Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 54-54)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : " مَنْ يَرْتَدَّ " " مَنْ " شرطيَّة فقط لِظُهُور أثَرِها . وقوله تعالى : " فَسَوْفَ " جوابها وهي مُبْتَدأة ، وفي خَبَرِها الخِلافُ المَشْهُور وبظاهره يتمسَّكُ مَنْ لا يَشْتَرِطُ عَوْدَ الضَّمِير على اسْمِ الشَّرْط من جُمْلَة الجواب ، ومن الْتَزَم ذلك قدَّر ضَمِيراً مَحْذُوفاً تقديره : " فسوْفَ يأتي الله بِقَوْم غَيْرهم " ، فـ " هُمْ " في " غَيْرهم " يعُود على " مَنْ " على مَعْناها . وقرأ ابنُ عامرٍ ، ونافع : " يَرْتَدِد " بداليْن . قال الزَّمَخْشَري : " وهي في الإمَام - يعني رسم المُصْحَفِ - كذلك " ، ولم يتبين ذلك ، ونَقَل غَيْرُهُ أنَّ كل قَارِىء وافَق مُصْحَفَه ، فإنَّها في مَصَاحِف " الشَّام " و " المدينة " : " يَرْتَدِدْ " بدالين ، وفي البَاقِية : " يَرْتَدَّ " ، وقد تقدَّم أنَّ الإدغام لغة " تمِيم " ، والإظهَار لغة " الحِجاز " ، وأن وجه الإظْهَار سكون الثَّانِي جَزْماً أو وَقْفاً ، ولا يُدْغَمُ إلا في مُتَحَرِّك ، وأنَّ وجه الإدْغَام تحْرِيك هذا السَّاكن في بَعْضِ الأحْوَال نحو : رُدَّا ، ورُدُّوا ، ورُدِّي ، ولم يَرُدَّا ، ولم يَرُدُّوا ، واردُدِ القوم ، ثم حُمِل " لم يَرُدَّ " ، و " رُدَّ " على ذلك ، فَكَأنَّ التَميميّين اعتبروا هذه الحركة العارضة ، والحِجازيِّين لم يَعْتَبِرُوها . و " مِنْكُم " في محلِّ نصب على الحال من فاعل " يَرْتَدّ " ، و " عَنْ دينهِ " متعلِّق بـ " يَرْتدَّ " . قوله : " يحبُّهم " في محلِّ جر ؛ لأنها صفةٌ لـ " قَوْم " ، و " يُحِبُّونه " فيه وجهان : أظهرهما : أنه معطوف على ما قَبْلَهُ ، فيكُون في محلِّ جرِّ أيضاً ، فوصفهم بِصفتين : وصفهم بكونه تعالى يُحِبُّهم ، وبكوْنِهِم يُحِبُّونَه . والثاني : أجازه أبُو البقاءِ أن يكُون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المنصُوب في " يُحِبُّهم " ، قال : تقديره : " وهُمْ يُحِبُّونَهُ " . قال شهاب الدِّين : وإنما قدَّر أبُو البقاءِ لفظة " هُمْ " ليخرج بذلك من إشْكال ، وهو أنَّ المُضارع المُثْبَت متى وَقَعَ حالاً ، وجبَ تجرُّدُه من " الواو " نحو : " قُمْتُ أضْحَكُ " ولا يجوز : " وأضْحَكُ " وإن وَرَدَ شيءٌ أوِّلَ بما ذَكَرَهُ أبُو البقاء ، كقولهم : " قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَه " . وقوله : [ المتقارب ] @ 1984 - … نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا @@ أي : وأنَا أصُكُّ ، وأنا أرهَنُهم ، فتؤوَّل الجملة إلى جُمْلة اسميَّة ، فيصحُّ اقترانها بالواو ، ولكن لا ضَرُورةَ في الآيَة الكريمَة تدعو إلى ذلك حتَّى يُرْتَكَب ، فهو قولٌ مَرْجُوحٌ . وقدمت محبَّة الله - تعالى - على مَحبتهم لشرفِها وسَبْقِهَا ؛ إذ مَحَبَّتُهُ - تعالى - لهم عِبَارة عن إلْهامهم فِعْلَ الطَّاعةِ ، وإثابته إيَّاهُم عليها . فصل روى الزَّمخشري : أنَّه كان أهْلُ الرِّدَّة إحدى عشرة فرقة في عهد رَسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم - بنو مدُلج [ ورئِيسُهم ] وهو " عَيْهَلة بن كعب " لقبه " ذُو الخِمَار " وهو الأسْوَد العَنْسي وكان كاهِناً - ادّعى النُّبُوّة باليمن ، واستولى [ على بلادِها ] وأخرج عُمَّال رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مثل مُعَاذِ بن جَبَل وساداتِ اليمن ، فأهلكه الله على يد " فَيْرُوز الدَّيْلَمِي " ، فقتله وأخبر رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - [ بقتله ليلة قُتل فَسُرَّ المُسْلمون ، وقُبض رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ] من الغد ، وأتَى خَبَرُه في آخِر رَبِيع الأوَّل ، وبنو حنيفَة : قوم " مُسَيْلِمَة الكَذَّاب " ادَّعى النُّبُوَّة ، وكتب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : " من مسيلمة رسُول الله إلى محمَّد رسول الله ، أما بعد : فإن الأرْض نصفُهَا لك ونِصْفُها لِي " ، فأجاب - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من محمَّد رسُول الله إلى مُسَيْلمة الكذَّاب أما بعد : { إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] فحارَبَهُ أبو بكر - رضي الله عنه - بجُنُود المُسْلِمين رضي الله عنهم - وقُتل على يَدِ وَحْشِيٍّ قاتل حَمْزة وقال : قَتَلْتُ خير النَّاسِ في الجاهليَّة ، وشرَّ النَّاسِ في الإسلام أراد في جاهليَّته وفي إسلامه . وبنو أسَد : قوم طُلَيْحة بن خُوَيْلِد ادّعى النُّبوة ، فبعَثَ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خالداً فانْهَزَم بعد القِتَال إلى الشَّام ، ثمَّ أسْلَم ، وحَسُن إسلامه في عَهْد أبِي بكر - رضي الله عنه - ، وفِزَارة : قوم عُيَيْنَة بن حِصْن ، وغَطَفَان : قوم قُرَّة بن سلمة القُشَيْري ، وبنو سَلِيم : قوم فُجاءَة بن عبد يَالِيل ، وبنو يَرْبُوع : قوم مَالِك بن نُوَيْرة ، وبعض بني تَمِيم : قوم سجاح بِنْت المُنْذِر التي ادَّعت النُّبُوَّة ، وزوجت نفسها من مُسَيْلمة الكَذَّاب ، وكِنْدة : قوم الأشعَث بن قَيْس ، وبنو بكر بن وَائِل بـ " البحرين " ، وقوم الحَطْم ابن زَيْد ، وكُفِيَ أمْرُهم على يد أبِي بكر - رضي الله عنه - وفرقةَ واحدةُ على عهد عُمَر - رضي الله عنه - غسان قوم جبلة بن الأيْهَمِ ، وذلِك أنَّ جبلة أسلم على يد عُمَر رضي الله عنه كان يَطُوفُ ذاتَ يومٍ جارًّا رداءَهُ ، فوطئ رَجُلٌ طرَفَ رِدائِه فغَضِبَ فَلَطَمُه ، فتظلَّم إلى عمر - رضي الله عنه - ، فقضى بالقِصَاص عليه ، فقال : أنّا أشْتَرِيها بألْفٍ ، فأبي الرَّجُل ، فلم يَزَل يزيد في الفِدَاءِ حتى بلغ عَشْرَة آلاَف فأبى الرجل إلا القِصَاص ، فاسْتَنْظَره [ عُمر ] فأنْظَرَهُ فَهَرَب إلى الرُّوم وارتد . ومعنى الآية : يا أيُّها الذين آمنُوا من يتول منكم الكُفَّار ، فَيَرْتَدَّ عن دينه ، فليعلم : أنَّ الله تعالى يأتي بِقَوْم آخَرِين يتدينوا بهذا الدِّين على أبْلَغ الوُجُوه . وقال الحسن : عَلِمَ اللَّهُ أنَّ قوماً يَرْجِعُون عن الإسْلام بعدَ مَوْت نَبِيِّهِم ، فأخْبَرَهُم بأنه سَيَأتِي الله بِقَوْم يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ . وعلى هذا التقدير : تكون هذه الآيَةُ إخْباراً عن الغَيْبِ ، وقد وقع المخبر على وِفْقِه ، فيكون مُعْجِزاً . واخْتَلَفُوا في القَوْم مَنْ هُم ؟ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضَّحَّاك وابن جُرَيْج : أبو بكر وأصحابه - رضي الله عنهم - الَّذين قاتلوا أهْلَ الرِّدَّة ، قالت عائشة - رضي الله عنها - مات رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وارتدَّ من العرب قوم [ واشْتَهَر ] النِّفَاق ، ونزل بِأبي ما لوْ نزل بالجبال الرَّاسِيَات لهاضها ، وذلك بأن النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لما قبض ارتدَّ عامَّة العرب إلا أهْل مَكَّة والمدِينَة . والبَحْرين من عَبْد القَيْس ، ومنع بعضهم الزَّكاة ، وهمَّ أبُو بَكْر بقتالهم ، فكره ذلك أصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - . وقال عمر - رضي الله عنه - : كيف نُقَاتِلُ النَّاس ، وقد قال رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : " أمرت أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوا : لا إله إلا الله محمُّد رسولُ الله ، فمن قَالَهَا فقدْ عَصَم مِنَّي ماله ونَفْسَهُ ، إلا بحقِّه ، وحِسَابُهُ على اللَّه " فقال أبُو بكر - رضي الله تعالى عنه - : " واللَّهِ لأقَاتِلنَّ من فرق بين الصَّلاة والزَّكاة ، فإن الزَّكاة حقُّ المَال ، واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عنَاقاً كانُوا يُؤدُّونَها إلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لقاتَلْتُهُم على مَنْعِها " . قال أنس - رضي الله عنه - : كَرِهَت الصَّحابة - رضي الله عنهم - قتال مانِعِي الزَّكاة ، وقالوا أهْل القِبْلة ، فتقلَّد أبُو بكر سَيْفَهُ ، وخرج وحده ، فلم يَجِدُوا بُدًّا من الخروج على أثره . قال ابن مسعود : كَرِهْنَا ذلك في الابتدَاء ، ثم حَمِدْناهُ عليه في الانتهاء ، قال أبو بكر ابن عيَّاش : سمعت أبا حُصَيْن يقول : ما وُلِد بَعْد النَّبِيِّين مَوْلُود أفْضَل من أبِي بَكْر - رضي الله عنه - ، لقد قام مَقَامَ نَبَيٍّ من الأنْبِيَاء في قتال أهْلِ الرِّدَّة . وقال السُّديُّ : نزلت الآية في الأنْصَار ؛ لأنَّهُم الذين نَصَرُوا الرَّسُول وأعانُوه على إظْهَار الدِّين . وقال مُجَاهِد : نزلتْ في أهل " اليَمَن " . وقال الكلبي : هُمْ أحْيَاء من اليمن ، ألْفان من النَّخْع ، وخمسة آلافٍ من كِنْدة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء النَّاس ، فجَاهَدُوا في سَبِيل الله يوم القَادِسيَّة في أيَّام عُمر - رضي الله عنه - ، وروي مَرْفوعاً أن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - " لما نزلَتْ هذه الآية ، أشار إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرِيّ وقال : " هُمْ قَوْمُ هَذَا " ، وقال آخَرُون : هم الفُرْسُ ؛ لأنه رُوِي أنَّ النَّبِيَّ - صلًّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لمّا سُئِلَ عن هذه الآية ضَرَبَ يَدَهُ على عَاتِق سَلْمَان الفارسيِّ وقال : هذا وَذَوُوُه ، ثمَّ قال : لو كان الدِّين معلَّقاً بالثُّرَيَّا لنالَهُ رِجَالٌ من أبْنَاء فَارِس " . وقال قوم : إنَّهَا نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله عنه - ؛ لأنَّه - عليه الصلاة والسلام - " لما دفع الراية إلى عَلِيّ قال : لأدْفَعَنَّ الرَّاية إلى رَجُلٍ يحبُّ الله ورسُوله " . قوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } . هاتان أيضاً صِفَتَان لـ " قَوْم " ، واستدلَّ بعضُهم على جواز تَقْدِيم الصِّفَة غير الصَّريحة على الصِّفَة الصَّريحة بهذه الآية ، فإن قوله تعالى : " يُحِبُّهم " صِفةٌ وهي غير صَرِيحةٌ ؛ لأنَّها جملة مؤوَّلة بمفْرَد ، وقوله : " أذلّة - أعزّة " صِفتَان صريحَتَان ؛ لأنَّهُمَا مفردتان ، وأما غيره من النَّحْوِيِّين فيقول : متى اجْتَمَعَت صِفَةٌ صَرِيحة ، وأخرى مؤوَّلة وَجَبَ تقدِيم الصَّريحة ، إلاَّ في ضرورة شِعْرٍ ، كقول امْرِىء القيس : [ الطويل ] @ 1985 - وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أسْوَدَ فَاحِم أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ @@ فقدَّم قوله : " يُغَشِّي " - وهو جملة - على " أسْوَد " وما بعده ، وهُنَّ مفردات ، وعِند هذا القَائِل أنه يُبْدَأ بالمُفْرَد ، ثم بالظَّرْف أو عديله ، ثم بالجُمْلة ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] . قال أبو حيَّان : وفيها دليل على بطلان من يَعْتَقِد وجوب تَقْديم الوصْفِ بالاسْمِ على الوَصْف بالفِعْل إلا في ضَرُورَة ، ثُمَّ ذكر الآية الآخرى . قال شهاب الدين : وليْسَ في هاتين الآيتين الكَرِيمتين ما يَرُدُّ قول هذا القَائِل ، أمَّا هذه الآية فيحتمل أن يكون قوله تعالى : " يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه " جملة اعتراض ، لأنَّ فيها تأكيداً وتَشدِيداً للكلام . وجملة الاعْتِرَاض تقع بين الصِّفة ومَوْصُوفها ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] فـ " عَظِيم " صفة لـ " قَسَم " ، وقد فصل بينهما بقوله : " لَوْ تَعْلَمُون " ، فكذلك فصل هنا بين " بِقَوْم " ، وبين صفتهم وهي " أذِلَّة - أعِزَّة " بقوله : " يُحِبُّهم ويُحِبُّونه " ، فعلى هذا لا يكون لها مَحَلٌّ من الإعراب . وأمَّا { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] فلا نسلّم أن " مباركٌ " صفة ، ويجوز أن يكون [ خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو مُبارك ] ولو استدلَّ على ذلك بآيتين غير هاتَيْن لكان أقْوى ، وهما قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } [ الأنبياء : 2 ] ، { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] فقدَّم الوصف بالجار على الوَصْفِ بالصَّرِيح ، وكذا يحتمل أن يُقَال : لا نسلِّم أن " مِنْ رَبِّهم " و " مِنَ الرَّحْمن " صفتان لجواز أن يكونا حاليْنِ مُقدَّمين من الضَّمِير المسْتَتِر في " مُحْدَث " أي : مُحَدث إنزالهُ حال كَوْنه من رَبِّهِم . و " أذلَّة " جمع ذَلِيل بمعنى متعطّف ؛ ولا يُرَادُ به الذليل الذي هو ضعيف خَاضِعٌ مُهَان : ولا يجوز أن يكُون جمع " ذَلُول " ؛ لأن ذَلُولاً يجمع على " ذُلُل " لا على أذِلَّة ، وإن كان كلام بَعْضِهِم يوهِمُ ذلك . قال الزَّمَخْشَرِي : ومن زَعَم أنَّه من " الذُّل " الذي هو نَقِيضُ الصُّعُوبة ، فقد غَبِيَ عن أن " ذَلُولاً " لا يُجْمَع على " أذِلَّة " . و " أذلَّة " و " أعِزّة " جمعان لـ " ذليل " و " عَزِيز " وهما مِثَالا مُبَالَغَة ، وعدَّى " أذلّة " بـ " على " وإن كان أصْلُه أن يتعدّى باللاَّم لما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف ، والمعنى : عَاطِفين [ على المؤمنين ] على وجه التَّذَلُّل والتَّواضُع ، ويجُوزُ أن يكون المعنى أنَّهُم مع شَرَفِهم وعلو طَبَقَتِهِم وفَضْلِهِم على المُؤمنين خافِضُون لهم أجنحتهم ؛ كقوله تعالى : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْن الزَّمخْشَري . قال أبو حيَّان : قيل : " أو لأنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، التَّقدير : على فَضْلِهِم على المُؤمِنِين ، والمعنى : أنَّهُمْ يَذِلُّون ، ويَخْضَعُون لمن فُضِّل عَلَيْه مع شَرَفِهِم وعلو مَكَانتهم " . وذكر آيَة الفَتْح ، وهذا هو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِي بعينه ، إلا أن قوله : " عَلى حَذْفِ مُضَافٍ " يوهم حَذْفه ، وإقامَةِ المُضَاف إليه مَقَامَه ، وهنا حَذفَ " عَلَى " الأولى ، وحذف المُضَاف إليه ، والمُضَاف معاً . قال شهابُ الدِّين : ولا أدْرِي ما حَمَلَهُ على ذلك ؟ ووقع الوصف في جانب المَحبَّة بالجُمْلَة الفِعْلِيَّة ، لأنَّ الفِعْل يَدُلُّ على التَّجَدد والحُدُوثِ وهو مُنَاسِب ، فإن مَحَبَّتَهُمْ لله - تعالى - تَجَدُّدُ طاعَاتِه وعبادَتِه كُلَّ وقت ، ومحبَّةُ اللَّه إياهم تجدد ثوابه وإنْعامه عليهم كُلَّ وَقْت ، ووقع الوَصْفُ في جَانِبِ التَّواضُع للمُؤمنين والغِلْظَةِ على الكَافِرين بالاسْمِ الدَّال على المُبَالَغة ، دلالة على ثُبُوتِ ذَلِك واسْتِقْرَاره ، وأنه عَزِيزٌ فِيهِم ، والاسْم يدلُّ على الثُّبُوت والاسْتِقْرار ، وقدم الوصْفَ بالمحبَّة مِنْهم ولهم على وَصْفِهم بـ " أذلَّة - وأعِزَّة " ، لأنَّهما ناشئتان عن المحبتين ، وقدّم وصْفَهم المتعلّق بالمؤمنين على وَصْفِهم المتعلِّق بالكَافرين ؛ لأنه آكَدُ وألْزَمُ منه ، ولِشَرفِ المُؤمِن أيْضاً ، والجُمْهُور على جَرِّ " أذلَّةٍ " - " أعِزَّةٍ " على الوصف كما تقدَّم . قال الزَّمَخْشري : " وقُرِىء " أذِلَّةً وأعِزَّةً " بالنَّصْب على الحَالِ " . قلت : الذي قرأ " أذلَّةً " ، هو عبد الله بن مَسْعُود - رضي الله عنه - ، إلا أنَّه قرأ بَدَل " أعِزَّة " : " غُلظَاءَ على الكَافِرِين " وهو تفسيرٌ ، وهي حال من " قَوْم " ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان " قَوْم " نَكِرة لقُرْبِهِ من المَعْرِفة ؛ إذ قد تُخَصَّصُ بالوَصْف . فصل معنى " أذِلَّة " أي : أرقَّاء رحماء ، كقوله تعالى : { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } [ الإسراء : 24 ] من قولهم دابَّه ذَلُولٌ ، أي : تَنْقَادُ سَهْلةً ، وليْسَ من الذُّل في شَيْءٍ { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } يُعَادُونهم ويُغَالِبُونهم ، من قولهم : عَزَّه إذا غَلَبَه . قال عطاء : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } كالولد لِوَالده والعَبْد لسَيِّدِه : أعزَّة على الكَافِرِين كالسَّبُع على فَرِيسَتِه . قوله تعالى : " يُجَاهِدُون " يحتمل ثلاثة أوْجُه : أحدها : أن يكُون صِفَةً أخرى لـ " قوم " ، ولذلك جاء بِغَيْر