Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 14-25)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } . لما ذكر الله - تعالى - خلق العالم الكبير من السماء والأرض ، وما فيها من الدلالات على وحدانيته وقدرته ، ذكر خلق العالم الصَّغير ، فقال : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } . قال المفسرون : يعني : آدم من صلصال وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة ، وشبهه بالفخَّار الذي طبخ . وقيل : هو طين خلط برملٍ . وقيل : هو الطين المُنتنُ ، من صلَّ اللحم وأصلَّ : إذا أنْتَنَ . وقال هنا : { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } . وقال في " الحجر " : { مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] وقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] . وقال : { كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] . وكله متفق المعنى ، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض ، فعجنه فصار طيناً ، ثم انتقل فصار كالحَمَأ المسنون ، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار . فقوله : " كالفخَّار " نعت لـ " صَلْصَالٍ " . وتقدم تفسيره . قوله : { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } . قيل هو اسم جنس كالإنسان . وقيل : هو أبو الجن " إبليس " . وقيل : هو أبوهم ، وليس بـ " إبليس " . قوله : { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } " من " الأولى لابتداء الغاية . وفي الثانية وجهان : أحدهما : أنها للبيان . والثاني : أنها للتبعيض . و " المَارِجُ " : قيل : ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر ، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلطاً بعضها ببعض . وقيل : الخالص . وقيل : الأحمر وقيل : الحمرة في طرف النَّار . وقيل المختلط بسواد . وقيل : اللهب المضطرب . وقال الليث : " المارج " : الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه اللهب الذي يعلو النَّار ، فيختلط بعضه ببعض أحمر وأخضر وأصفر ، ونحوه عن مجاهد . وقيل : " المَارِجُ " المرسل غير ممنوع . قال المبرد : " المارج " : النار المرسلة التي لا تمنع . وقال أبو عبيدة والحسن : " المارج " : المختلط النار ، وأصله من مرج إذا اضطرب ، واختلط . قال القرطبي : يروى أن الله - تعالى - خلق نارين ، فمرج إحداهما بالأخرى ، فأكلت إحداهما الأخرى ، وهي نار السَّمُوم ، فخلق منها " إبليس " . قال القشيري : " والمارج " في اللغة : المرسل أو المختلط ، وهو فاعل بمعنى مفعول كقوله : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] و { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ، والمعنى : " ذو مرج " . { مِّن نَّارٍ } نعت لـ { مَّارِجٍ } . وتقدم الكلام على قوله : " فبأي آلاء " إلى آخرها . قوله تعالى : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } . العامة على رفعه . وفيه ثلاثة أوجه : أحدهما : أنه مبتدأ ، خبره { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } ، وما بينهما اعتراض . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : " هُو ربُّ " أي : ذلك الذي فعل هذه الأشياء . الثالث : أنه بدل من الضمير في " خلق " . وابن أبي عبلة : " ربّ " بالجر ، بدلاً أو بياناً لـ " ربّكما " . قال مكي : ويجوز في الكلام الخفض على البدل من " ربكما " ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة . و " المشرقان " : قيل : مشرقا الشتاء والصيف ومغرباهما . وقيل : مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما ، وذكر غاية ارتفاعهما ، وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناول ما بينهما كقولك في وصف ملك عظيم : ( له المشرق والمغرب ) فيفهم منه أن له ما بينهما . ويؤيده قوله تعالى : { بِرَبِّ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ } [ المعارج : 40 ] . قوله تعالى : { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أي : خلَّى وأرسل وأهمل ، يقال : مرج الناس السلطان ، أي : أهملهم ، وأصل المَرْج الإهمال كما تمرج الدَّابة في المَرْعى ويقال : مرج خلط . وقال الأخفش : ويقول قوم : أمرج البحرين مثل " مرج " فيكون " فَعَلَ وأفْعَلَ " بمعنى . و " البَحْرين " : قال ابن عباس رضي الله عنهما : بحر السماء ، وبحر الأرض . قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام . وقيل : يلتقي طرفاهما . وقال الحسن وقتادة : بحر " فارس " و " الروم " . وقال ابن جريج : البحر المالح ، والأنهار العذبة . وقيل : بحر المشرق ، وبحر المغرب يلتقي طرفاهما . وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان . " بينهما برزخ " حاجز . قوله : " يلتقيان " حال من " البَحريْنِ " وهي قريبة من الحال المقدرة ، ويجوز بتجوّز أن تكون مقارنة . و " بَينهُمَا بَرزخٌ " يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً ، وأن يكون الظَّرف وحده هو الحال ، و " البَرْزَخُ " فاعل به ، وهو أحسن لقربه من المفرد . وفي صاحب الحال وجهان : أحدهما : هو البحرين . والثاني : هو فاعل " يَلْتقيان " . و " لا يَبْغِيَان " حال أخرى كالتي قبلها ، أي : مرجهُمَا غير باغيين أو يلتقيان غير باغِيين ، أو بينهما برزخٌ في حال عدم بغيهما ، وهذه الحال في قوة التعليل ، إذ المعنى : " لئلاَّ يَبْغِيانِ " . وقد تمحّل بعضهم ، وقال : أصل ذلك لئلا يبغيا ثم حذف حرف العلة ، وهو مطّرد مع " أن " و " إن " ، ثم حذفت " أن " أيضاً ، وهو حذف مطرد ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] ، فلما حذفت " أن " ارتفع الفعل ، وهذا غير ممنوع ، إلا أنه تكرر فيه الحذف . وله أن يقول : قد جاء الحذف أكثر من ذلك فيما هو أخفى من هذا ، كما سيأتي في قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } [ الواقعة : 82 ] . فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها لما ذكر الشمس والقمر ، وهما يجريان في الفلك كما يجري الفلك في البحر ، كقوله : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] ، فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ، أو لأن المشرقين والمغربين يكونان في البر والبحر ، فذكر البحر بعد ذكر البر ؛ لانحصار البر والبحر بين المشرق والغرب . قوله : " بينهما بَرْزَخ " أي : حاجز ، " لا يبْغِيَان " ، فعلى القول الأول بأنهما بحر السماء ، وبحر الأرض ، فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض . قاله الضحاك . وعلى الأقوال الباقية : الحاجز : هو الأرض التي بينهما . قاله الحسن وقتادة . وقال بعضهم : الحاجز : هو القدرة الإلهية . وقوله : " لا يَبْغِيَان " . قال قتادة : لا يبغيان على النَّاس فيغرقانهم ، جعل بينهم وبين الناس اليبس . وقال مجاهد وقتادة أيضاً : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه . وقال ابن زيد : " لا يبغيان " أي يلتقيان ، تقديره : مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا . وقيل : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، أي : بينهما مدة قدرها الله تعالى ، وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان ، فإذا أذنَ الله بانقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً ، وهو كقوله تعالى : { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ } [ الانفطار : 3 ] . وقال سهل بن عبد الله : البحران : طريق الخير والشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة . فصل في إحاطة البحار بالأرض قال ابن الخطيب : إن الله - تعالى - خلق في الأرض بحاراً تحيط بها الأرض ، وخلق بحراً محيطاً بالأرض أحاط به الهواء ، كما قال به أهل الهيئةِ ، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط ، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ، ولا يغطيانها بفضل الله لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكاناً ، وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام ، فإن عندهم أن طبع الأرض يكون في المركز مغموراً بالماء ، ويكون الماء محيطاً بجميع جوانبه ، فإذا سئلوا عن ظهور الأرض من الماء قالوا : جذب في الأرض . فإذا قيل لهم : لماذا تجذب ؟ وما سبب الجذب ؟ . فالذي عنده قليل من الحق أسند ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته ، والآخر يقول : ذلك بحسب اتصالات الكواكب وأوضاعها . فإن قيل له : لماذا اختلفت أوضاع الكواكب على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض ؟ بهت كما بهت الذي كفر ، ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى . وقال ابن الخطيب : ومعنى الآية أن الله - تعالى - أرسل بعض البحرين إلى بعض ، ومن شأنهما الاختلاط فحجزهما ببرزخ من قدرته ، فهما لا يبغيان ، أي : لا يجاوز كل واحدٍ منهما ما حد له . و " البَغْي " : مجاوزة الحد ، أو من الابتغاء وهو الطَّلب ، أي : لا يطلبان غير ما قدر لهما . قوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } قرأ نافع ، وأبو عمرو : " يُخْرَجُ " مبنيًّا للمفعول ، والباقون : مبنيًّا للفاعل على المجاز . قالوا : ثم مضاف محذوف ، أي " من أحدهما " ؛ لأن ذلك لم يؤخذ من البحر العذب حتى عابُوا قول الشاعر : [ الطويل ] @ 4634 - فَجَاءَ بِهَا ما شِئْتَ مِنْ لطَمِيَّةٍ على وجْهِهَا مَاءُ الفُراتِ يَمُوجُ @@ قال مكي : " كما قال : { عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ } [ الزخرف : 31 ] ، أي : من إحدى القريتين ، فحذف المضاف كثير شائع " . وقيل : هو كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] وإنما الناسي فتاه ، ويعزى هذا لأبي عبيدة . قال البغوي : وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئين ، ثم يخص أحدهما بفعل ، كقوله : { يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ، ثم كانت الرسل من الإنس . وقيل : يخرج من أحدهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المرجان . وقيل : بل يخرجان منهما جميعاً . ثم ذكروا أقاويل . منها : أنهما يخرجان من المِلْح في المواضع الذي يقع فيه العذب ، وهذا مشاهد عند الغواصين ، وهو قول الجمهور ، فناسب ذلك إسناده إليهما . ومنها : قول ابن عباس رضي الله عنهما : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، والصدف تفتح أفواهها للمطر ، وقد شاهده الناس ، فيكون تولده من بحر السماء ، وبحر الأرض . وهذا قول الطبري . ومنها : أن العذب في الملح كاللقاح ، كما يقال : الولد يخرج من الذَّكر والأنثى . ومنها : أنه قيل : منهما من حيثُ هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما ، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] وإنما هو في واحدةٍ منهن . وقال الزمخشري : " فإن قلت : لم قال : " منهما " ، وإنما يخرجان من الملح ؟ قلت : لما التقيا ، وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، وإنما يخرجان من بعضه ، وتقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلَّةٍ واحدة من محاله ، بل من دارٍ واحدة من دُورهِ ، وقيل : لا يخرجان إلاَّ من ملتقى الملح والعذب " . انتهى . وقال بعضهم : كلام الله أولى بالاعتبار من كلام بعض النَّاسِ ، فمن الجائز أن يسوقها من البحر العذب إلى الملح ، واتفقُوا أنهم لم يخرجوها إلا من الملح ، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التُّجَّار المترددين القاطعين المفاوز ، فكيف بما هو في قَعْرِ البحر ؟ . فالجواب عن هذا : أن الله لا يخاطب الناس ، ولا يمنن عليهم إلا بما يألفون ، ويشاهدون . و " اللؤلؤ " : قيل : كِبارُ الجوهر ، والمرجان : صغاره . قاله علي ، وابن عباس ، والضحاك رضي الله عنهم . وقيل بالعكس ، وأنشدوا قول الأعشى رحمه الله : [ البسيط ] @ 4635 - مِنْ كُلِّ مَرْجَانةٍ فِي البَحْرِ أحْرَزَهَا تيَّارُهَا ووقَاهَا طينهَا الصَّدَفُ @@ أراد اللؤلؤة الكبيرة . قاله علي ، وابن عباس أيضاً . وقيل : " المرجان " : حجر أحمر . وقيل : حجر شديد البياض ، والمرجان أعجمي . قال ابن دريد : لم أسمع فيه كلاماً منصرفاً . و " اللؤلؤ " ، بناء غريب لم يرد على هذه الصيغة إلا خمسة ألفاظ : اللؤلؤ ، و " الجُؤجؤ " وهو الصَّدر ، و " الدُّردؤ " ، و " اليُؤيُؤ " - لطائر - و " البُؤبؤ " - بالموحدتين - وهو الأصل ، و " اللُّؤلُؤ " - بضمتين - والهمز هو المشهور . وإبدال الهمزة واواً شائع فصيح وقد تقدم ذلك . وقرأ طلحة : " اللُّؤلِىء " - بكسر اللام الثالثة - وهي لغة محفوظة ، ونقل عنه أبو الفضل : " اللُّولِي " بقلب الهمزة الأخيرة ياء ساكنة ، كأنه لما كسر ما قبل الهمزة قلبها ياء استثقالاً . وقرأ أبو عمرو في رواية : " يُخْرِجُ " أي : الله تعالى ، وروي عنه ، وعن ابن مقسم : " نُخْرِج " بنون العظمةِ . و " اللؤلؤ والمرجان " على هاتين القراءتين منصوبان . فصل في مناسبة نعمة اللؤلؤ والمرجان للنعم السابقة قال ابن الخطيب : فإن قيل : أي نعمة عظيمة في " اللُّولؤ والمرجان " حتى ذكرهما مع نعمة تعليم القرآن وخلق الإنسان ؟ . وأجاب بأن النعم منها خلق الضَّروريات كالأرض التي له مكاناً ، وكذا الرزق الذي به بقاؤه . ومنها ما يحتاج إليه ، وإن لم يكن ضروريًّا كالحيوان ، وإجراء الشمس والقمر . ومنها المنافع وإن لم يكن محتاجاً إليها كالفاكهة ، وخلق البحار ، كقوله تعالى : { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } [ البقرة : 164 ] . ومنها الزينة وإن لم يكن نافعاً كاللؤلؤ والمرجان ، كقوله تعالى : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ النحل : 14 ] ، فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة ، وصدرها بالنعمة العظيمة التي هي الروح وهو العلم بقوله : { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [ الرحمن : 2 ] ، أو يقال : بأن المقصود منه عجائب الله لا بيان النعم ؛ لأن النعم سبق ذكرها فذكر خلق الإنسان من صلصال ، وخلق الجان من مارج من نارٍ ، وهذان من العجائب الدَّالة على القدرة ، لا من النعم . واعلم أن الأركان أربعة : التراب والماء والهواء والنار ، فالله تعالى بيّن بقوله : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ } ، أن التراب أصل لمخلوق عجيب ، وبين بقوله : { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } ، أن النار أيضاً أصل لمخلوق عجيب ، وبين بقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } أن الماء أصل لمخلوق آخر كالحيوان عجيب ، بقي الهواء لكنه غير محسوس ، فلم يذكر أنه أصل مخلوق ، لكن بين كونه منشئاً للجواري التي في البحر كالأعلام . فقال : " ولهُ الجوارِ " . العامة على كسر " الراء " ؛ لأنه منقوص على " مفاعِل " والياء محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين . وقرأ عبد الله والحسن ، ويروى عن أبي عمرو ، " برفع الراء تناسياً للمحذوف " . ومنه : [ الرجز ] @ 4636 - لَهَا بَنَاتٌ أرْبَعٌ حِسَانُ وأرْبَعٌ فثَغْرُهَا ثَمَانُ @@ وهذا كما قالوا : هذا شاكٍ وقد تقدم تقرير هذا في الأعراف عند قوله : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] . قوله : " المُنشآتُ " . قرأ حمزة ، وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشِّين ، بمعنى أنها تنشىء الموج بجريها ، أو تنشىء السير إقْبَالاً وإدباراً ، أو التي رفعت شراعها ، والشِّراع : القلاع . وعن مجاهد : كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت ، وإلا فليست منها ونسبة الرَّفع إليها مجاز ، كما يقال : أنشأت السَّحابة المطر . والباقون : بالفتح ، وهو اسم مفعول ، أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو رفعوا شراعها . وقرأ ابن أبي عبلة : " المُنَشَّآت " بتشديد الشين مبالغة . والحسن : " المُنشَّأة " بالإفراد وإبدال الهمزة ألفاً وتاء محذوفة خطاً ، فأفرد الصفة ثقة بإفهام الموصوف الجمعية ، كقوله : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ آل عمران : 15 ] . وأما إبداله الهمزة ألفاً وإن كان قياسها بين بين ، فمبالغة في التخفيف . كقوله : [ البسيط ] @ 4637 - إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا … @@ أي : " لتهدأ " وأما كتابتها بإلقاء المحذوفة ، فاتباعاً للفظها في الوصل . و " في البَحْر " متعلق بـ " المنشآت " أو " المنشأة " ، ورسمه بالتاء بعد الشين في مصاحف " العراق " يقوي قرءاة الكسر ، ورسمه بدونها يقوي قراءة الفتح ، وحذفوا الألف كما تحذف في سائر جمع المؤنث السالم . و " كالأعلام " حال ، إما من الضمير المستكنّ في " المنشآت " ، وإما من " الجواري " وكلاهما بمعنى واحد . فصل في المراد بالجواري " الجَوَارِي " جمع جارية . وهي اسم أو صفة للسفينة ، وخصها بالذكر ؛ لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه ، وهم معترفون بذلك ، فيقولون : " لك الفُلْك ، ولك المُلْك " . وإذا خافوا الغرقَ دعوا الله خاصة ، وسميت السفينة جارية ؛ لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفةً في السَّاحل كما سماها في موضع آخر بـ " الجارية " ، فقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } [ الحاقة : 11 ] . وسماها بالفلك قبل أن تكون كذلك ، فقال لنوح عليه الصلاة والسلام : { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } [ هود : 37 ] ثم بعد ما عملها سمَّاها سفينة ، فقال : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ } [ العنكبوت : 15 ] . واعلم أن المرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية ؛ لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها ، بخلاف الزَّوجة ، فهو من الصفات الغالبة . و " السفينة " : " فعيلة " بمعنى " فاعلة " عند ابن دريد ، أي : تسفن الماء و " فَعِيلَة " بمعنى " مفعولة " عند غيره بمعنى منحوتة ، قال ابن الخطيب : فالفُلك أولاً ، ثم السفينة ، ثم الجارية . والأعلام : الجبال ، والعلم : الطويل ، قال : [ الرجز ] @ 4638 - إذَا قطعْنَ علماً بَدَا عَلَمْ @@ وقالت الخنساء في صخر : [ البسيط ] @ 4639 - وإنَّ صَخْراً لتَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ كَأنَّهُ علمٌ فِي رَأسِهِ نَارُ @@ أي " جبل " ، فالسفن في البحر كالجبال في البر . وجمع " الجواري " ووحد " البحر " ، وجمع " الأعلام " إشارة إلى عظمةِ البحر .