ؛ إذْ لَوْ كان حالاً مِنْها لكان التركيبُ : " لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ " بالكَافِ . قال أبُو حيّان : وتأويلُه على أنَّه من الالتفات من الخطاب إلى الغَيْبَةِ بعيدٌ عَنْ نظم القرآن ، وتقديرُ : " وَجَعلْنَاكَ يا مُحمَّدُ مُهَيْمِناً " أبعدُ يعني : أنَّ هذيْنِ التَّأويلَيْنِ يَصْلُحَانِ أنْ يكُونَا جَوَابَيْنِ عن قول مجاهد ، لكنَّ الأولَ بعيد ، والثَّانِي أبعدُ مِنْه . وقال ابن عطيَّة هنا بَعْدَ أن حَكَى قراءةَ مُجاهِدٍ وتفسيرَهُ محمداً - عليه السلام - أنَّه أمينٌ على القرآنِ : قال الطبريُ وقوله : " ومُهَيْمناً " على هذا حالٌ مِنَ " الكَافِ " في قوله : " إلَيْكَ " قال : " وهذا تأويلٌ بعيدُ المفهومِ " قال : " وغلط الطبرِيُّ في هذه اللَّفْظَةِ على مُجاهدٍ ، فإنه فَسَّرَ تأويلَهُ على قراءةِ النَّاسِ " مُهَيْمناً " بِفَتْحِ الميمِ الثانيةِ ، فَبَعُدَ التأويلُ ، ومجاهدٌ رحمه الله إنَّما يَقْرأ هو وابنُ مُحَيْصِن : " مُهَيْمَناً " بِفَتْحِ الميمِ الثَّانِيَةِ فهُوَ بناءُ اسم المفعولِ ، وهو حالٌ من " الكِتَابِ " معطوفٌ على قوله : " مُصَدِّقاً " ، وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد - عليه السلام - " . قال : " وكذلك مشى مَكيّ - رحمه الله - " . قال شهابُ الدِّين : وما قاله أبُو محمدٍ ليس فيه ما يَرُدُّ على الطَّبريِّ ، [ فإنَّ الطبري ] اسْتَشْكَلَ كَوْنَ " مُهَيْمِناً " حالاً من " الكافِ " على قراءة مجاهدٍ ، وأيضاً فقد قال ابنُ عطية بعد ذلك : ويُحْتَملُ أنْ يكونَ " مُصدِّقاً ومُهَيْمِناً " حاليْنِ مِنَ " الكافِ " في " إلَيْكَ " ، ولا يخص ذلك قراءةَ مُجاهدٍ وحده كما زعم مَكّي ، فالناسُ إنما اسْتَشْكَلُوا كَوْنَهُمَا حالين من كافِ " إليك " لِقَلَقِ التركيبِ ، وقد تقدم ما فيه وما نقله أبُو حيَّان مِنَ التَّأويلينِ . وقوله : " ولا يخص ذلك " كلامٌ صَحِيحٌ ، وإنْ كان مكِّيٌّ التَزَمَهُ ، وهو الظَّاهِرُ . و " عَلَيْهِ " في مَوْضِعِ رَفْعٍ على قراءةِ ابنِ مُحَيْصن ، ومجاهدٍ لقيامِهِ مُقَامَ الفاعلِ ، كذا قاله ابنُ عَطِيَّةَ . قال شهاب الدين : هذا إذا جعلنا " مُهَيْمناً " حالاً من " الكتاب " ، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف " إلَيْكَ " ، فيكون القائمُ مقام الفاعلِ ضَمِيراً مُسْتَتِراً يعُود على النبي - عليه السلام - ، فيكون " عليه " أيضاً في مَحَلّ نَصْب ، كما لو قُرِىء به اسمُ الفاعل انتهى . فصل معنى أمانة القرآن ومعنى أمانةِ القرآنِ ما قال ابنُ جُرَيج : القرآنُ أمين على ما قبله من الكُتُبِ ، فما أخبر أهْلُ الكتابِ عن كِتَابِهِمْ ، فإنْ كان في القرآن فصدِّقوه ، وإلاَّ فَكَذِّبُوه . قال سعيدٌ بن المُسيَّب والضَّحاك : قَاضِياً ، وقيل : إنَّما كان القُرْآن مُهَيْمِناً على الكُتُب ؛ لأنه الكِتَاب الذي لا يَصِير مَنْسُوخاً ألْبَتَّةَ ، ولا يَتَطَرَّقُ إلَيْه التَّبْديل والتَّحْريف ؛ لقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . وإذا كان كذلك كان شهادَة القُرْآن على التَّوْرَاة والإنْجيل والزَّبُور حقٌّ وصدقٌ باقيةٌ أبداً ، [ وكانت حقيقة هذه الكُتُب مَعْلُومة أبداً ] . ومن قَرَأ بفتح الميمِ الثَّانِية ، فالمعنى أنه مشهودٌ عليه من عِنْد الله تعالى بأنَّه يَصُونُه عن التَّحْرِيف والتَّبْدِيلِ لقوله تعالى : { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] ، والآيات المتقدِّمة . قوله تعالى { فَٱحْكُم بَيْنَهُم } : يا محمد { بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } بين أهْلِ الكتاب إذا ترافعُوا إليك بالقُرآن ، والوَحْي ينزل عليك ، { وَلاَ تَتَّبعْ أهواءَهُم } ، أي : ولا تتحَرِفْ ، ولذلك عدَّاه بـ " عَنْ " كأنَّه قيل : ولا تنحرف عمَّا جاءك من الحقِّ مُتَّبِعاً أهواءَهُم . روي أنَّ جماعة من اليهُود قالوا : تعالوا [ نذهب ] إلى محمد لعلَّنا نَفْتِنهُ عن دينه ، ثمَّ دَخَلُوا عليه وقالوا : يا مُحَمَّد قد عَرَفْتَ أنّا أحبار اليَهُود وأشْرَافُهم ، وأنّا إن اتَّبَعْنَاك اتَّبَعَك كلُّ اليَهُود ، وإنَّ بَيْنَنَا وبين خصُومِنا حُكُومة فَنُحَاكِمهم إلَيْكَ ، فاقْضِ لنا ونحْنُ نُؤمِنُ بك فأنزل الله تعالى هذه الآية - والله أعلم - . فصل تمسَّك من طعن في عِصْمَة الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآيةِ ، وقال : لولا جواز المَعْصِيَة عليهم لما قال الله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } . والجوابُ : أنَّ ذلِكَ مَقْدورٌ له ، ولكِنَّهُ لا يَفْعَله لمكان النَّهْي ، وقيل : الخِطَابُ له والمُرَاد غيره . قوله تعالى : " عَمَّا جاءَك " فيه وجهانِ : أحدهما - وبه قال أبو البقاء - أنَّهُ حال ، أي : عَادِلاً عمَّا جَاءَك ، وهذا فيه نَظرٌ من حيث إنَّ " عَنْ " حرف جرٍّ ناقِص لا يقع خَبَراً عن الجُثَّةِ ، فكذا لا يَقَعُ حالاً عنها ، وحرف الجر النَّاقِص إنَّما يتعلَّق بكَوْنٍ مُطْلق لا بكَون مُقَيَّد ، لكن المقيَّد لا يجوز حَذْفُهُ . الثاني : أن " عَنْ " على بابِها من المُجَاوَزَةِ ، لكن بتضمين [ " تَتَّبعْ " ] معنى " تَتَزَحْزَحْ وتَنْحَرِفْ " ، أي : لا تَنْحَرِفْ مُتَّبِعاً كما تقدم . قوله تعالى : " مِن الحقِّ " فيه أيْضاً وجهان : أحدهما : أنَّه حالٌ من الضَّمِير المرفُوع في " جاءَك " . والثاني : أنَّهُ حالٌ من نفس " مَا " الموصُولة ، فيتعلّق بمحذوفٍ ، ويجُوزُ أن تكون للبيان . قوله [ تعالى ] : " لِكُلّ " : " كُلّ " مضافة لشيء محذوفٍ ، وذلك المَحذُوف يُحتمل أن يكون لَفْظَة " أُمّة " ، أي : لكل أمة ، ويراد بِهِم : جميعُ النَّاسِ من المُسْلِمِين واليَهُود والنَّصارى . ويحتمل أن يكُون ذلك المَحْذُوف " الأنْبِيَاء " أي : لكلِّ الأنْبِيَاء المقدَّم ذِكْرُهم . و " جَعَلْنَا " يُحْتَمل أن تكون مُتعدِّية لاثْنَين بمعنى صَيَّرْنَا ، فيكون " لكلِّ " مفعولاً مقدَّماً ، و " شِرْعَةً " مفعول ثانٍ . وقوله : " مِنْكم " متعلِّق بمحذُوفٍ ، أي : أعْني مِنْكم ، ولا يجُوز