Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 1-6)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها ، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله ، وقال : { ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] وقال : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] تُجْبِرهم على الإيمان ، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان ، وتلاوة القرآن عليهم ، لم يبق إلا اليمين فقال : { وَٱلذَّارِيَاتِ … إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } وقال في آخرها { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } [ الذاريات : 60 ] . فصل وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه : أحدها : أن الكفار كانوا يَنْسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - للجدال ، ومعرفة طرقه ، وأنه عالم بفساد قولهم ، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال ، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة ، كما أن من أقام خَصْمُه عليه الدليل ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني ، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك ، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين ، ليقول : والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول ، فلا يبقى إلا السكوت ، أو التمسك بالأيمان ، وترك إقامة البرهان . الثاني : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تخرب المنازل ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر الإقسام ، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا أنه لا يحلف بها كاذباً . الثالث : أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة ، كقول القائل للمنعم : وحقِّ نِعْمَتِك الكثيرة إنّي لا أزال أَشْكُركَ . فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر ، وإنما أخرجها مُخْرج الأيمان ، إيذاناً بأنه يريد أن يتكلم بكلامٍ عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف . فصل أورد القسم على أمور منها الوحدانية ، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] وقولهم : { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ لقمان : 25 ] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات ومنها الرسالة وهو في سورتين " وَالنَّجْمِ " " وَالضُّحَى " ، وبالحروف في " يس " ومنها الحشر ، والجزاء وما يتعلق به ، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه . فصل أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس ، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورةٍ أصلاً ، فلم يقل : والصَّالِحِينَ من عبادي ، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف ؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل . فصل روي عن علي - ( رضي الله عنه ) - في قوله تعالى : { وَٱلذَّارِيَاتِ } قال هي الرياح التي تَذْرُو التُّراب يقال : ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأَذْرَتْ " الحَامِلاَت وقْراً " يعني السحاب تحمل ثِقْلاً من الماء " فَالجَارِيَاتِ يُسْراً " هي السفن تجري في الماء جرياً سهلاً " فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً " هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، أقسم بهذه الأشياء ، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته . قال ابن الخطيب : والأقرب أن هذه صفات للرياح ، فالذاريات هي التي تُنْشىء السحاب أولاً ، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار المياه التي إذا سحّتْ جرت السيول العظيمة ، وهي أوقارٌ أثقل من جبال . والجاريات هي التي تجري السحب عِنْدَ حَمْلِها ، وَالمُقَسِّمَات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار ، ويحتمل أن يقال : هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة ، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تُخُوم الأرض ، وبعضها في قَعْر البِحَار ، وبعضها في جَوِّ الهواء ، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض ، وتَذْرُو التُّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً ، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً مستقلاًّ بل تنقله من موضع إلى موضع ، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملاً لا يقع منه شيء ، والجاريات هي الجامعة من الماء ، فإن من يُجْرِي السفنَ الثقيلة في تيّار البحار قادرٌ على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن ، وإذا اجتمع ذلك كله بَقِيَ نفخُ الروح ، وهي من أمر الله ، فقال : " فالمُقسِّمَاتِ أَمْراً " يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأَمْر الله . قوله : " ذَرواً " منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل ، والمفعول محذوف اختصاراً إذ لا نظير لما تذروه هنا . وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء " الذاريات " في ذال " ذَرْواً " وأما " وِقْراً " فهو مفعول به بالحاملات ، كما يقال : حَمَل فلانٌ عدْلاً ثَقِيلاً . قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون اسماً أقِيمَ مُقَام المصدر ، كقوله : ضَرَبَهُ سَوْطاً . ويؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو . والوِقْرُ - بالكسر - اسم ما يوقِر أي يَحُلُّ . وقرىء بالفتح ، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر . ويجوز أن يكون مصدراً على حاله والعامل فيه معنى الفعل قبله ، لأن الحَمْل والوَقْر بمعنى واحد ، وإن كان بينهما عموم وخصوص . قوله : " يُسْراً " يجوز أن يكون مصدراً من معنى ما قبله أي جَرْياً يُسْراً وأن يكون حالاً ، أي ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جعلت نفس اليُسْر مبالغةً . قوله : " أَمْراً " يجوز أن يكون مفعولاً به ، وهو الظاهر ، كقولك : فُلاَنٌ قَسَّمَ الرِّزْقَ أَوِ المَالَ ، وأن تكون حالاً أي مأمورة . وعلى هذا فيحتاج إلى حذف مفعول " المُقَسِّمَات " . وقد يقال : لا حاجة لتقديره كما في الذاريات . وهل هذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات ، والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به ؟ قال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح وحدها ، لأنها تُنْشِىء السحاب وتُقِلُّه ، وتَصْرِفُهُ ، وتجري في الجو جرياً سَهْلاً وعلى هذا يكون من عطف الصفات ، والمراد واحد ، كقوله ( - رحمه الله - ) : @ 4517 - يا لَهْفَ زَيَّابَةِ لِلْحَارِثِ الصّابحِ فَالغَانِمِ فَالآيبِ @@ وقوله : @ 4518 - إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ @@ فتكون الفاء على هذا الترتيب الأمور في الوجود . فإن قيل : إن كان " وقراً " مَفْعولاً فلِمَ لَمْ يُجمع وما قيل : أوقاراً ؟ . فالجواب : لأن جماعةً مِنَ الرياح قد تحمل وقرا واحداً ، وكذا القول في المقسّمات أمراً إذا قيل : إنه مفعول به ، لأنه قد تجمع جماعة من الملائكة على أمر واحد . قوله : " إنَّمَا تُوعَدونَ " هذا جواب القسم ، و " ما " يجوز أن تكون اسمية ، وعائدها محذوف ، أي تُوعَدُونَهُ وأن تكون مصدرية فلا عائدَ على المشهور ، وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مَبْنِيًّا من الوعْد ، وأن يكون مبنياً من الوَعِيد ، لأنه يصلح أن يقال : أوْعَدْتُهُ فهو يُوعَدُ ، وَوَعَدْتُهُ فهو يُوعَد لا يختلف ، فالتقدير : إن وعدكم أو إن وعيدكم . ولا حاجة إلى قول من قال : إنه قوله : " لصادق " وقع فيه اسم الفاعل موقع المصدر أي لصدق لأن لفظ اسم الفاعل أبلغ إذا جعل الوعد أو الوعيد صادقاً مبالغة وإن كان الوصف إنما يقوم بمن يَعِدُ أو يُوعِدُ . قال ابن الخطيب : وبناؤه من " أوعد " هو الحق ؛ لأن اليمين مع المنكر بِوَعِيدٍ لا بوَعْد ، و " الصادق " معناه ذو صدق " كعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ " ، ووصف به الفاعل كوصف الفاعل بالمصدر في إفادة المبالغة . قوله : { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } أي الحشر والجزاء كائن .