Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 49-50)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَأَنِ ٱحْكُم } : فيه أربعةُ أوجه : أحدها : أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفاً على " الكِتَاب " ، أي : " وأنزلنا إليكم الحكم " . والثاني : أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفاً على " بالحقِّ " ، أي : " أنزلناه بالحق وبالحكم " وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ " أنْ " النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور . والثالث : أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء ، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان : أحدهما : أن تقدِّره مُتَأخِّراً ، أي : حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا . والآخر : أن تقدِّره متقدِّماً أي : ومِن الواجِبِ أن احكُم أي : حُكْمُك . والرابع : أنَّهَا تَفْسِيريَّة . قال أبُو البقاء : " وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ " الواو " تَمْنَع من ذلك ، والمعنى يفسد ذلِك ؛ لأنَّ " أن " التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا " ، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع " الواو " أن تكُون " أنْ " تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ . وأمَّا قوله : " يَسْبِقُها قوْل " إصلاحُهُ أن يقول : " مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه " ، ثم قال : ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير : وأمَرْنَاك ، ثم فسَّر هذا الأمْر بـ " احْكُمْ " ، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء ، قال : لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة بـ " أن " وما بعدها ، وهو كما قال . وقراءتَا ضمِّ نُونِ " أن " وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة : الضمَّة للإتبَاع ، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن . والضَّمِير في " بَيْنَهُم " : إمَّا لليهُود خَاصَّة ، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين . فإن قيل : قالوا : هذه الآية نَاسِخَةٌ للتَّخْيِير في قوله : { فَٱحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] ، وأعَادَ ذِكْر الأمْر بالحُكْمِ بعد ذِكْرِهِ أوَّلاً : إما للتَّأكيد ، وإمَّا لأنَّهما حُكْمَان أمَر بهما جَمِيعاً ؛ لأنَّهمُ احْتَكموا إليه في زِنَا المُحْصَن ، ثُمَّ احْتَكَمُوا إليه في قتلٍ كائنٍ فيهِم . قوله تعالى : { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : يردُّوكَ إلى أهْوائِهِم . وقد ذكرنا أنَّ اليهُود اجْتَمَعُوا وأرادُوا إيقاعَهُ في تَحْرِيفِ دينهِ فعصمَهُ اللَّه عن ذلك ، فإن كلَّ من صُرِفَ من الحقِّ إلى الباطِلِ فقد فُتِن ، ومنه قولُهُ تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } [ الإسراء : 73 ] والفِتْنَةُ هاهنا : المَيْلُ عن الحقِّ والإلْقَاء في الباطِل ، وكان - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يقول : " أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا " ، قال : هو أن يَعْدِلَ عن الطَّرِيق . قال العُلَمَاءُ - رضي الله عنهم - : هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخَطَأ والنِّسْيَان جائِزٌ على الرُّسُل ؛ لأن الله قال : { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } ، والتَّعَمُّد في مثل هذا غير جائز على الرُّسل فلم يَبْقَ إلا الخَطَأ والنسيان . قوله تعالى : " أن يفْتِنُوكَ " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مفعول من أجلِهِ ، أي : احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك . والثاني : أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال ، كأنَّه [ قال ] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ ، كقولك : " أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه " . وقوله تعالى : " فإن تَوَلَّوْا " . قال ابنُ عطيَّة : قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر ، تقديره : " لا تَتَّبعْ واحْذَر ، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك ، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ " . ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله : " لَفَاسِقُون " ، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال : في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف ؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ ، والأمْر فيه واضِحٌ . فصل المعنى : " فإن تَولَّوْا " : أعرضوا عن الإيمَان ولَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ ، { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم } أي : فاعْلَم أن إعْراضهم من أجْلِ أن يُرِيد الله أن يعجِّل لهم العُقُوبَة في الدُّنْيَا ، بأن يُسَلِّط عَلَيْهِم ويُعذِّبَهُم في الدُّنْيَا [ بالقَتْلِ والجَلاَء ] ، وخصَّ تعالى بَعْضَ الذُّنُوب ؛ لأنَّ القَتْل جُوزُوا به في الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبهم ، وكانت مُجَازَاتهم بالبعض كَافِياً في إهلاكهم ، { وإن كثيراً من النَّاسِ } ، يعني : اليَهُود . " لفاسقون " لمتمردّون في الكُفْرِ ومُعْتَدُون فيه . قوله تعالى : " أفَحُكْمَ " : الجمهور على ضمِّ الحاء ، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم ، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ . و " حُكْمَ " مَفْعُول مقدَّم ، و " يَبْغُون " فعل وفاعل ، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى . و " الفَاء " فيها القَوْلان المشهوران : هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم ، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره : أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة ؟ وقرأ ابن وثَّاب ، والأعْرج ، وأبو رجَاء ، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ ، وفيها وجهان : أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين - : أنه مُبْتَدأ ، و " يَبْغُون " خبره ، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه : " يَبْغُونَهُ " حَمْلاً للخبر على الصِّلَة ، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد : " هذه القراءةُ خَطَأ " ، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة ، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ . قال ابن جنِّي في قول ابن مُجاهد : لَيْس كذلك ، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه ، وقد جَاءَ في الشِّعْر ، قال أبو النَّجْم : [ الرجز ] @ 1977 - قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ @@ أي : لم أصْنَعْهُ . قال ابن عطيَّة : وهكذا الرِّواية ، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح ؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ ، ولو نَصب " كُل " لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه ، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان ، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - " حين سأله ذُو اليَديْن ، فقال : " أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ ؟ " فقال : " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم " كُلّ " ، قالوا : ولو قال : " لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك " لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي ، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب ، وعكسها نحو : " لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك " يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم ، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ ذكرت لك ] . ثُمَّ قال ابن عطيَّة : وهو قَبِيحٌ - يعني : حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة ، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ . ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ . أحدهما : أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ ألِف ] استفهام تَطْلُب الفعل ، كما هي في " أفَحُكْمَ " . والثاني : أن في البيت عِوَضاً من " الهَاء " المحذُوفَة ، وهو حَرْف الإطلاَق أعني " اليَاء " في " اصنَعِي " ، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ " أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ " ، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به . وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب ، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح ، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ ، أو على أنّ غَيْرَه [ أوْلى ] . وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع ، ونفي الخِلاف عنها ، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر ، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ " كل " ، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار ، فأمَّا " كُل " فنحو : " كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت " ، ويقوِّيه قراءة ابن عَامِر : { وكُلًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى } [ النساء : 95 ] ويريد بما أشْبَه " كُلاًّ " نحو : " رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ " ، أي : انْصُرْهُ ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة ، كما أنَّ " كلاً " عامة ، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه . قال : " وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك ، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد ، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به ، والبصريُّون يُجِيزُون : " زَيْدٌ ضَرَبْتُ " أي : ضربْتُهُ " ، وذكر القراءة . وتعالى بعضهم فقال : " لا يجُوزُ ذلك " ، وأطلق ، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله : [ السَّريع ] @ 1978 - وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا بِالحَقِّ ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ @@ قال : " لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تَهْيِئَةِ العامل لِلْعَمَل ، وقطعه عَنْهُ " . والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن : أن يكون " يَبْغُون " ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ ، والتَّقْدير : " أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون " ، وحذفُ العَائِد هنا أكثر ، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة ، ودونَهُ من الصِّفَةِ ، ودونَهُ من الخَبَرِ ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة ، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن ، ونظَّرَهُ بقوله تعالى : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } [ النساء : 46 ] ، أي : " قومٌ يُحَرِّفُون " يعني : في حذف موصوف ، وإقامة صِفَته مُقَامه وإلا فالمَحْذُوف في الآية المُنَظَّرِ بها مُبْتَدأ ، ونظَّرها أيْضاً بقوله : [ الطويل ] @ 1979 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارتَانِ : فَمِنْهُمَا أمُوتُ وأخْرى أبْتَغِي العَيشَ أكْدَحُ @@ أي : تارةً أمُوت فيها . وقال الزَّمَخْشَرِي : وإسقاطُ الرَّاجع عنه كإسْقاطِهِ في الصِّلة ، كقوله : { أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] ، وعن الصِّفَةِ " في النَّاس رجلان : [ رجُلٌ ] أهنْتُ ، ورجُلٌ أكرمت " أي : رجل أهَنْتُهُ ورجل أكرمْتُه . وعن الحال في نحو : " مررتُ بِهِنْد يَضْرِبُ زَيْدٌ " . قال أبو حيَّان : " إنْ عنى التَّشْبيه في الحَذْفِ والحُسْن ، فليس كذلك لما تقدَّم [ ذكره ] ، وإن عنى في مُطْلَقِ الحَذف فَمُسَلَّم " . وقرأ الأعمش وقتادة : " أفَحَكَمَ " بفتح الحَاء والكاف ، ونصب الميم ، وهو مفردٌ يُرَادُ به الجِنْس ؛ لأنَّ المعنى : أحُكَّامَ الجاهليَّة ، ولا بدَّ من حذفِ مُضافٍ في هذه القراءة ، هو المصرَّح به في المُتواتِرة تقديره : أفَحُكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّة . والقُرَّاءُ غير ابن عَامِرٍ على " يَبْغُونَ " بياء الغَيْبَةِ نَسَقاً على ما تقدَّم من الأسْمَاء الغَائِبَة ، وقرأ هو بِتَاءِ الخِطَاب على الالتِفَاتِ ؛ ليَكُون أبلغ في زَجْرِهِمْ وردْعِهِمْ ومُبَاكتتهِ لهم ، حيث واجهَهُم بهذا الاستفهام الذي يأنَفُ منه ذَوُو البَصَائِر . والمعنى أنَّ هذا الحُكْم الذي يَبْغُونَه إنَّما يحكم به حُكَّام الجاهليَّة . فصل وفي الآية وجهان : الأول : قال مُقَاتِل : " كان بَيْنَ قُرَيْظَة والنَّضِير دَمٌ في الجاهليَّة ، فلما بُعِثَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - واحتكَمُوا إليه ، فقال بَنُو قُرَيْظَة [ يا رسُول الله إن ] بني النَّضِير إخْوَانُنَا ، أبُونا واحِدٌ وكِتَابُنَا واحِدٌ ونبيُّنا واحد ، فإن قتل بنُو النَّضِير منَّا قَتِيلاً ، أعطونا سَبْعِين وَسقاً من تَمْرٍ ، وإنَّا إن قتلْنَا وَاحِداً أخَذُوا منَّا مائة وأربعين وسقاً ، وأرُوش جِرَاحَاتِنَا على النِّصْف من أرُوش جراحاتِهِم ، فاقضِ بَيْنَنا وبَيْنَهُم ، فقال - عليه السلام - : " وإنِّي أحْكُم [ أنَّ دِمَاء القرظي ] وفاءٌ من دم النَّضَري ، والنَّضَري وفاءٌ من دمِ القُرظِي ، ليْسَ لأحدهمَا فَضْل على الآخر في دم ولا عَقْلٍ ولا جراحةٍ " " فَغَضِبَ بنُو النَّضِير وقالُوا : لا نرضى بِحُكْمِكَ فإنَّك عَدُوٌّ لَنَا ، فَأنْزَل اللَّه تعالى هذه الآية . وقيل : إنَّهُمْ كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضُعَفَائِهِم ألْزَمُوهُم إيَّاه ، وإذَا وجبَ على أقْوِيَائِهِم لم يَأخُذُوهُم به فَمَنعهم اللَّه من ذلِكَ بهذه الآية . والثاني : أنَّهُم يَبْغُون حُكْمَ الجاهليَّة ، الَّتِي هي محضُ الجهل وصريح الهوى . ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ، فقوله - سبحانه وتعالى - : " حُكْماً " نصب على التَّمْييزِ ، و " اللاَّم " في قوله تعالى : " لِقَوْم " فيها ثلاثةُ أوجُه : أحدها : أن يتعلّق بنفس " حُكْماً " ؛ إذ المعنى : أنَّ حكم الله للمؤمن على الكَافِر . والثاني : أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف ، كَهِي في " سقياً لَكَ " و " هَيْتَ لَكَ " ، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي ، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه ، وهو أنَّ المعنى : " يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم " . الثالث : أنَّها بمعنى " عِنْد " ، أي : عند [ قَوْمٍ ] ، وهذا لَيْسَ بِشَيْء . ومتعلَّقُ " يُوقِنُون " يجُوزُ أن يُرادَ ، وتقديرُه : يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ ، أو بالقُرْآن ، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [ وقُوع الإيقان ] ، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج ، فإنَّهُ قال : " يُوقِنُون " : " يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ " فإنَّهم [ هم الذين ] يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً ، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً . فصل قال القرطُبِيّ : روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبِي نُجَيْح ، عن طَاوُوس قال : كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية { أَفَحُكْم الجاهليَّة يبغُون } ، فكان طاووس يقول : لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِر ، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - ، وكرهه الثَّوْري ، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي ، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه ، واستدَلَّ الأوَّلُون " بقوله - عليه الصلاة والسلام - لبَشِير : [ ألَكَ ولدٌ سِوَى هذا " ؟ قال : نعم ، فقال " أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا " ، فقال : لا ، قال ] " فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ " ، وفي رِوَاية " إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ " . قالُوا : ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز ، وقوله : " أشْهِدْ على هذا غَيْرِي " ليس إذْناً في الشَّهَادَة ، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا ؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [ جَوْراً ] وامتنع من الشَّهَادَة فيه ، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين ، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [ قد ] نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك . فإن قيل : الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً ، قيل له : الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ .