Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 4-4)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } الآية . وهذا أيضاً مُتَّصِلٌ بما قَبْلَهُ من ذِكْرِ المطعُومَاتِ ، وقد تقدم الكلامُ على " مَاذَا " [ وما قيل فيها فليلتفت إليه ] . وقوله : " لَهُمْ " بلفظ الغَيْبَةِ لتقدمِ ضَميرِ الغَيْبةِ في قوله تعالى : " يَسْألُونَكَ " . ولو قيل في الكلام : ماذا أحِلَّ لنا ؟ لكان جائزاً على حكايةِ الجملةِ ، كقولك : أقْسَمَ زَيْدٌ ليَضرْبَنَّ ولأضربَنَّ ، بلفظ الغيبة والتكلمِ ، إلا أن ضمير المتكلّمِ يَقْتَضي حكايةَ ما قالوا : كما أن " لأضربن " يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها ، و " ماذا أحِلّ ؟ " هذا الاستفهامُ معلّق للسؤال ، وإن لم يكن السؤالُ من أفعالِ القُلُوبِ إلاَّ أنَّهُ كان سبب العلم ، والعلم يعلق ، فكذلك سببهُ ، وقد تقدم تحريره في " البقرة " . وقال الزمخشري هنا : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم ، ولا حاجة إلى تضمين السؤال معنى القول ؛ لما تقدم من أن السؤال يعلق بالاستفهام كمسببه . وقال ابن الخطيب : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحلَّ لهم ، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقولونه ، وإنما يقولون ماذا أحِلَّ لنا ، بل الصحيح أنه ليس حكاية لكلامهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة . قال القُرْطُبي : " مَا " فِي مَوْضِعِ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ " أحِلَّ لَهُمْ " ، و " ذَا " زَائِدَةٌ وإنْ شِئْتَ كانت بمعنى " الذي " ، ويكون الخبر { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } . فصل في سبب نزولها قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ : نزلت هذه الآيةُ في عديّ بْنِ حَاتِم ، وَزَيْدِ بْنِ المُهَلْهِلِ [ الطائيين وهو ] زَيْدُ الخيل الذي سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيد الخيْرِ ، فقال : " يا رسول الله ، إنّا قَوْمٌ نَصِيدُ بالكِلاَبِ ، والبزاةِ ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا منها ؟ " . فنزلت هذه الآية . وقيل : سببُ نزولِها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلابِ ، قالوا : يا رسول اللَّهِ ، ماذا يحلُّ لنا من هذه الأمَّةِ التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية ، فلما نزلت أذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في اقتناءِ الكِلابِ التي يُنْتَفَعُ بها ، وَنَهَى عن إمْسَاكِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بها . قوله تعالى : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } يعني : الذَّبَائح على اسم الله عزَّ وجلَّ . وقيل : كلُّ ما تستطيبه العرب وتستلذُّه من غير أن يراد بتحريمه نصٌّ من كتاب أو سنة ، وكانت العرب في الجاهليةَ يحرمون أشياء [ من الطيبات ] كالبحيرَة والسَّائِبَةِ والوَصِيلَةِ ، والحامِ ، فهم كانوا يستطيبونها إلا أنَّهُم كانوا يحرِّمُونَ أكلها لِشُبُهَاتٍ ضعيفة ، فذكر تعالى أن كلَّ ما يُسْتَطَابُ فهو حلال ، وأكَّدَهُ بقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } [ الأعراف : 32 ] وبقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 157 ] ، والطَّيب في لغةِ العرب هو المستلذُّ والحلالُ المأذُونُ ، يصير - أيضاً - طَيّباً تشبيهاً بما هو مستلذ ؛ لأنَّهُما اجتمعا في انتفاء الضَّرورة ، ولا يمكن أن يكونَ المرادُ بالطيِّبَاتِ هنا المحللات وإلا لصار تقديرُ الآية : قل [ أحِلَّ ] لكم المحللات ، وهذا ركيك ، فوجب حمل الطيبات على المستلذِّ المشتهى . واعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ؛ فإنَّ أهل البادية يستطيبون أكلَ جميع الحيوانات ، واعلمْ أنَّ قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] يقتضي التَّمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلا أنَّهُ ورد تخصيصه بقوله : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 157 ] ، ونص في هذه الآية على إبَاحَةِ المستلذات والطيبات ، وهذا أصل كبير في معرفة ما يحلُّ وما يحرمُ من الاطعمة . قوله سبحانه : { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } في " ما " هذه ثلاثة أوجه : أحدها : أنها موصولة بمعنى " الذي " ، والعائد محذوف ، أي [ ما ] علمتموه ، ومحلها الرفع عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمَّ فاعله أي : وأحل لكم صَيْدُ أو أخذ ما علمتم ، فلا بد من حذف هذا المضاف . والثاني : أنَّهَا شرطيّة فمحلها رفع بالابتداء ، والجوابُ قوله : " فَكُلُوا " . قال أبو حيان : وهذا أظهرُ ؛ لأنَّه لا إضمار فيه . والثالث : أنَّهَا موصولة - أيضاً - ومحلُّها الرفع بالابتداء ، والخبر قوله : " فَكُلُوا " وإنَّمَا دخلت الفاء تَشَبُّهاً للموصول باسْمِ الشَّرْطِ ، وقوله : من الجَوَارِحِ في محَلِّ نصب ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما : أنَّهُ الموصول وهو " ما " . والثاني : أنَّهُ الهاء العائدة على الموصول ، وهو في المعنى كالأوَّل . والجوارح : جمع جارحة ، والهاء للمبالغة سميت بذلك ؛ لأنَّهَا تجرح الصيد غالباً ، أو لأنَّهَا تكسب والجرح الكَسْب . ومنه : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] والجارحة صفة جارية مجرى الأسماء ؛ لأنَّهَا لم تذكر موصوفها غالباً . وقرأ عبد الله بن عبَّاس ، وابن الحنفية " عُلِّمْتُمْ " مبنياً للمفعول ، وتخريجها : أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف ، أي : وما علّمكم الله من أمر الجوارح [ " مكلبين " : حال من فاعل " علمتم " ومعنى مكلبين : مؤدبين ومضرين ومعوِّدين ، أي : حال تكليبكم ] هذه الجوارح ، أي : إغرائكم إياها على الصَّيد . قال أبو حيَّان : وفائدة هذه الحال ، وإن كانت مؤكدة لقوله : " عَلَّمتم " - فكان يستغنى عنها - أن يكون المعلم ماهراً بالتعليم ، حاذقاً فيه موصوفاً به اهـ . وفي جعله هذه الحال مؤكدةً نظر ، بل هي مؤسسة . واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ " الْكَلْب " هذا الحيوان المعروف ، وإن كانَتِ الجوارحُ يندرج فيها غيره حتى سِبَاعُ الطيور تغليباً له ؛ لأنَّ الصَّيْدَ أكثر ما يكون به عند العَرَبِ . أو اشتقت من " الكَلَب " ، وهو الضَّراوة ، ويقال : هو كَلِبٌ بكذا أي : حريص ، وبه كَلَبٌ أي حِرْصٌ ، وكأنه - أيضاً - مشتقّ من الكَلْبِ هذا الحيوان لحرصه أو اشتقت من الكَلْبِ ، والكَلْبُ : يطلق على السَّبُع - أيضاً - . ومنه الحديث : " اللهُمَّ سَلِّطْ عليهِ كَلْباً مِنْ كِلابِكَ " فأكله الأسَدُ . قال أبو حيَّان : وهذا الاشتقاق لا يَصِحُّ ؛ لأنَّ كونَ الأسَدِ كَلْباً هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلّم ، والجوارح هي سِباعٌ بنفسها ، وكلاب بنفسها لا بجعل المُعَلِمِّ ، ولا طَائِلَ تحت هذا الرَّدِّ . وقرئ " مُكْلِبين " بتخفيف اللام ، وفَعَّل وأفعل قد يشتركانِ في معنى واحد ، إلا أنَّ " كَلَّب " بالتَّشْدِيدِ معناه : عَلَّمها وضَرَّاها ، وأكْلب معناه صار ذا كِلاَب . على أن الزجاج قال : يقال : رجلُ مُكلِّب يعني بالتشديد ، ومُكْلِب يعني [ من ] أكلب وكلاّب يعني بتضعيف اللام أي : صاحب كِلاَبٍ . وجاءت جملة الجواب هنا فعلية ، وجملة السؤال هنا اسمية ، وهي ماذا أحل ؟ فهي جواب لها من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ؛ إذ لم يتطابقا في الجِنْس . والكلاَّب والمكلِّب هو الذي يعلم الكلاب الصيد . فمكلِّب صَاحِب الكلابِ كمعلِّم : صاحبِ التَّعليم ، ومؤدِّب : صاحب التّأديب . فصل معنى الآيةِ وأحِلَّ لكم صَيْدُ ما علمتم من الجوارحِ . واختلفُوا في هذه الجَوَارحِ ، فقال الضَّحاكُ والسُّدِّيُّ : [ هي ] الكلاب دون غَيْرِهَا ، ولا يحلُّ ما صاده غير الكلب إلا أن يُدرِكَ ذكاته ، ولا عملَ على هذا ، بل عامَّةُ أهلِ العلمِ على أنَّ المرادَ من الجَوَارِحِ الكواسب من سباع البَهَائِمِ كالفهد ، والنمر ، والكلب ، ومن سباعِ الطَّيْر كالبازي والعُقابِ والصَّقْرِ ونحوها مما يقبل التعليم فيحلُّ صيد جميعها . قوله سبحانه وتعالى : " تُعَلِّمُونَهُنَّ " فيه أربعةُ أوْجُهٍ : أحدها : أنَّهَا جُملةٌ مستأنَفَةٌ . الثاني : أنَّهَا جملة في محلِّ نصبٍ على أنَّها حال ثانية من فاعل " عَلَّمتُم " . ومنع أبُو البقاء ذلك ؛ لأنَّه لا يجيز للعامل أنْ يعمل في حالين ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك . الثالث : أنَّها حال من الضَّميرِ المستكنِّ في " مكلِّبين " فتكونُ حالاً من حالٍ ، وتُسمَّى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكِّدة ؛ لأن معناها مفهوم من " علمتم " ، ومِنْ " مُكَلِّبين " . الرابعُ : أن تكون جملةً اعتراضيةً ، وهذا على جَعْلِ ما شرطيّة أو موصولة خبرها " فَكُلُوا " فيكونُ قد اعترض بين الشَّرْط وجوابه ، أو بين المبتدأ وخبره . فإن قيل : هَلْ يجوز وجهٌ خَامِسٌ ، وهو أن تكون هذه الجملة حالاً من " الجَوَارِحِ " ، أو من الجوارح حال كوْنِهَا تُعلمُونَهُنَّ ؛ لأنَّ في الجملة ضمير ذِي الحلالِ ؟ فالجوابُ : أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنه يؤدِّي إلى الفَصْلِ بين هذه الحال وبين صاحبها بأجنبِيٍّ ، وهو مُكَلِّبينَ الذي هو حال من فاعل " علمتم " . وأنث [ الضمير في " تُعَلِّمُونَهُنَّ " ] مراعاة للفظِ الجوارحِ ؛ إذْ هو جمع جارحةٍ ، ومعنى " تُعَلِّمُونَهُنَّ " تؤدبونهن أدبَ أخذ الصَّيد ، { مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } أي من العلم الذي " عَلَّمَكُمُ اللَّهُ " . قوله تعالى : { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } في هذه الهاء ثلاثة أوجه : أحدها : أنها عائدة على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكْلُ ، كأنَّه قيل : واذكروا اسم الله على الأكل ، ويؤيده قوله عليه السلامُ : " سَمِّ الله وكُلْ مِمَّا يَلِيكَ " . والثاني : أنَّه يُعود على " مَا عَلَّمتُم " ، أي : اذكروا اسم اللَّهِ على الجوارح عند إرسالها على الصيد ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ ، وذكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ " . والثَّالِثُ : أنها تعود على " ما أمْسَكْن " أي : اذكروا اسْمَ الله على ما أدركتم [ ذكاته مما أمسكته ] عليكم الجوارح ، وحتى على هذا الإعراب وجوب اشتراط التسمية في هذه المواضع . ثم قال : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } . أي : واحذروا مُخالفَةَ أمر اللَّهِ في تحليل ما حلَّله وتحريم ما حرَّمه . فصل قال القُرطُبِيُّ : دلَّت الآية على جواز اتخاذ الكِلابِ واقتنائها للصَّيْدِ ، وثبتَ ذلك في صَحِيحِ السُّنَّةِ ، وزادت الحرث والماشِيَة ، وقدْ كَانَ [ في ] أوَّل الإسلامِ أمر بقتل الكلاب ، وقال : " من اقْتَنَى كَلْباً إلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ ، أو صَيْدٍ نَقُصَ مِنْ عملِه كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ " . قال القرطبيُّ : وهذا المنعُ إمَّا لترويعه المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه . أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته على مذهب من يرى ذلِكَ ، وإما لاقتحام النهي على اتخاذ ما لا منفعة فيه . فصل قال القرطبي : وفي الآيَةِ دليلٌ على أنَّ العالِمَ له من الفضيلة ما ليس للجاهل ، لأنّ الكلبَ المُعَلَّمِ له فضيلة على سَائِر الكلاب ، فالإنْسَانُ إذا كان له عِلْمٌ أولى .