Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 36-37)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } نصب بما بعده . وقدم إما لأنه استفهام ، وإما لأن " كم " الخبرية تَجْرِي مَجْرَى الاستفهامية في التصدير . و " مِنْ قَرْنٍ " تمييز و " هُمْ أَشَدُّ " صفة إما " لكَمْ " وإما لِقَرنْ . قوله : " فَنَقَّبُوا " الفاء عاطفة على المعنى كأنه قيل : اشتدَّ بطشهم فَنَقَّبُوا والضمير في ( نَقَّبُوا ) إما للقرون المتقدمة وهو الظاهر وإما لقُرَيْشٍ ، ويؤيده قراءة ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - وابن يَعْمُرَ ، وأَبِي العَالِيَة ، ونَصْرِ بن يَسَار ، وأبي حيوة ، والأصمعي - عن أبي عمرو - ( رضي الله عنهم ) فَنَقِّبُوا - بكسر القاف - أمراً لهم بذلك . والتَّنْقِيبُ التَّنْقِيرُ والتّفتيش ، ومعناه التَّطْوَافُ في البلاد ، قال الحارثُ بنُ حِلِّزَةَ : @ 4514 - نَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ مِنْ حَذَرِ الْمَو تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ @@ وقال امرؤ القيس : @ 4515 - وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالإيَابِ @@ وقرأ ابنُ عَباسٍ وأبو عمرو أيضاً في رواية : نَقَبُوا بفتح القاف خفيفة . ومعناها كما تقدم . وقرىء : نَقِبُوا بكسرها خفيفة أي نَقِبَتْ أقدامُهُمْ وَأَقْدَام إبلهم ودَمِيَتْ فحذف المضاف ، وذلك لكثرة تَطْوَافِهِمْ . قوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مبتدأ أو خبر مضمر تقديره : هل لمن سلك طريقهم . أو هل لهم من محيص . وهذه الجملة يحتمل أن تكون على إضمار قولٍ وأن لا تكون . فصل المعنى فَنَقَّبُوا أي فضربوا وسافروا وتقلبوا ، وأصله من النَّقب وهو الطريق كأنهم سلكوا كُلَّ طريق ، فلم يجدوا محيصاً من أمر الله . وعلى هذا فالمراد بهم أهل مكة ، أي ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ولم يجدوا ملجأ ومهرباً . وقيل : المعنى صاروا نُقَبَاء في الأرض أراد ما أفادهم بَطْشُهُم وقُوَّتُهُم ؛ لأن الفاء تدل على ترتيب الأمر على مقتضاه تقول : كانَ زَيْدٌ أَقوى من عَمْرٍو فَغَلَبَهُ . والمعنى كانوا أشدَّ منهم بطشاً فصاروا نقباءَ في الأَرْضِ ، وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، ومن قوتهم خَرَقُوا الطُّرق ونَقَّبُوها وقَطَعُوا الصُّخُورَ . وقيل : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مفر من الموت ، فلم يجدوا . وهذا جمع بين الإنْذارِ بالعذاب العاجل والعقاب الآجل ؛ لأنه أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المُهْلِك ، والإهلاك المُدْرك . وهذا إنذار لأهل مكة لأنهم على مثل سَبِيلهم . فإن قيل : إذا كان ( ذلك للجمع ) بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فَلِمَ توسَّطَهُمَا قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ ق : 31 ] ؟ فالجواب : ليكون ذلك رَدْعاً بالخوف والطمع ، فذكر حال الكفور ( المعاند ) ، وحال الشكور ترهيباً وترغيباً . فإن قيل : لِمَ لَمْ يجمع بين التَّرْهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسْلَمَ من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به وأهلكه ؟ فالجواب : أن النعمة كانت قد وصلت إليهم ، وكانوا مُتَقَلِّبين في النِّعم فلم يُذَكِّرْهم به ، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمْرين جميعاً فأخبرهم بها . وقوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيصٌ . وقيل : هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تَعْتَمِدُونَ عَلَيْه ؟ ومن قرأ بالتشديد فهو مفعول أي بحثوا عن المَحِيص { هَلْ من محيص ؟ } . والمَحِيصُ كالمَحِيدِ غير أن المحيص مَعْدَل ومهرب عن الشدة بدليل قولهم : " وَقَعَوا فِي حَيْصَ بَيْصَ " أي في شدةٍ وضيق ، والمَحِيدُ مَعْدَلٌ وإن كان بالاختيار ، فيقال : حَادَ عن الطَّريق بَطراً . ولا يقال : حَاصَ عن الأَمر بَطَراً . قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ } ذلك إشارة إلى الإهلاك ، أو إلى إزلاف الجنة . و " الذّكرى " مصدر أي تَذْكرةٌ وعظةٌ { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } . قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - : أي عَقْل . قال الفراء : هذا جائز في العربية تقول : مَا لَكَ قَلْبٌ وَلاَ قَلْبُكَ مَعَكَ ، أي عَقْلُك مَعَكَ . وقيل : له قلب حاضر مع الله . وقيل : قلبٌ واع ؛ وذلك لأن من لا يتذكر كأنَّه لا قلب له ، ومنه قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] أي هم كالجماد ، وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } [ المنافقون : 4 ] أي لهم صُوَر ، وليس لهم قلب ، ولا لسانٌ للشُّكْر . قوله : { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ } العامة على " أَلْقَى " مبنياً للفاعل ، وطَلْحَةُ والسُّلَمِيُّ والسُّدِّيُّ وأبو البرهسم : أُلْقِيَ مبنياً للمفعول " السَّمْعُ " رفع به . وذكرت هذه القراءة لِعَاصِمٍ عن السّدّيّ فمقته وقال : أليس يقول : يُلْقُونَ السَّمْعَ وإلقاء السمع كناية عن الاستماع ، لأن الذي لا يسمع كأنه حفظ سمعه فأمسكه والمعنى اسْتَمَع الْقُرْآنَ واستمع ما يقال له ، لا يحدث نفسه بغيره ، تقول العرب : أَلْقِ إلَيَّ سَمْعَكَ ، أي استمعْ ، أو يكون معناه : لمن كان له قلبٌ فقصد الاستماع ، أو أَلْقَى السمع بأن أرْسَلَه وإن لم يقصد السماع . " وَهُو شَهِيدٌ " حاضر الذِّهن . ويحتمل أن يقال : الإشارة بذلك إلى القرآن في أول السورة أي في القرآن الذي سبق ذكره ذكرى لمِن كَان لَهُ قلب ، أو لمن استمع ويكون معنى " وهو شهيد " أي المنذر الذي تَعَجَّبْتُم منه وهو شهيد عليكم كقوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] .