أن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنَّهُ صِفَة لـ " كُلٍّ " لوجهين : أحدهما : أنَّهُ يلزم منه الفَصْلُ بين الصِّفَة والموصُوف بقوله : " جعلنا " ، وهي جُمْلة أجْنَبيَّة ليس فيها تَأكِيد ولا تَسْدِيدٌ ، وما شأنه كذلِكَ لا يجُوزُ الفَصْلُ به . والثاني : أنه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين " جَعَلْنَا " ، وبين مَعْمُولها وهو " شرعة " قاله أبو البقاء ، وفيه نظر ، فإنَّ العامِلَ في " لِكُلٍّ " غير أجْنَبِيّ ، ويدلُّ [ على ذلك ] قوله : { أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ } [ الأنعام : 14 ] ، ففصل بين الجلالة وصِفَتِها بالعامِل في المَفْعُول الأوّل ، وهذا نَظِيرُهُ . وقرأ إبراهيم النَّخعي ، ويَحْيى بن وثَّاب : " شَرْعَةً " بفتح الشِّين ، كأن المكسور للهيئَة ، والمفْتُوح مَصْدر . والشِّرْعَةُ في الأصْل " السُّنَّة " ، ومنه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ } [ الشورى : 13 ] ، أي : سن [ لكم وبيَّنَ ووَضَّحَ ] . والشَّارع : الطريق ، وهو من الشَّريعة التي هي في الأصْلِ : الطَّريق المُوصِّلُ إلى الماء ، وقال ابن السِّكِّيت : الشَّرْع مصدر شَرَعْت الإهَاب ، أي : شَقَقْتُهُ وسَلَخْتُه ، وقيل : مأخوذٌ من الشُّروع في الشَّيء : وهو الدُّخُول فيه . ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] @ 1973 - وفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جلاَّنَ مُقْتنِصٌ بَالِي الثِّيَابِ خَفِيُّ الصَّوْتِ مُنْزَرِبُ @@ والشَّريعة : فَعِيلة بمعنى المَفْعُولة : وهي الأشيَاءُ التي أوْجب اللَّه تعالى على المكلَّفِين أن يشرعوا فيها ، والمِنْهاجُ مشتقٌّ من الطَّريق النَّهْج وهو الوَاضِح . ومنه قوله : [ الرجز ] @ 1974 - مِنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ مَاءٌ رَوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ @@ أي : وَاضِح ، يقال : طَرِيق مَنْهَج ونَهْج . وقال ابن عطية : منهاج مثال مُبالغة ، يعني قولهم : " إنَّه لَمِنْحَارٌ بَوَائكَهَا " وهو حسنٌ ، [ وهل الشِّرْعَة ] والمنهاج بمعنى كقوله : [ الطويل ] @ 1975 - … وَهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ @@ [ الوافر ] @ 1976 - … وَألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنا @@ أو مُخْتلفَان ؟ فالشِّرْعَةُ : ابتداءُ الطَّريق ، والمِنْهَاج الطَّريق المستمِرُّ ، قاله المبرِّد ، أو الشِّرْعةُ : الطَّرِيق وَاضِحاً كان أو غَيْر وَاضِح ، والمنْهَاجُ : الطريق الوَاضِحُ فقط ، فالأوَّل أعمُّ . قاله ابن الأنباري ، أو الدِّين والدَّلِيل ؟ خلافٌ مشهور . فصل في معنى الآية قال ابنُ عبَّاس ، ومُجَاهِد ، والحسن - رضي الله عنهم - معنى قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أي : سَبِيلاً وسُنَّة ، وأراد بهذا أن الشَّرَائع مختلِفَةٌ ولكلِّ أمَّة شرِيعة . قال قتادة : الخِطَاب للأمُمِ الثَّلاث : أمَّة مُوسَى ، وأمَّة عيسى ، وأمَّة محمد - صلوات الله وسلامُهُ عليهم - لتقدُّم ذِكرهم . فإن قيل : قد وردتْ آياتٌ تدلُّ على عدم التَّبَايُن في طريقة الأنبياء - عليهم السلام - كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] إلى قوله تعالى : { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] وقال تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] ، وآياتٌ دلَّت على التَّبَايُن في هذه الآية فكيف الجَمْع ؟ فالجواب : أنَّ الأوَّل يَنْصَرِفُ إلى أصُول الدِّيَانَاتِ . والثاني ينصرف إلى الفُرُوع . واحتجَّ أكثر العُلَمَاء بهذه الآية على أنَّ شرع من قبلنا لا يلزمنا ؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ لكلِّ رَسُولٍ شريعَةٌ خاصَّةٌ . قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ، أي : جماعة مُتَّفِقَة على شريعة واحِدة ، أو ذَوِي أمة واحدة ، أو دِين واحد لا اخْتِلاَف فيه . قال أهل السُّنَّة : وهذا يدلُّ على أن الكُلَّ بِمَشِيئَةِ الله - تعالى - ، والمعتزِلَةُ : حَمَلُوهُ على مَشِيئَة الإلْجَاء . قوله تعالى : " ولَكِنْ لِيَبْلُوكُمْ " متعلِّق بِمَحْذُوف ، فقدَّرَهُ أبو البقاء : " ولكن فرَّقكم لِيَبْلُوَكُم " . وقدَّره غيره " ولكن لم يَشْأ جَعْلكم أمَّة واحِدة " . قال شهاب الدين : وهذا أحْسَن ؛ لدلالة اللَّفْظ والمعنى عليه . ومعنى " لِيَبْلُوكُمْ " : ليختبركم ، " فِيمَا آتَاكُم " : من الكُتُب وبيَّن لكم من الشَّرائع ، فبيّن المُطِيع من العَاصِي ، والمُوَافِق من المُخَالِف ، " فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ " فبادروا إلى الأعْمَال الصَّالحة قوله تعالى : { إِلَىٰ اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } استئناف في معنى التَّعْليل لاستِبَاقِ الخَيْرَاتِ . وهذه الجُملة تحتمل أن تكُون من بَابِ الجملة الفعليَّة أو الجملة الاسميَّة ، كما تقدَّم في نظائره . و " جَمِيعاً " حال من " كُمْ " في " مَرْجِعُكُمْ " ، والعامل في هذه الحال ، إمَّا المصْدر المضاف إلى " كُمْ " ، فإنَّ " كُمْ " يحتمل أن تكون فاعِلاً ، والمصدر يَنْحَلُّ لحرف مصدريٍّ ، وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل ، والأصْلُ : " تُرْجَعُون جَمِيعاً " ، ويحتمل أن تكون مفعُولاً لم يُسَمَّ فاعِلُه ، على أنَّ المصدر يَنْحَلُّ لفعل مَبْني للمفعول ، أي : " يُرْجِعُكُم الله " ، وقد صرَّح بالمعْنَييْن في مواضع . وإما أن يعمل فيها الاسْتِقْرارُ المقدَّر في الجارِّ وهو " إلَيْه " [ و " إليه مَرْجِعُكُمْ " يحتمل أن يكون من باب الجُمَل الفعليَّة ، أو الجُمل الاسميَّة ، وهذا واضح بما تقدَّم في نَظَائِره ] و " فَيُنَبِّئُكم " هنا من " نَبَّأ " غير مُتَضَمِّنَة معنى " أعْلَم " ، فلذلك تعدَّتْ لواحد بِنَفْسِها ، وللآخر بحرف الجرَّ . والمعنى : فَيُخْبِركم بما لا تَشُكُّونَ معه من الجَزَاءِ الفاصِلِ بين محقكم ومُبْطِلِكُم ، والمُراد : أنَّ الأمر سيؤول إلى ما يُزِيل الشُّكُوك .