Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 52-53)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَتَرَى ٱلَّذِينَ } : الجمهورُ على " تَرَى " بتاء الخطاب ، و " الذين " مفعُول ، فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من " يُسَارِعُون " في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول ، وإن كانت قَلْبِيَّةً ، فيكون " يُسَارِعُون " مفعولاً ثانياً . وقرأ النَّخْعِي ، وابن وثَّاب " فَيَرَى " باليَاء وفيها تَأويلان : أظهرهما : أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى ، وقيل : على الرَّأي من حيث هُو : و " يُسَارِعون " بحالتها . والثاني : أن الفاعل نفس الموصُول ، والمفعول هو الجملة من قوله : " يسارعون " ، وذلك على تأويل حذْفِ " أنْ " المصدريَّة ، والتقدير : ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا ، فلما حُذِفَتْ : " أنْ " رُفِعَ الفِعْلُ ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 1980 - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى … @@ فصل أجاز ابْنُ عطيَّة حذف " أن " المصدريّة ، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ ؛ إذ لا تُحْذَفُ " أن " عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة . وقرأ قتادةُ والأعْمش : " يُسْرِعُونَ " من أسْرَعَ . و " يَقُولُون " في محل نَصْب [ على الحالِ من فاعل " يُسَارِعُون " ، و " نَخْشَى " في محل نَصْبٍ بالقَوْل ، و " أنْ تُصِيبنَا " في محلِّ نَصْبٍ ] بالمفعُول أي : " نَخْشَى إصابَتَنَا " ، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها ، والأصل : دَاوِرَة ؛ لأنَّها من دار يَدُور . قال الواحدي : الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن ، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر : [ الرجز ] @ 1981 - يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا @@ يعني بدور الدَّهر : هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم . فصل المُرَاد بقوله تعالى { ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم المُنَافِقُون يعني : عبد الله بن أبَيّ وأصحابه - لعنهم الله - " يُسَارِعُون [ فيهم " أي : في ] مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران ؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة ، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم ، ويُقْرِضُونَهُم . ويقول المَنَافِقُون : إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والزَّجَّاج : أي : نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك . وقيل : نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط ، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض . قوله : { فَعَسَى اللَّهُ أن يَأتِيَ بِالفتْحِ } ، " أن يَأتِي " في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [ على ] الخبر لـ " عسى " ، وهو رأي الأخْفَش ، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به ، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك : " عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم " . وأجاز أبو البقاء أن يكون " أنْ يأتِي " في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ " عسى " ، وفيه نظر . فصل قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله - : عسى من اللَّه واجِب ؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله ، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له ، قال قتادةُ ومُقَاتِل : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ . وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ : فتح " مَكَّةَ " ، وقال الضَّحَّاك : فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك . { أوْ أمْر مِنْ عِنْدِه } . قال السُّدِّي : هي الجِزْيَة ، وقال الحَسَن : إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم ، وقيل : الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين ، وقيل : إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقيل : { هذا عذابٌ أليم } . وقيل : إجْلاء بَنِي النَّضِير ، " فَيُصْبِحُوا " أي : هؤلاء المُنَافِقِين { عَلى مَا أَسَرُّوا في أنْفُسِهِم } مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم " نَادِمِين " وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ويقولون : الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر ، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه . قوله تعالى : " فَيُصْبِحُوا " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّه منصوب عَطْفاً على " يأتي " المَنْصُوب بـ " أنْ " ، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود " الفَاء " السَّبَبِيَّة ، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك ؛ لأن المعطُوف على الخبر خبر ، و " أنْ يَأتِي " خبر " عَسَى " ، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا . وقوله : " فَيُصْبِحُوا " ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا ، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع ، لكن " الفَاء " للسببِيَّة ، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة ، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو : " الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ " . والصِّفة نحو : " مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو " ، والخبر نحو : " زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد " ، ولو كان العَاطِفُ غير " الفَاء " لم يجُزْ ذلك . والثاني : أنه منْصُوب بإضْمَار " أنْ " بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا : " لأن " عَسَى " تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر " . { على ما أسَرُّوا } متعلِّق بـ " نَادِمِين " ، و " نَادِمِين " خَبر " أصْبَح " . قوله تعالى : " ويَقُولُ " : قرأ أبُو عمرو ، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ " يَقُول " والباقُون بإسْقَاطِها ، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد " الوَاوِ " ، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر : الرَّفع كالكُوفِيِّين ، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات : " يَقُولُ " من غير واو [ " ويقول " بالواوِ والنَّصْب ، ] " ويقول " بالواو والرَّفع ، فأمَّا قِرَاءة من قرأ " يَقُول " من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر ، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى : { فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ } إلى قوله " نَادِمِين " ، سأل سَائِلٌ فقال : ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذٍ ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخره ، وهو واضح ، و " الواو " سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ " مَكَّةَ " و " المدينَةِ " و " الشَّام " ، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف ، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي ، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ ، ونافع المدنِي ، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [ وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط ، بل وافقت روايتهم مصاحفهم ] على ما تَبيَّن غير مَرَّة ، وأما قِرَاءة " الواو " والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً ؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ بالإخْبَارِ بِهَا ، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة ، و " الواو " ثابِتَةٌ في مصاحِفَ " الكُوفَة " و " المشرق " ، والقارىءُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف ، والكلام كما تقدَّم أيضاً . قال الواحدي - رحمه الله - : وحَذْف " الواو " هاهنا كإثباتها ، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا ، فإن الموصُوفين بِقَوْله تعالى " يُسَارِعُونَ فِيهِمْ " ، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون : { أهولاءِ الَّذِين أقْسَمُوا باللَّه } ، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم ، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ . وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر . واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه : أحدُهَا : أنه منصُوب عَطْفاً على " فَيُصْبِحُوا " على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب " فَيُصْبِحُوا " ، وهو الوجهُ الثَّاني ، أعْني : كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد " الفَاء " ، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي ، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين ، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة نَافِع { لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [ عبس : 3 ، 4 ] بِنَصبِ " تَنْفَعَهُ " وبقراءة عَاصِم في رواية حَفْصٍ : { لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ أَسْبَابَ ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 36 ، 37 ] بنصب " فأطَّلِع " ، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه . وهذا الوجه - أعني : عَطْفَ " ويقُول " على " فَيُصْبِحوا " - قاله الفَارِسيُّ وجماعة ، ونقله ابن عطيَّة ، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب . قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم : " وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب ، ولم أره لِغَيْره ، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة " انتهى . قال شهاب الدِّين : وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين ، وهو مرْجوحٌ كا تقرَّر في علم النَّحْو . الثاني : أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله ، وهو الفَتْح كأنَّه قيل : { فَعَسَى اللَّهُ أنْ يَأتي بِالفَتْح } ، وبأن يقول ، أي : { ويقول الَّذِين آمَنُوا } ، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس ، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر : [ الوافر ] @ 1982 - للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 1983 - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ @@ وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه : أحدها : أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل بـ " أن " والفعل تقديره : أن يَأتِي بأن يفتح ، وبأنْ يقول ، فيقعُ الفصلُ بقوله " فَيُصبِحُوا " وهو أجنبي ؛ لأنَّه مَعْطُوف على " يأتي " . الثاني : أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل ، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك ، نحو : يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك . الثالث : أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل ، فلا يكون المعنى على : " فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا " ، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً . الثالث - من أوجُه نَصْب " ويقول " - : أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله : " يَأتي " أي : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي ويقول ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي ، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء . وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر ، وذلك أن قوله : " أن يأتي " خبر " عَسَى " وهو صحيحٌ ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم " عَسَى " [ وهو ضمير الباري تعالى ، وقوله : " ويقول " ليس فيه ضمير يعود على اسم " عسى " ] فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً ؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه : أحدها : أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى ، والمعنى : فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح ، وبقولِ الذين آمَنُوا ، فتكون " عَسَى " تامَّة ؛ لإسنادها إلى " أنْ " وما في حَيِّزهَا ، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ ، وهذا قرِيبٌ من قولهم : " العطْفُ على التَّوهُّم " نحو : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] . الثاني : أنَّ " أنْ يَأتِيَ " بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر ، وتكون " عَسَى " حينئذٍ تامَّة ، وكأنه قِيل : فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا ، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ ؛ لأنهم نَصُّوا على أن " عَسَى " و " اخْلَوْلَق " و " أوْشَكَ " من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً ، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها : " أنْ يَفعل " ، قالوا : ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه ، كما قالوا ذَلِكَ في " ظَنّ " وأخواتها : إنَّ " أنْ " و " أنَّ " تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها . والثالث : أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع " وَيَقُول " خبراً عن " عَسَى " ، والتقدير : ويقول الذين آمَنُوا به ، أي : بِاللَّه ، ثم حذف للعلْم به ، ذكر ذلك أبو البقاء . وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ " ويقُولَ " عَطْفاً على " يَأتيَ " : " وعندي في مَنْع " عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون " نظرٌ ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه " . قال شهاب الدِّين : قول ابن عطيَّة في ذلك ، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم " عَسَى " يَصِحُّ به الرَّبط ، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه ، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر ، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت ، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة ، وهو النَّصْب : إما عطفاً على " أنْ يَأتِي " ، وإما على " فَيُصْبِحُوا " ، وإمَّا على " بالفَتْح " وقد تقدم تَحقِيقُهَا . قوله - تعالى - : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في انتصَابِه وجهان : أظهرهما : أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ " أقْسَمُوا " فهو مِنْ مَعْناه ، والمعنى : أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين . والثاني : - أجازه أبو البقاء وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم : " افعل ذلك جَهْدَك " أي : مُجْتَهِداً ، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً ، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره ، والمعنى هُنَا : " وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم " . قوله تعالى : " إنَّهُم لمَعَكُمْ " هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب ، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم ؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ : إنَّا مَعَكُم ، وفيه نَظَرٌ ؛ إذ يجُوز لك أن تقول : " حَلَفَ زيد لأفْعَلَن " أو " ليفْعَلَنَّ " ، فكما جَازَ أنْ تقول : ليفعلن جاز أن يقال : " إنَّهُمْ لَمَعكُم " على الحِكَاية . فإن قيل : الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول : هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين ، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى ، وقالوا : إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا ، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم ؟ قوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فيها أوجه : أحدها : أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة ، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك . الثاني : أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك ، وهو قولُ الله - تعالى - نحو : { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] . الثالث : أنها في محلِّ نَصْبٍ ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين ، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف ، أعني : كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً . الرابع : أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ ، وهو " هؤلاء " ، وعلى هذا فيحتمل قوله " الَّذين أقْسَمُوا " وَجْهَيْن : أحدهما : أنَّه صفة لاسْم الإشارة ، والخبر : " حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ " . والثاني : أن " الَّذِين " خَبَر أوَّل ، و " حَبِطَتْ " خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك ، وجعل الزمخْشَرِيّ " حَبِطَت أعمَالهم " مفهمة للتَّعجُّب . قال : وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل : " ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ " ، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين ، فيكون في محلِّ نَصْب ، وأن يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ ، قال : " أوْ مِنْ قول الله - عز وجلَّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال ، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ " والمعنى : ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان ، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه ؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة ، [ أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ ، وأمَّا في الآخرة ] فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم ، وقرأ أبُو واقد والجرَّاح " حَبَطت " بفتح " الباء " ، وهما لُغَتَان ، وقد تقدَّم ذلك . وقوله تعالى : " فأصْبَحُوا " وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر .