Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 95-95)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في المرادِ بالصَّيْدِ قولان : الأوَّلُ : الذي توحَّشَ ، سواءً كان مَأكُولاً أو لم يَكُنْ ، فعلى هذا المُحْرِم إذا قتل سَبُعاً لا يُؤكَلُ لَحْمُهُ ضَمِن ، ولا يجاوزُ به قِيمَة شَاةٍ ، وهو قولُ أبِي حنيفةَ - رضي الله عنه - . وقال زُفَر : [ يجب ] قيمَتُهُ بَالِغاً ما بَلَغَ . الثاني : أنَّ الصَّيْدَ هو ما يُؤكَل لَحْمُهُ ، فعلى هذا لا يجبُ الضَّمانُ ألْبَتَّةُ في قَتْلِ السَّبُع ، وهو قولُ الشَّافعيِّ [ - رضي الله عنه - ] وغيره ، وحكم أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - أنَّه لا يَجِبُ الجَزَاءُ في قَتْلِ الفواسِقِ الخَمْس ، وفي قَتْلِ الذِّئْبِ ، واسْتَدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] ، فأحلَّ الصَّيْدَ خَارِجَ الإحْرَام ، فَثَبَت أنَّ الصيد هو ما أحِلَّ أكْلُهُ . وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " خَمْسٌ فواسقٌ يُقْتَلن في الحلِّ والحَرَم : الغُرَابُ ، والحدَأةُ ، والحَيَّةُ ، والعقرَبُ ، والكَلْبُ العَقُورُ " وفي روايةٍ " والسَّبُع العَادِي " ، فوصَفُوهَا بِكَوْنِهِا فواسق ، فدلّ على أنّ كونهَا فواسِق عِلَّة لِحِلِّ قَتْلِها . ومعنى كونِها فواسِق كونُها مُؤذِيَة ، والأذَى في السِّبَاع أقْوى مِنْهَا ، فوجَبَ جَوَازُ قَتْلِهَا . قوله تعالى : { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } : في محلِّ نصب على الحال من فاعل " تَقْتُلُوا " ، و " حُرُمٌ " جمع حرام ، وحرامٌ يكون للمُحْرِمِ ، وإنْ كان في الحلِّ ، ولِمَنْ في الحرمِ ، وإنْ كان حلالاً ، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد وهل يدخل فيه المحرمُ بالعُمْرة ؟ فيه خلافٌ ، وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ : أبو اليَسَرِ شدَّ على حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وهو مُحْرِمٌ فَقَتلَهُ ، وهذا يَدُلُّ على المنْعِ من القَتْلِ ابتداء ، والمَنْعُ مِنْه تَسَبُّباً ، فَلَيْسَ لهُ أنْ يتعَرَّضَ للصَّيْد ما دامَ مُحْرِماً ، لا بالسِّلاح ولا بالجَوارِحِ من الكلابِ والطَّيْرِ ، سواء كان الصَّيْدُ صَيْد الحِلِّ أو الحَرَمِ ، وأمَّا الحلالُ فلَهُ أنْ يَتَصيَّدَ في الحلِّ وفي الحَرَم . قوله تعالى : " مِنْكُمْ " في محل نصبٍ على الحال من فاعل " قَتَلَهُ " ، أي : كائناً منْكُمْ ، وقيل : " مِنْ " للبيان ، وليس بشيء ؛ لأنَّ كُلَّ من قتل صَيْداً حكمُه كذلك ، فإن قُلْتَ : هذا واردٌ أيضاً على جعله حالاً ، فالجواب : لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ ؛ حتَّى إنه لو قتله غيرُكُمْ ، لم يكن عليه جزاءٌ ؛ لأنَّه قصد بالخطابِ معنًى آخرَ ، وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد . قوله : " مُتَعَمِّداً " حالٌ أيضاً من فاعل " قَتَلَهُ " ، فعلى رأي مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال ، يُجيز ذلك هنا ، ومن منع يقول : إنَّ " مِنْكُمْ " للبيانِ ؛ حتَّى لا تتعدَّد الحالُ ، و " مَنْ " يُجَوِّزُ أنْ تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ ، وموصولةً ، والفاءُ لشبهها بالشرطيةِ ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع . قوله تعالى : " فَجَزَاءٌ " الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ ؛ لشبه المبتدأ بالشرط ؛ فعلى الأوَّل : الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ ؛ وعلى الثاني : في محلِّ رفعٍ ، وما بعد " مَنْ " على الأولِ في محلِّ جزمٍ ؛ لكونه شرطاً ؛ وعلى الثاني : لا محلَّ له لكونه صلةً ، وقرأ الكوفيُّون : " فَجَزاءٌ مثلُ " بتنوين " جَزَاءٌ " [ ورفعه ] ورفع " مِثْلُ " ، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى " مِثْل " ، ومحمَّد بن مُقاتِل بتنوين " جَزَاءً " ، ونصبه ، ونصب " مِثْلَ " ، والسُّلَمِي برفع " جَزَاءٌ " منوناً ، ونصب " مِثل " ، وقرأ عبد الله " فَجَزَاؤهُ " برفع " جَزَاء " مضافاً لضمير " مِثْل " رفعاً . فأمَّا قراءةُ الكوفيِّين فواضحةٌ لأنَّ " مِثْل " صفةٌ لـ " جَزَاء " ، أي : فعليْه " جَزَاءٌ " موصوفٌ بكونه " مِثْلَ ما قَتَلَهُ " أي مماثله . قالوا : ولا يَنْبَغِي إضافَةُ جزاءٍ إلى المثْلِ ، ألا ترى أنَّهُ ليْسَ عليْه جَزَاءُ مثل ما قتلَ في الحقيقَةِ ، إنَّمَا عليه جَزَاءُ المقْتُولِ لا جَزَاء مثل المقَتُول الذي لم يَقْتُلْه . وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أنْ يرتفعَ " مِثْل " على البدلِ ، وذكر الزجَّاج وجْهاً غريباً ، وهو أن يرتفع " مِثْلُ " على أنه خبرٌ لـ " جَزَاءٌ " ، ويكونُ " جزَاءٌ " مبتدأ ، قال : " والتقديرُ : فجزاءُ ذلك الفعلِ مِثْلُ ما قتل " ؛ قال شهاب الدين : ويؤيِّد هذا الوجه قراءةُ عبد الله : " فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ " ، إلاَّ أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوف ضميراً يعودُ على المقتول ، لا أنْ يُقَدِّره : " فَجَزَاءُ ذلك الفِعْلِ " و " مِثْلُ " بمعنى مماثل قال مكيٌّ : قاله الزمخشريُّ ، وهو معنى اللَّفْظِ ، فإنَّها في قُوَّةِ اسم فاعل ، إلاَّ أنَّ مَكِّيًّا تَوَهَّم أن " مِثْلاً " قد يكون بمعنى غير مماثل ؛ فإنه قال : " ومثل " في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُمَاثِل ، والتقديرُ : فَجَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لما قَتَل ، يعني في القيمةِ ، أو في الخِلْقَةِ ؛ على اختلافِ العلماء ، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه ، لصار المعنى : فَعَلْيهِ جَزَاءٌ مِثْلُ المَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ ، وإنما يلزم جزاءُ المقْتُولِ بعيْنِهِ لا جَزَاءٌ مِثْلُه ؛ لأنه إذا ودى جزاءً مثل المقْتُولِ ، صار إنما ودى جزاء ما لم يُقْتَلْ ؛ لأنَّ مثل المقتولِ لم يَقْتُلْهُ ، فصَحَّ أن المعنى : فعليه جزاءٌ مماثِلٌ للمقتولِ ، ولذلك بَعُدَتِ القراءةُ بالإضَافَةِ عند جماعة ، قال شهاب الدين : " مِثْل " بمعنى مُمَاثِل أبداً ، فكيف يقول " ولَوْ قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفْظه ؟ " وأيضاً فقوله : " لصار المعنى إلى آخره " هذا الإشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءة أصْلاً ، وإنما ذَكَرَهُ الناسُ في قراءةِ الإضَافَة ؛ كما سيأتي ، وكأنه نَقَلَ هذا الإشكالَ من قراءةِ الإضافةِ إلى قراءةِ التنوين . وأمَّا قراءة باقي السَّبْعة ، فاستبَعدَهَا جماعةٌ ، قال الواحِدِيُّ : " ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المثلِ ؛ لأنَّ عليه جزاءَ المقتولِ لا جزاءَ مثلِه ، فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه " . وقال مكيٌّ بعد ما تقدَّم عنه : " ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإضافة عند جماعةٍ ؛ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيْدِ المقْتُولِ " ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ ؛ فإنَّ أكثر القراء عليها ، وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجْوبةٍ سديدةٍ ، لمَّا خفيتْ على أولئكَ طَعنُوا في المُتَوَاتِرِ ، منْها : أنَّ " جَزَاء " مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ؛ تخفيفاً ، والأصلُ : فعليه جزاءٌ مِثْلُ ما قَتلَ ، أي : أن يَجْزِيَ مثل ما قتلَ ، ثم أُضيفَ ، كما تقول : " عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبٍ زَيْداً " ثم " مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ " ذكر ذلك الزمخشريُّ وغيره ، وبَسْطُ ذلك ؛ أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء ، والأصلُ : فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيْدِ مثله من النَّعَمِ ، ثم حُذِف المفعولُ الأوَّلُ ؛ لدلالة الكلامِ عليه ، وأُضيفَ المَصْدَرُ إلى ثانيهما ؛ كقولك : " زَيْدٌ فَقِيرٌ ويُعْجِبُنِي إعْطَاؤُكَ الدِّرْهم " ، أي : إعطاؤكَ إيَّاه ، ومنها : أنَّ " مِثْل " مُقْحَم ؛ كقولهم : " مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ " ، [ أي : أنْتَ لا تفعَلُ ذلك ] وأنَا أكْرِمُ مثلك أيْ : أنا أكْرِمُكَ ، ونحو قوله تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ } [ البقرة : 137 ] أي : بِمَا آمَنْتُمْ به ، وكقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، والتقديرُ ليس كهو شيءٌ فـ " مِثْل " زائدةٌ . وقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَاتِ } [ الأنعام : 122 ] ، ومِنْهَا أن يكونَ المعنى " فَجَزَاءٌ من مِثْلِ ما قَتَلَ من النَّعَم " كقولك : " خَاتِمُ فضَّة " أي : " خاتمٌ من فضةٍ " ، وهذا خلاف الأصْلِ فالجوابُ ما تقدَّم و " مَا " يجوزُ أن تكون موصولةً اسميَّة ، أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ محذوفٌ على كلا التقديرين ، أي : مثلُ ما قَتَلَهُ من النَّعَمِ . فَمَنْ رفع " جَزَاء " ففيه أربعة أوجه : أحدها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُه : فعليه جزاء . والثاني : أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، تقديرُه : فالواجبُ جزاء . والثالث : أنه فاعلٌ بفعل محذوف ، أي : فيلزَمُه الجزاءُ ، أو يَجِبُ عليه جزاءٌ . الرابع : أنه مبتدأ وخبره " مِثْل " ، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسْحَاق الزجَّاج ، وتقدم أيضاً رفع " مِثْل " في قراءة الكوفيين ؛ على أحدِ ثلاثةِ أوجه : النعْتِ ، والبدلِ ، والخبرِ ؛ حيث قلنا : " جَزَاء " مبتدأٌ عند الزجَّاج . وأمَّا قراءةُ " فَجَزَاؤهُ مِثْلُ " ، فظاهرةٌ أيضاً ، وأمَّا قراءة " فَجَزَاءٌ مِثْلَ " برفع " جَزَاءٌ " وتنوينه ، ونصب " مِثْل " ، فعلى إعمال المصدر المنوَّنِ في مفعوله ، وقد تقدَّم أنَّ قراءة الإضافة منه ، وهو نظيرُ قوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 - 15 ] وفاعلُه محذوف ، أي : فجزاءُ أحدِكُمْ أو القاتلِ ، أي : أنْ يُجْزَى القاتلُ للصَّيْدِ ، وأما قراءة : " فَجَزَاءً مِثْلَ " بنصبهما فـ " جَزَاءً " منصوبٌ على المصدر ، أو على المفعول به ، و " مِثْلَ " صفتُه بالاعتبارين ، والتقدير : فَلْيَجْزِ جَزَاءً مِثْلَ ، أو : فَلْيُخْرِجْ جَزاءً ، أو فليُغَرَّمْ جَزَاءً مِثْلَ . قوله : " مِنَ النَّعَمِ " فيه ثلاثةُ أوجه : أحدها : أنه صفةٌ لـ " جَزَاء " مطلقاً ، أي : سواءً رُفِعَ أم نُصِبَ ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ ، أي : إنَّ ذلك الجزاءَ يكونُ من جنسِ النَّعَمِ ، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ . الثاني : أنه متعلق بنفسِ " جَزَاء " ؛ لأنه مصدرٌ ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة من أضاف " جَزَاء " إلى " مثْل " ، فإنه لا يلزمُ منه محذورٌ ؛ بخلافِ ما إذا نَوَّنْتَهُ ، وجعلتَ " مِثْلَ " صفته ، أو بدلاً منه ، أو خبراً له ؛ فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ ، لأنَّك إنْ جَعلْتَه موصوفاً بـ " مِثْل " كان ذلك ممنوعاً من وجهين : أحدهما : أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ ، وهذا قد وُصِفَ . والثاني : أنه مصدر ، فهو بمنزلةِ الموصولِ ، والمعمولُ من تمامِ صلته ، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته ؛ لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبيٍّ ، وإنْ جعلْتَه بدلاً ، لَزِم أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته ، وإنْ جَعَلْتَه خبراً ، لزم الإخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلته ، وذلك كلُّه لا يجوزُ . الثالث : ذكره أبو البقاء وهو أنْ يكون حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ ؛ فإنَّ التقدير : فجزاءً مثل الذي قتله حالَ كونه من النَّعَم ، وهذا وَهْمٌ ؛ لأن الموصوف بكونه من النَّعم ، إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ ، وأمَّا الصيدُ نفسُه ، فلا يكونُ من النعم ، والجمهورُ على فَتْحِ عَيْن " النَّعَم " ، وقرأ الحسن بسكُونها ، فقال ابنُ عطيَّة : " هي لغةٌ " ، وقال الزمخشريُّ : استثقَلَ الحركةَ على حرفِ الحلق ، كما قالوا : " الشَّعْرُ " في " الشَّعَرِ " . فصل اخْتَلَفُوا في هذا العَمْد : فقال قَوْمٌ : هو تَعَمُّدُ قتْل الصَّيْد مع نسْيَان الإحْرَام ، أمَّا إذا قَتَلَهُ عَمْداً وهو ذَاكِرٌ لإحْرَامِهِ ، فلا حُكْمَ عليه ، وأمْرُهُ إلى اللَّهِ تعالى ؛ لأنَّه أعْظَمُ مِنْ أنْ يكون له كفَّارةٌ ، وهو قوْلُ مُجَاهِد والحَسَن . وقال آخَرُون : هُنَاكَ فَرْقٌ بين أن يَعْمَدَ المُحْرِمُ قَتْلَ الصَّيْد ذاكراً لإحْرَامِهِ ، فعليه الكَفَّارَةُ ، واخْتَلَفُوا فيمَا لو قَتَلَهُ خَطَأً ، فذهَبَ أكْثَرُ الفُقَهَاء إلى أنَّ العَمْدَ والخَطَأ وَاحِدٌ في لُزُومِ الكَفَّارَةِ . قال الزُّهرِي : على المُتَعَمِّدِ بالكِتَاب ، وعلى المُخْطِىء بالسُّنَّةِ وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر : لا تجبُ كفَّارةُ الصَّيْد بِقَتْلِ الخَطَأ ، وهُوَ قول دَاوُد . فصل المُرَادُ بالمِثْلِ ما يَقْرُبُ من الصَّيدِ المقْتُولِ شَبَهاً من حيث الخِلْقَةِ ، لا من حَيْثُ القِيمَة . وقال محمَّدٌ بنُ الحسنِ : الصَّيدُ ضرْبَانِ : مَا لَهُ مِثلٌ ، وما لا مِثْلَ له . فما له مثلٌ يُضْمَنُ بِمِثْلِه من النَّعَمِ ، وما لا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بالقِيمَة . وقال أبو حَنيفَةَ وأبو يُوسُف : المِثْلُ الواجبُ هو القِيمَةُ . فصل إذا قَتَل المُحْرِمُ الصَّيْدَ وأدَّى جَزاءَه ، ثم قتل صَيْداً آخَر لَزِمَه جَزَاء آخَر ، وقال دَاوُدُ : لا يَجِبُ ، وحجَّةُ الجُمْهُورِ هذه الآيَةُ ، فإنَّ ظَاهِرَهَا يقْتَضِي أن يكُون علَّةُ وُجُوب الجَزَاءِ هو القَتْلُ ، فوجَبَ أنْ يتكرَّر الحُكْمُ بِتكْرَارِ العِلَّةِ ، فإن قيل : إذا قَالَ الرَّجُل لِنِسَائِهِ من دَخَلَتْ مِنْكنَّ الدَّارَ فِهِي طَالِقٌ ، فدخلت واحِدَةٌ مرَّتَيْنِ ، لم يقع الطَّلاق مرَّتَيْن . فالجوابُ أنَّ القَتْلَ عِلَّة لوُجُوبِ الجَزَاء ، فيلْزَمُ تكْرَار الوُجُوبِ لِتكْرارِ العِلَّةِ ، وأمَّا دُخُولُ الدَّارِ فهو شَرْطٌ لوُقُوعِ الطَّلاق ، فلَمْ يَلْزَم تكْرَارُ الحُكْم عند تكْرارِ الشَّرْط ، واحْتَجَّ داوُدُ بقوْلِهِ تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } فجَزَاءُ العَائِدِ الانْتِقَامُ لا الكَفَّارةُ . قوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذوا عَدْلٍ } في موضع نصْبٍ على الحال منه ، أو على النَّعْتِ لـ " جَزَاء " فيمَنْ نَصَبه ، وخصَّصَ أبو البقاء كونه صفةً بقراءةِ تنوين " جَزَاء " ، والحالَ بقراءةِ إضافته ، ولا فرقَ ، بل يجوزُ أنْ تكون الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين ؛ لأنه أذا أُضيفَ إلى " مِثْل " ، فهو باقٍ على تنكيرِه ؛ لأنَّ " مِثْلاً " لا يتعرَّفُ بالإضافة ، وكذا خَصَّصَ مكي الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى " مِثْل " فإنه قال : " ومِنَ النَّعَم في قراءةِ مَنْ أضافَ الجَزَاء إلى " مِثْل " صفةً لـ " جَزَاء " ، ويَحْسُنُ أنْ تتعلَّق " مِنْ " بالمصدر ، فلا تكونُ صفةً ، وإنما المصدرُ مُعَدى إلى " مِنَ النَّعَمِ " ، وإذا جعلته صفةً ، فـ " مِنْ " متعلِّقةٌ بالخبرِ المحذوف ، وهو فَعَلَيْهِ " ، وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهَيْن : أحدهما : قد تقدَّم ، وهو التخصيصُ بقراءةِ الإضافة . والثاني : أنه حين جعل " مِنَ النَّعَم " صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِمَا تضمَّنه من الاستقرار ؛ وليس كذلك ؛ لأنَّ الجارَّ ، إذا وقعَ صفةً تعلَّقَ بمحْذوفٍ ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ ، وهذا الذي جعله متعلَّقاً لهذه الصفةِ ليس صفةً للموصوف في الحقيقةِ ، بل هو خبرٌ عنه ؛ ألا ترى أنك لو قلت : " عِنْدِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ " أنَّ " مِنْ بَنِي " متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة ، لا بقولِكَ " عِنْدِي " ، ويمكن أن يُقال - وهو بعيدٌ جِدًّا - إنه أراد التعلُّقَ المعنويَّ ؛ وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفته ، و " عَلَيْهِ " عاملٌ في " جَزَاء " ، فهو عاملٌ في صفته ، فالتعلُّقُ من هذه الحَيْثِيَّةِ ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جعلنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ ، أو قلنا : إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ ، ولو لم يعتمدْ وإنما ذكر هنا التوجيهاتِ ؛ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولهم بالكلية . والألفُ في " ذَوَا " علامةُ الرفع ؛ لأنه مثنى ، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظةِ وتصاريفها [ الآية 177 البقرة ] ، وقرأ الجمهورُ : " ذَوَا " بالألف ، وقرأ محمد بن جعفر الصادق : " ذُو " بلفظِ الإفراد ، قالوا : ولا يريدُ بذلك الوَحْدة ، بل يريدُ : يحكُمُ به مَنْ هو مِنْ أهْلِ العدل ، وقال الزمخشريُّ : " وقيل : أراد الإمام " فعلى هذا تكونُ الوحْدَةُ مقصودةً ، و " مِنْكُمْ " في محلِّ رفع صفةً لـ " ذَوَا " ، أي : إنهما يكونان من جنْسِكُمْ في الدِّين ، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً لـ " عَدْل " ؛ لأنه مصدرٌ قاله أبو البقاء ، يعني : أن المصدرَ ليس مِنْ جنْسِهِمْ ، فكيف يُوصَفُ بكونه منهم ؟ فصل المعنى يَحْكُمُ للجِزْاءِ رَجُلان عَدْلان قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد يَحُكم به في جَزَاءِ الصَّيْدِ رجُلانِ صالِحَان مِنْكُم ، مِنْ أهلِ قِبْلَتِكُم ودينِكُمْ ، فَقيهان عدْلان ، فَيَنْظُرَان إلى أشْبَه الأشْيَاءِ من النَّعَم ، فَيَحْكُمَان به ، ومِمَّن ذَهَبَ إلى إيجَابِ المِثْلِ من النَّعَمِ : عُمَرُ ، وعُثمَانُ ، وعَلِيٌّ ، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْف ، وابنُ عُمَرَ ، وابنُ عبَّاسٍ ، وغَيْرِهِمْ من الصَّحَابَة حَكَمُوا في بُلْدَان مخْتَلِفَة ، وأزْمان شَتَّى بالمِثْل من النَّعَمِ ، فحكمَ حَاكِمُهُم في النَّعَامةِ بِبدَنَة ، وهي لا تُسَاوي بَقَرَةً ، وفي الضَّبعِ كَبْشٌ وهو لا يساوي كَبْشاً ، فدلَّ على أنهم نَظَرُوا إلى ما يَقْرُب من الصَّيْد شَبَهاً من حَيْث الخِلْقَة . ورُوِي عن عُمرَ ، وعُثْمَان ، وابن عباس : أنَّهم قَضَوْا في حَمَامِ مَكَّةَ بِشَاةٍ . ورَوَى جَابِر بنُ عبد اللَّه : أنَّ عُمَرَ بن الخَطَّابِ قَضَى في الضَّبعِ بكَبْشٍ ، وفي الغَزَالِ بِعَنْزٍ ، وفي الأرْنَبِ بِعنَاقٍ ، وفي اليَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ . وقال مَيْمُونُ بن مَهْرَان : جاءَ أعْرَابيٌّ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه - فقال : إنِّي أصيْتُ من الصَّيْد كَذَا وكَذَا ، فسَألَ أبُو بكرٍ أبَيَّ بن كَعْبٍ ، فقال الأعْرَابِيُّ : أتَيْتُكَ أسْألُكَ ، وأنْتَ تَسألُ غَيْرَك ، فقال أبُو بَكْرٍ : وما أنكَرْت من ذلك ؟ قال تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } فشاوَرْتُ صَاحِبي ، فإذا اتَّفَقْنَا على شَيءٍ أمَرْناكَ بِهِ . وعن قُبَيْصَة بن جَابِرٍ ؛ أنه كان مُحْرِماً ، فضرب ظْبياً فماتَ ، فسأل عُمَرَ بن الخَطَّابِ ، وكان إلى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْف ، فقال عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَن : ما ترى ، قال : عليه شاةٌ ، قال : وأنا أرى ذَلِكَ ، قال اذْهَبْ فأهْدِ شاةً ، قال قُبَيْصَةُ : فَخَرَجْتُ إلى صَاحِبِي ، وقُلْتُ : إنَّ أمير المُؤمنين لم يَدْرِ ما يقُولُ ، حتى سألَ غَيْرَهُ . قال فَفَجَأنِي عُمَرُ ، وعلانِي بالدرَّة ، وقال : أتَقْتُلُ في الحَرَمِ وتُسَفِّهُ الحُكْمَ ؟ قال تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } فأنا عُمَرُ ، وهذا عَبْدُ الرحمن بنُ عوف . واحْتَجَّ أبُو حنيفَة في إيجَابِ القيمة بأنَّ التَّقْوِيمَ هو المُحْتَاجُ إلى النَّظَرِ والاجتِهَادِ ، وأما الخِلْقَةُ والصُّورةُ فَظَاهِرةٌ لا يُحْتَاجُ فيها إلى الاجتهاد . وأجيبُ : بأنَّ المُشَابَهَة بَيْنَ الصَّيْد وبين النَّعَمِ مخْتَلِفَةُ وكَثِيرة ، فلا بد من الاجْتِهَادِ في تَمْييزِ الأقْوَى عن الأضْعَفِ . فصل الذي له مِثْل ضربان : فما حكمت فيه الصَّحَابَةُ بِحُكْمٍ ، لا يُعْدَلُ إلى غَيْرِه ؛ لأنَّهم شَاهَدُوا التَّنْزِيل وحَضرُوا التَّأويل ، وما لَمْ يَحْكُمْ فيه الصحابة ، يُرْجَعُ إلى اجْتِهَادِ عَدْلَيْن . وقال مَالِكٌ : يجب التَّحكيمُ فيما حَكَمَتْ به الصحابة - رضي الله عنهم - ، وفيما لم تَحْكُمْ فِيهِ . فصل يجُوزُ أنَّ القَاتِلَ أحَدُ العَدْلَيْن ، إن كان أخْطَأ فيه ، فإنْ تَعمَّدَ فلا يجُوزُ ؛ لأنه يُفَسَّقُ به . وقال مالكٌ : لا يجُوزُ في تَقْويم المُتْلَفَاتِ ، وأجيب : بأن اللَّه تعالى أوْجَبَ أن يَحْكُمَ به ذَوَا عدلٍ ، وإذا صدرَ عَنْهُ القَتْلُ خَطَأ كان عدْلاً ، فإذا حكمَ هُوَ وغَيْرُهُ ، فَقَدْ حكمَ به ذوا عَدْل . وقد رُوِيَ أنَّ بعضَ الصَّحابة - رضي الله عنهم - أوْطَأ فرسهُ ظَبْياً ، فسأل عُمَرَ عَنْهُ ، فقال عُمَرُ : احْكُمْ ، فقال : أنْتَ أعْدَلُ يا أمِيرَ المُؤمنين ، فاحْكُمْ ، فقال عُمَرُ - رضي الله عنه - إنَّما أمرتُكَ أنْ تَحْكُمَ ، وما أمَرْتُكَ أن تُزَكِّيني ، فقال : أرى فيه جَدْياً جمع الماء والشَّجَر ، فقال : افْعَل ما تَرَى . فصل لو حكم عَدْلان بِمِثْلٍ ، وحكم عدلان آخران بِمِثْلٍ آخر ففيه وجهان : أحدهما : يَتَخَيَّرُ . والثاني : يأخُذُ بالأغْلَظِ . فصل استدلَّ بهذه الآيَةِ بَعْضُ مُثْبِتِي القِيَاس ، قالوا : لأنَّه تعالى فرضَ تَعْيِين المِثْل إلى اجْتِهَاد النَّاسِ وظنهم ، وهذا ضَعِيفٌ ؛ لأن الشَّارع تَعَبَّدنا بالعملِ بالظَّنِّ في صُورٍ كثيرة : منها الاجْتِهادُ في القِبْلَةِ ، والعَمَلُ بِتَقْويمِ المُقَوِّمِين في قِيم المُتْلَفَاتِ ، وأرُوشِ الجِنايَاتِ ، والعملُ بِحُكْمِ الحَاكِمِين في مِثْلِ جَزَاءِ الصَّيْد ، وعَمَلُ القَاضِي بالفَتْوى ، والعملُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ في مصالحِ الدُّنْيَا ، إلاَّ أنَّا نَقُولُ : إذا دُعِيتُم إلى تَشْبيهِ صورةٍ بصُورةٍ شرعيَّةٍ في الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، وهو عينُ هذه المسائِلِ الَّتي عدَدْنَاهَا ، فذلك باطلٌ في بَديهَةِ العَقْل ، فإذا سَلَّمْتُمُ المُغَايَرة ، ولمْ يلزم من كَوْنِ الظَّنِّ حُجَّةً في تلك الصُّوَر ؛ كونهُ حُجَّةً في مَسْألةِ القياسِ ، إلاَّ إذا قِسْنَا هذه المسألة على تِلْكَ المسائِل ، وذلك يقتضي إثْبَات القياس بالقياس ، وهو باطلٌ ، وأيضاً فالفَرْقُ ظَاهِرٌ بين البَابَيْنِ ؛ لأنَّ في جميع الصُّور المَذْكُورة الحُكْمُ إنَّما ثبت في حقِّ شَخْصٍ واحدٍ ، في زمان واحدٍ ، في واقِعَةٍ واحِدة . وأمَّا الحُكْمُ الثَّابِتُ بالقياسِ ، فإنه شَرْعٌ عامٌّ في جَمِيع المُكَلَّفين ، باقٍ على وجْهِ الدَّهْر ، والتَّنْصِيصُ على أحْكَامِ الأشخاص الجُزْئيَّةِ مُتَعذرٌ . أمَّا التَّنْصِيصُ على الأحْكام الكُلِّيَّةِ العامَّةِ ، البَاقِيَةِ إلى آخر الدَّهْر غير مُتعذّر ، فظهر الفَرْقُ . قوله : " هَدْياً " فيه ستةُ أوجهٍ : أظهرُها : أنه حالٌ من الضمير في " به " قال الزجاج : " هو منصوبٌ على الحالِ ، المعنى : يحكم به مقدَّراً أن يُهْدَى " يعني أنه حال مقدَّرةٌ ، لا مقارنةٌ ، وكذا قال الفارسيُّ كقولك : " مَعَهُ صَقْرٌ صَائِداً به غداً " ، أي مُقَدِّراً الصَّيْدَ . الثاني : أنه حالٌ من " جَزَاء " سواءٌ قُرىءَ مرفوعاً أم منصوباً ، منوناً أم مضافاً ، وقال الزمخشريُّ : " هدْياً " حالٌ من " جزَاء " فيمَنْ وصفه بـ " مِثل " ؛ لأنَّ الصفةَ خَصَّصَتْه ، فقرُبَ من المعرفة ، وكذا خصَّصه أبو حيان ، وهذا غير واضحٍ ، بل الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً ؛ كما تقدَّم . الثالث : أنه منصوبٌ على المصدْرِ ، أي : يُهْدِيهِ هَدْياً ، ذكره مكي وأبو البقاء . الرابع : أنه منصوبٌ على التَّمْييزِ ، قال أبو البقاء ومكيٌّ ، إلا أنَّ مَكِّياً ، قال : " على البيانِ " ، وهو التمييزُ في المعنى ، وكأنهما ظَنَّا أنه تمييزٌ لِما أبْهِمَ في المِثْلية ؛ إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ غيرَها ، وفيه نظرٌ ؛ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يَرْفَع الإبهامَ عن الذَّواتِ ، لا عن الصفاتِ ، وهذا كما رأيْتَ إنما رفع إبهاماً عن صفة ؛ لأنَّ الهدي صفةٌ في المعنى ؛ إذ المرادُ به مُهْدى . الخامس : أنه منصوبٌ على محلِّ " مِثْل " فيمَنْ خَفَضه ؛ لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً ؛ كما تقدَّم تحريرُه . السادس : أنه بدلٌ من " جَزَاء " فيمن نصبه . و " بَالِغَ الكَعْبَةِ " صفةٌ لـ " هَدْياً " ، ولم يتعرَّفْ بالإضافة ؛ لأنه عاملٌ في الكعبة النصبَ تقديراً ، ومثله : { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] وقولُ الآخَرِ : [ البسيط ] @ 2025 - يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كانَ يَطْلُبُكُمْ لاقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وحِرْمَانَا @@ في أنَّ الإضافة فيها غيرُ مَحْضَةٍ ، وقرأ الأعْرج : " هَدِيًّا " بكسر الدال وتشديد الياء . فصل المعنى : يَحْكُمَانِ بِهِ هَدْياً يُسَاقُ إلى الكَعْبَة ، فَيُنْحَرُ هُنَاك ، وهذا يُؤيِّد قول من أوْجَبَ المِثْلَ من طريق الخِلْقَةِ ؛ لأنه تعالى لَمْ يَقُلْ : يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ ، وإنَّما قال : يَحْكُمان به هَدْياً ، وهذا صَرِيحٌ في أنَّهما يَحْكُمَان بالهدي لا غير ، وأن يكُون المعنى يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْياً وهذا بعيد عن الظَّاهِر . وسمِّيت الكَعْبَةُ كَعْبَةً لارتفاعها ، والعَرَبُ تُسَمِّي كل بَيْتٍ مرتفعٍ كَعْبَةً ، والكَعْبَةُ هنا إنَّما أُريدَ بها كلُّ الحَرَم ؛ لأنَّ الذبْحَ والنَّحْر لا يُفْعَلان في الكَعْبَة ، ولا عندها ملاصِقاً لها ، ونَظِيرُهُ قوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] ، والمُرَادُ بِبُلُوغِهِ للكَعْبة : أنْ يَذْبَح بالحرم ، ويتصدَّق باللَّحْمِ على مساكينِ الحَرَمِ . وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : له أنْ يتصدَّق به حيث شاءَ ، كما أنَّ لَهُ أن يصُومَ حيْثُ شاء ، وحجَّةُ القولِ الأوَّل : أنَّ الذَبْحَ إيلامٌ ، فلا يجُوزُ أن يكُون قُرْبَةً ، بل القُرْبَةُ إيصَالُ اللَّحْم إلى الفقَراءِ . قوله : " أو كَفَّارةٌ " عطفٌ على قوله : " فَجَزَاءٌ " ، و " أوْ " هنا للتخيير ، ونُقِل عن ابن عباس ؛ أنها ليسَتْ للتخيير ، بل للترتيب ، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع " فَجَزَاءٌ " ، وأمَّا مَنْ نصبه ، فقال الزمخشريُّ : جعلها خَبَرَ مبتدأ محذوفٍ ؛ كأنه قيل : أو الواجبُ عليه كفَّارةٌ ، ويجوزُ أن تُقَدِّرَ : فعليه أن يجْزِي جزاءً ، أو كفارةً ، فتعطفَ " كَفَّارة " على " أنْ يَجْزِيَ " ، يعني أنَّ " عليه " يكونُ خبراً مقدَّماً ، و " أن يَجْزِيَ " مبتدأ مؤخَّراً ، فعطفت " الكفَّارة " على هذا المبتدأ ، وقرأ نافع وابنُ عامرٍ بإضافة " كَفَّارة " لما بعدها ، والباقون بتنوينها ، ورفع ما بعدها . فأمَّا قراءةُ الجماعةِ ، فواضحةٌ ، ورفعُ " طَعَامُ " على أحد ثلاثة أوجه : أحدها : أنه بدل من " كَفَّارةٌ " ؛ إذ هي من جنسه . الثاني : أنه بيانٌ لها ؛ كما تقدَّم ، قاله الفارسيُّ . وردَّه أبو حيان ؛ بأنَّ مذهبَ البصريِّين اختصاصُ عطفِ البيانِ بالمعارفِ دون النكرات ، قال شهاب الدين : أبو عَلِيٍّ يُخالِفُ في ذلك ، ويستدلُّ بأدلَّة ، منها قوله تعالى : { شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] ، فـ " زَيْتُونَةٍ " عنده عطفُ بيان لـ " شَجَرَة " ، وكذا قوله تعالى : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] ، فـ " صَدِيد " عنده بدلٌ من " مَاءٍ " ، والبدلُ فيهما محتملٌ ؛ فلا حُجَّةَ له ، والبدل قد يجيء للبيان . الثالث : أنه خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : هي طعام ، أي : تلك الكفارة . وأمَّا قراءة نافع وابن عامرٍ ، فوجهها : أنَّ الكفارة ، لمَّا تنوَّعَتْ إلى تكفير الطعام ، وتكفير بالجزاء المماثل ، وتكفير بالصيامِ ، حسُنَ إضافتها لأحَدِ أنواعها تبييناً لذلك ، والإضافةُ تكون بأدْنَى ملابسة ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2053 - إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاحَ بِسُحْرةٍ سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا فِي القَرَائِبِ @@ أضاف الكوكبَ إليها ؛ لقيامها عند طلوعه ؛ فهذا أولى ، ووجَّهَها الزمخشريُّ فقال : " وهذه الإضافةُ مبيِّنةٌ ، كأنه قيل : أو كفارةٌ من طعامِ مساكين ؛ كقولك : " خَاتَمُ فِضَّةٍ " بمعنى مِنْ فِضَّةٍ " ، قال أبو حيان : " أمَّا ما زعمه ، فليْسَ من هذا الباب ؛ لأنَّ " خَاتَم فِضَّةٍ " من باب إضافة الشيء إلى جنْسه ، والطعامُ ليس جنساً للكفارةِ ، إلا بتجَّوزٍ بعيدٍ جدًّا " . انتهى ، قال شهاب الدين : كان مِنْ حَقِّه أن يقول : والكفَّارةُ ليستْ جنْساً للطَّعامِ ؛ لأنَّ الكفارةَ في التركيب نظيرُ " خَاتَم " في أنَّ كلاًّ منهما هو المضافُ إلى ما بعده ، فكما أن " خَاتَماً " هو المضافُ إلى جنسه ينبغي أن يُقالَ : الكفَّارةُ ليستْ جنْساً للطعام ؛ لأجل المقابلةِ ، لكنْ لا يمكنُ أن يُقال ذلك ، فإنَّ الكفارةَ كما تقدَّم جنسٌ للطعامِ ، والجزاءِ ، والصَّومِ ، فالطريقُ في الردِّ على الزمخشريِّ أن يُقال : شرطُ الإضافةِ بمعنى " مِنْ " : أن يُضاف جزءٌ إلى كلٍّ بشرطِ صدقِ اسم الكلِّ على الجزءِ ؛ نحو : " خَاتَمُ فِضَّةٍ " ، و " كَفَّارةُ طعَامٍ " ليس كذلك ، بل هي إضافة " كُلّ " إلى جزء ، وقد استشكل جماعةٌ هذه القراءة ؛ من حَيْثُ إنَّ الكفارةَ ليست للطعامِ ، إنما هي لقتلِ الصيدِ ، كذا قاله أبو عليٍّ الفارسيُّ وغيره ، وجوابُه ما تقدَّم . ولم يختلف السبعةُ في جمع " مَسَاكِينَ " هنا ، وإن اختلفوا في البقرة ، قالوا : والفرقُ بينهما أنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ لا يُجْزىءُ فيه إطعامُ مِسْكِينٍ واحدٍ ، على أنه قد قرأ عيسى بْنُ عُمَرَ والأعْرَجُ بتنوين " كَفَّارة " ، ورفع " طَعَامُ مسْكِينٍ " بالتوحيد ، قالوا : ومرادُهما بيانُ الجِنْسِ ، لا التوحيدُ . قوله : " أوْعَدْلُ " نسقٌ على " فَجَزاءٌ " ، والجمهورُ على فتحِ العين ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مُصَرِّف والجَحْدَرِي بكَسْرِهِا . قال الفرَّاءُ : " العِدْل " بالكسر : ما عادَل الشَّيْء من جِنْسِهِ ، والعدل : المِثْلُ ، تقول : عندي عِدلُ غُلامِكَ أو شَاتِكَ إذا كان غلامٌ بِعِدْل غُلامه ، أو شاةٌ تَعْدِلُ شَاتَهُ ، أمَّا إذا أرَدْتَ قِيمَتَهُ من غير جِنْسِه نَصَبْتَ العَيْن ، فقُلْت : عَدْل . وقال أبو الهَيْثَم : العدل : المِثْل ، والعِدْل : القِيمَةُ ، والعَدْلُ : اسم مَعْدُولٌ بحمل آخر مُسَوى به ، والعَدْل : تَقْوِيمُك الشَّيْء بالشيء من غير جِنْسِهِ . وقال الزَّجَّاج ، وابنُ الأعْرَابِيّ : العَدل والعِدْل سواءٌ ، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه في البَقَرة : عند قوله : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ الآية : 48 ] . قوله : " صِيَاماً " نصْبٌ على التميز كقولك : " عندي رَطلان عَسَلاً " لأنَّ المعنى : أو قَدْرُ ذلك صِياماً ، والأصْلُ فيه إدْخَالُ حَرْفَيْنِ تقُولُ : رطلانِ من العَسَلِ ، وعَدْلُ ذلك من الصِّيَام . [ وأصل " صِياماً " : " صِوَاماً " فأعِلَّ كما تقدَّم مراراً ] . فصل معنى الآية : أنَّه في جَزَاءِ الصَّيْد مُخَيَّرٌ بَيْن أن يَذْبَح المِثْلَ من النَّعَمِ ، فيتَصدَّق باللَّحْم على مَساكِينِ الحَرَم ، وبيْنَ أنْ يُقَوِّم المِثْلَ بِدَرَاهِم ويَشْتَرِي بالدَّرَاهِم طَعَاماً ، فيتصدَّق بالطَّعَام على مساكينِ الحَرَمِ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ من طعام ، أو يَصُوم عن كُلِّ مُدٍّ يَوْماً ، وله أنْ يَصُومَ حَيْث شَاءَ ؛ لأنَّه لا نَفْعَ فيه لِلْمَسَاكِين . وقال مَالِكٌ : إنْ لم يخْرِجِ المثلَ يُقَوَّمُ الصَّيدُ ، ثمَّ تُجْعَلُ القِيمَةُ طَعَاماً ، فيتصَدَّقُ به أوْ يَصُوم . وقال أبُو حَنِيفَةَ : لا يَجِبُ المِثْلُ مِنَ النَّعَم ، بل يُقَوَّمُ الصَّيْدُ ، فإن شاء صَرَفَ تلك القِيمَةَ إلى شَيء مِنَ النَّعَمِ ، وإن شَاءَ إلى الطَّعَام فيتَصَدَّق بِهِ ، وإنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كلِّ نِصْفِ صَاعٍ من بُرٍّ أو صَاعٍ من غَيْرِه يَوْماً . وقال الشَّعْبِي ، والنَّخْعِي : جَزَاءُ الصَّيْدِ على التَّرْتِيب ، والجُمْهُور على التَّخْيِير ، وأنَّ قاتلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ في تَعْيِين أحَدِ هذه الثلاثة ، وقال مُحَمَّد بن الحسن : التَّخْيِير إلى الحَكَمَيْن ، لقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً } أي : كَذَا ، أوْ كَذَا . وجوابُه : أن اللَّه أوْجَبَ على قَاتِلِ الصَّيْدِ أحَدَ هذه الثلاثة على التَّخْييرِ ، فوجَبَ أنْ يكونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مُخيَّراً بَيْن أيِّها شاء ، وأمَّا الذي يَحْكُمُ بِه ذوا العَدْل ، فهو تَعْيينُ المِثْلِ الخِلْقَة أو القِيمَة . قوله : " لِيَذُوقَ " فيه ستةُ أوجهٍ : أحدها : أنه متعلقٌ بـ " جزاء " قاله الزمخشريُّ ، وقال أبو حيان : إنما يتأتَّى ذلك حيثُ يضاف إلى " مِثْل " ، أو يُنَوَّن " جَزَاء " ، ويُنْصَبُ " مِثْل " ، وعَلَّلَ ذلك بأنه إذا رَفَعَ مثلاً ، كان صفةً للمصْدَرِ ، وإذا وُصِفَ المصدرُ ، لم يعمل إلا أن يتقدَّم المعمولُ على وصْفِه ؛ نحو : " يُعْجِبُنِي الضَّرْبُ زَيْداً الشَّديدُ " ، فيجوز : قال شهاب الدين : وكذا لو جعله بدلاً أيضاً أو خبراً ؛ لما تقدَّم من أنه يلزمُ أن يُتْبَعَ الموصولُ أو يُخْبَر عنه قبل تمامِ صلته ، وهو ممنوعٌ ، وقد أفْهَمَ كلامُ الشيخِ بصريحِهِ ؛ أنه على قراءةِ إضافة الجزاءِ إلى " مِثْل " يجوزُ ما قاله الزمخشري ، وأنا أقول : لا يجوزُ ذلك أيضاً ؛ لأنَّ " لِيَذُوقَ " مِنْ تمامِ صلةِ المصدرِ ، وقد عُطِفَ عليه قولُه " أوْ كفَّارَةٌ أو عَدْلٌ " ؛ فليزمُ أنْ يُعْطَفَ على الموصُولِ قبل تمام صلته ؛ وذلك لا يجوزُ لو قلْتَ : " جَاءَ الذي ضربَ وعَمرٌو زَيْداً " لم يَجُزْ للفصْلِ بين الصِّلَة - أو أبعاضِهَا - والموصُولِ بأجنبيٍّ ، فتأمَّلْه . الثاني : أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قُوَّةُ الكلامِ ؛ كأنه قيل : جُوزيَ بذلِكَ لِيَذُوقَ . الثالث : أنه متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ قبل قوله : " فَجَزَاء " ؛ إذ التقديرُ : فعليهِ جزاءٌ لِيَذُوقَ . الرابع : أنه متعلِّقٌ بـ " صِيَام " ، أي : صَوْمُهُ لِيَذُوقَ . الخامس : أنه متعلِّقٌ بـ " طَعَام " ، أي : طعام لِيَذُوقَ ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء ، وهي ضعيفةٌ جدًّا ، وأجودُها الأولُ . السادس : أنها تتعلَّقُ بـ " عَدْلُ ذَلِكَ " ، نقله أبو حيان عن بعضِ المُعْرِبين ، قال : " غَلَطٌ " . والوَبَالُ : سوءُ العاقبةِ وما يُخاف ضَرَرُهُ ، قال الراغبُ : والوَابِلُ : المطرُ الثقيلُ القَطْرِ ، ولمراعاة الثِّقَلِ ، قيل للأمرِ الذي يُخاف ضَرَرُه : وَبَال ، قال تعالى : فـ { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } [ الحشر : 15 ] ، ويقال : " طَعَامٌ وَبِيلٌ " ، و " كَلأٌ وَبِيلٌ " يُخافُ وبالُه ؛ قال تعالى : { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل : 16 ] ، وقال غيره : " والوبَالُ في اللغةِ ؛ ثِقَلُ الشيءِ في المْكُروهِ ، يقال : " مَرْعى وبَيلٌ " ، إذا كان يُسْتَوْخَمُ ، و " مَاءٌ وَبِيلٌ " إذا كان لا يُسْتَمْرَأ ، واسْتَوبَلْتُ الأرضَ : كرهتُها خَوْفاً من وبالِها " . والذَّوْقُ هنا استعارةٌ بليغةٌ . وإنَّما سمَّى اللَّهُ تعالى ذلك وبالاً ؛ لأنَّه خيَّره بين ثلاثةِ أشياء ، اثْنَانِ منها تُوجبُ تَنْقيصَ المالِ ، وهو ثَقِيلُ على الطَّبْعِ ، وهما الجَزَاءُ بالمِثْلِ والإطْعَام ، والثَّالِثُ يُوجِبُ إيلامَ البَدَنِ وهو الصَّوْم ، وذَلِك أيْضاً يَثْقُلُ على الطَّبْع ، وذلك حتَّى يَحْتَرِز عَنْ قَتْل الصَّيْد في الحَرَمِ ، وفي حَالِ الإحْرَام . قوله : { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يَعْنِي : قَبْلَ التَّحْرِيم ، ونُزُولِ الآيَة وقال السدِّيُّ : عَمَا سَلَفَ في الجاهِلَيَّةِ . وقيل : هذا إبْدَال على قَوْلِ من لا يُوجِبُ الجزاءَ ، إلاَّ في المرَّةِ الأولَى ، أمَّا في المرَّةِ الثَّانِية : فإنه لا يُوجِبُ الجَزَاءَ عليْه ، ويقول : إنَّه أعْظمُ من أنْ يُكَفِّره التَّصَدُّق بالجَزَاءِ ، فعلى هذا المُراد عَفَا اللَّهُ عما سَلَفَ في المرَّة الأولى بِسبَبِ أداءِ الجَزَاءِ ، ومن عادَ إليه مرَّةً ثَانِية ، فلا كفَّارة لجُرْمِهِ ، بل اللَّهُ يَنْتَقِمُ منه ، وحُجَّةُ هذا القول : أنَّ " الفاءَ " في قوله : { فَيَنْتقِمُ ٱللَّهُ مِنْه } فاءُ الجزَاءِ ، والجَزَاء هو الكَافِي ، فهذا يَقْتَضِي أنَّ هذا الانْتِقَامَ كما في هذا الذَّنْبِ ، وكونهُ كَافِياً يَمْنَع من وجوبِ شَيْءٍ آخَر ، فلا يَجِبُ عليه الجَزَاءُ . قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } " منْ " يجوز أن تكون شرطيةً ، فالفاءُ جوابُها ، و " يَنْتَقِمْ " خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، أي : فهو يَنْتَقِمُ ، ولا يجوز الجزمُ مع الفاءِ ألبتة ، قال : سيبويه : " الفَاءُ " في قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } ، وفي قوله : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ } [ البقرة : 126 ] ، و { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } [ الجن : 13 ] إنَّ في هذه الآيات إضْمَاراً مُقَدَّراً ، والتَّقدير : ومَنْ عادَ فهو ينتَقِمُ اللَّه منه ومن كفر فأنا أمتِّعُهُ ، ومن يُؤمِن بربه فهو لا يَخَافُ ، وبالجُمْلَةِ فلا بد من إضْمَارِ مبتدأ يكونُ ذَلِكَ الفِعْلُ خَبَراً عنه ؛ لانَّ الفِعْلَ يَصِيرُ بِنَفْسِهِ جزاءً ، فلا حاجَةَ إلى إدْخَال حَرْفِ الجزاءِ عليه ، فيَصِيرُ إدْخال حَرْفِ " الفَاءِ " على الفِعْلِ لَغْواً ، أما إذَا أضْمَرْنا المُبْتَدَأ ، احْتَجْنَا إلى إدخال " الفَاءِ " عليه ؛ ليَرْتَبِطَ بالشَّرْط فلا تَصِير " الفَاء " لَغْواً . ويجُوزُ أن تكون " مَنْ " موصولةً ، ودخلتِ الفاءُ في خبر المبتدأ ، لَمَّا أشبه الشرطَ ، فالفاءُ زائدةٌ ، والجملةُ بعدها خبرٌ ، ولا حاجَةَ إلى إضمارِ مبتدأ بعد الفاء ؛ بخلافِ ما تقدَّمَ . قال أبو البقاء : " حَسَّنَ دُخُولَ الفاءِ كونُ فِعْلِ الشرطِ مَاضِياً لَفْظاً " . فصل معنى الآية : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } : في الآخِرَة { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } . واعلمْ : أنَّه إذا تَكرَّرَ من المُحْرِمِ قَتْلُ الصَّيْدِ ، فيتكرر عليْه الجزاء عند عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ . قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : إذا قتلَ المُحْرِمُ صَيْداً مُتَعَمِّداً ، يُسألُ هل قَتَلْتَ قَبْلَها شَيْئاً من الصَّيْد ؟ فإنْ قال : نَعْم ، لم يُحْكَمْ عليه ، ويقالُ : اذْهَبْ فينتقم اللَّهُ مِنْك . وإنْ قال : لم أقْتُل قَبْلَهُ شَيْئاً حُكِمَ عليه [ فإن عاد بعد ذلك ، لم يُحْكَمْ عليه ] ، ولكن يُمْلأ ظَهْرُهُ وصدْرُه ضَرْباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في صيد " وَجٍّ " - وهو وادٍ بالطَّائف - ، واخْتَلَفُوا في المُحْرِمِ ، هل يُجُوزُ لَهُ أَكْلُ لَحْمِ الصَّيْدِ ؟ فذهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّه لا يَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ ، يُرْوَى ذَلِكَ عن ابنِ عبَّاسٍ ، وهو قولُ طاوُس ، وبه قال سُفْيَانُ الثَّوْرِي ، لما روى عبدُ الله بن عبَّاس " عن الصَّعْب بن جُثَامَة اللَّيْثِيِّ : أنَّهُ أهْدَى لرسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِمَاراً وحْشيّاً ، وهُوَ في الأبْوَاءِ أو بودان ، فردَّه رسُولُ صلى الله عليه وسلم ، قال : فلَمَّا رَأى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، مَا في وَجْهِي ، قال : " إنَّا لم نَرُدَّهُ عَلَيْك إلاَّ أنَّا حُرم " . وذهب الأكْثَرُون إلى أنَّهُ يجُوزُ لِلْمُحْرِم أكْلُهُ ، إذا لَمْ يَصْطَدْ بِنْفِسه ، ولا صِيدَ لأجْلِه أو بإشَارَتِه ، وهو قولُ عُمَرَ ، وعُثَمَان ، وأبِي هُرَيْرَةَ ، وبه قالَ عَطَاء ، ومُجَاهِد ، وسعيدُ بنُ جُبَيْر ، وهو مذهَبُ مالكٍ ، والشَّافِعيِّ ، وأحْمَد ، وإسْحاق ، وأصحاب الرَّأي ، وإنَّما رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصَّعبِ بن جُثَامة ؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّه صِيد من أجْله . ويدلُّ على الجوازِ ، ما روى نَافِعٌ - مولى أبِي قتادة بن ربْعِيٍّ الأنْصَارِي : " أنَّه كان مع رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، حتَّى إذا كان بِبَعْضِ طريقِ مَكَّةَ ، تَخلَّف مع أصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِين - وهو غير مُحْرِم - ، فرأى حِمَاراً وحْشياً ، فاسْتَوى على فرسهِ ، فسأل أصْحَابَهُ أنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطاً فَأبَوْا ، فَسَألَهُمْ رُمْحَهُ فأبَوا ، فأخَذه ، ثُمَّ شَدَّ على الحِمَار فَقَتَلَهُ ، فأكل مِنْهُ بَعْضُ أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأبَى بعضُهُمْ ، فلمَّا أدْرَكوا رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألُوه عن ذلك فقال : إنَّما هي طُعْمَةٌ أطْعَمَكُمُوها اللَّهُ " وروى جَابِرُ بن عَبْدِ اللَّهِ : أنَّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : " لَحمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الإحْرَامِ حلالٌ ، مَا لم تَصِيدُوه أو يُصَاد لَكُمْ " . فصل وإذَا أتْلَفَ المُحْرِمُ شَيْئاً من الصَّيْدِ لا مِثْلَ لهُ مِن النَّعَمِ ، مثل بَيْضٍ أو طَائرٍ دُون الحمامِ ، ففيه قيمَتُهُ يَصرفُهَا إلى الطَّعامِ ، فيتصَدَّق به ، أو يَصُوم عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْماً ، واخْتَلَفُوا في الجَرَادِ : فَرَخَّصَ فيه بَعْضُهُمْ ، وقال : هُو صَيْد البَحْرِ ، والأكثرون على تَحْرِيمهِ ، وإنْ أصابَهَا فَعَليْهِ صَدَقَةٌ ، قال عُمَرُ : في الجَرَادَةِ تَمْرَةٌ . ورُوِيَ عنه ، وعن ابْنِ عَبَّاس : قَبْضَة من طَعَامٍ .