واو ، كما جاءت الصِّفَتان قَبْلَهُ بِغَيْرها . الثاني : أنه في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في " أعِزَّة " ، أي : يَعُزُّون مُجَاهِدِين . قال أبُو البقاء : وعلى هذا فيجُوز أن تكون مِنَ الضَّمير في " أذلَّة " ، أي : يَتَواضَعُون للمُؤمنين حال كَوْنِهِم مُجاهدين ، أي : لا يَمْنَعُهم الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه من التَّواضُع للمُؤمِنِين ، وحاليَّتُهَا من ضمير " أعِزَّة " أظْهَرُ من حاليَّتها ممَّا ذكرت ، وذلك لَمْ يَسُغْ أن يَجْعَل المسْألة من التَّنازُع . الثالث : أن يكون مُسْتَأنفاً ، سِيقَ للإخْبار بأنّهم يُجَاهِدُون في نُصْرَةِ دينِ اللَّه تعالى . قوله تعالى : " ولا يَخَافُون " فيه أوجه : أحدها : أن يكُون مَعْطُوفاً على " يُجَاهِدُون " فتجري فيه الأوْجُه السَّابقة فيما قَبْله . الثاني : أن تكُون " الواوُ " للحَالِ ، وصاحب الحال فاعل " يُجَاهِدُون " ، قال الزَّمَخْشَرِي : " أي : يُجَاهِدُون " وحالهم في المُجَاهَدَةِ غَيْرُ حَالِ المُنافِقِين . وتَبِعَهُ أبو حيَّان ولم يُنْكِر عليه ، وفيه نَظَر ؛ لأنهم نَصُّوا عَلَى أن المُضَارع المَنْفِي بـ " لاَ " أو " مَا " كالمُثْبَتِ في أنَّه [ لا يجوزُ أن ] تباشِرَه واو الحَال ، وهذا كما تَرَى مضارع مَنْفِيٌّ بـ " لاَ " ، إلاَّ أن يُقَال : إن ذلك الشَّرْط غير مُجْمَعٍ عليه ، ولكن العِلَّةَ التي مَنَعُوا لها مُبَاشَرة " الواو " للمُضَارع المُثْبت موجودة في المُضَارع المَنْفِي بـ " لاَ " و " مَا " ، وهي أنَّ المُضَارع المُثْبَتَ بِمَنْزِلة الاسْمِ الصَّرِيح ، فإنَّك إذا قُلْتَ : " جاء زَيْد يَضْحَكُ " كان في قُوة " ضَاحِكاً " و " ضَاحِكاً " لا يجوز دخول " الوَاو " عليه ، فكذلكَ ما أشْبَهَه وهُوَ في قُوَّتِهِ ، وهذه مَوْجُودة في المَنْفِي ، فإن قولك : " جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ " في قوَّة " غَيْر ضَاحِكٍ " و " غيْر ضاحك " لا تَدْخل عليه الواو [ إلاَّ أنَّ هذا يُشْكِلُ بأنَّهم نَصُّوا على أنَّ المنفي بـ " لَمْ " و " لَمَّا " يجُوز فيه دخول الواو ، مع أنَّه في قولك : " قَامَ زيدٌ لَمْ يَضْحَكْ " بمنزلة " غَيْرِ ضَاحِك " ] ومن دخول الواو ، وقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] ونحوه . الثالث : أن تكون " الواوُ " للاستِئْنَاف ، فيكون ما بَعْدَها جُمْلةً مُسْتَأنَفَةً مُسْتَقِلَّة بالإخْبار ، وبهذا يَحْصُلُ الفَرْق بين هَذَا الوَجْهِ ، وبين الوَجْهِ الذي جُوِّزَت فيه أن تكون " الوَاو " عَاطِفَةً ، مع اعْتِقَادِنا أن " يُجَاهِدُون " مستَأنفٌ ، وهو وَاضِح . و " اللَّوْمَةُ " : المرَّة من اللَّوْمِ . قال الزمخشري : وفيها وفي التَّنْكِير مبالغتان ، كأنَّه قيل : " لا يخافُون شيئاً قط من لَوْم أحَد من اللُّوَّام " ، و " لومة " مصدر مُضاف لِفاعِلِه في المعنى . فإن قِيلَ : هل يجُوزُ أن يكُونَ فاعِلُهُ مَحْذُوفاً ، أي : لا يَخَافُون لَوْمَة لائِمٍ إيَّاهم ؟ فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجُوز عند الجُمْهُور ؛ لأنَّ المصدر المحدُودَ بتاء التَّأنيثِ لا يَعْمَل ، فلو كان مَبْنيّاً على التَّاء عمل ، كقوله : [ الطويل ] @ 1986 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا بِالْموَارِدِ @@ فأعمل " رَهْبَة " ؛ لأنه مَبْنِيٌّ على " التَّاء " ، ولا يجُوز أن يعمل المَحْدُود بالتَّاءِ إلا في قَليلٍ في كلامهم ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 1987 - يُحَايِي بِه الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ بِضَرْبَةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ @@ يصف رَجُلاً سقى رجُلاً مَاءً فأحْيَاهُ به ، وتيمّم بالتُّراب . والمَلاَ : التُّراب ، فنصب " المَلاَ " بـ " ضَرْبة " ، وهو مصدر محدُود بالتَّاء وأصل " لاَئِم " : لاَوِم ؛ لأنه من اللَّوْم ، فَأعِلَّ كـ " قَائِم " . فصل في معنى الآية المعنى لا يخافُون في نُصْرة دِين اللَّه لَوْمة النَّاس ، وذلك [ أنَّ ] المُنافِقِين يُرَاقِبُون الكفَّار ويَخَافُون لَوْمَهُم . وروى عُبَادة بن الصَّامِت ، قال : بايَعنا رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على السَّمْع والطَّاعة ، وأن نَقُوم للَّه وأن نقُول الحَقَّ حيث ما كُنَّا لا نخاف في اللَّهِ لَوْمَة لائِم . قوله تعالى : " وذلك " في المُشَار إليه ثلاثةُ أوجه : أظهرُها : أنه جَمِيع ما تقدَّم من الأوْصَاف التي وُصِفَ بها القَوْم ، من المحبّةِ ، والذِّلَّة ، والعِزَّة ، والمُجَاهدة في سبيل الله ، وانتِفَاء خوف اللاَّئِمَة من كل أحَدٍ ، واسْمُ الإشارَة يَسُوغُ فيه ذلك ، أعْنِي : أنه يقع بِلَفْظِ الإفْرَاد مُشَاراً به لأكثر مِنْ وَاحدٍ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُهُ في قوله تعالى : { عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ } [ البقرة : 68 ] . والثاني : أنَّه مشار به إلى حُبِّ اللَّه لهم ، وحُبِّهم لَهُ . والثالث : أنَّه مشارٌ به إلى قوله : " أذِلَّةٍ " ، أي : لِينُ الجَانِب ، وترك التَّرَفُّع ، وفي هذين تَخْصِيصٌ غير وَاضِح ، وكأنَّ الحَامِل على ذلك من مَجِيء اسمِ الإشَارَةِ مُفْرَداً . و " ذَلِك " مبتدأ ، و " فَضْلُ الله " خبرُه . و " يُؤتِيهِ " يحتمل ثلاثة أوجُه : أظهرُهَا : أنه خَبَرٌ ثانٍ . والثاني : أنه مُسْتَأنف . والثالث : أنَّه في مَحَلِّ نصب على الحَالِ ، كقوله تعالى : { وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] . فصل ومعنى الكلام : أنَّ الوصف بالمحبَّة ، والذلَّة ، والعِزَّة ، والمُجاهَدَةِ ، وانتِفَاء خَوْفِ اللاَّئمة حصل بِفَضْل اللَّه - تعالى - ، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعَات العِبَاد مَخْلُوقة للَّه تعالى ، والمعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونه على فِعْل الألْطَاف وهو بعيد ؛ لأنَّ فعل الألْطَاف عامٌّ في حقِّ الكُلِّ ، فلا بدَّ في التَّخْصِيصِ من مَزِيدِ فَائِدة . ثم قال - عزَّ وجلَّ - : { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قالوا : فالوَاسِع إشَارَة إلى كمال المُقْدرة . والعَلِيم إشارةٌ إلى كمال العِلْم ، ومن هذا صِفَتُه - سُبْحَانه وتعالى - ، فلا يُعْجِزُه أنَّه سيجيء بأقْوَام هذا شأنْهُم .