Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 1-13)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال تعالى : " الرَّحْمن " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : " الله الرحمن " . الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر ، أي : " الرحمن ربنا " وهذان الوجهان عند من يرى أن " الرحمن " آية مع هذا المضمر معه ، فإنهم عدُّوا الرحمن " آية " . ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر أو مخبر عنه إليه ؛ إذ الآية لا بد أن تكون مفيدة ، وسيأتي ذلك في قوله : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الآية : 64 ] . الثالث : أنه ليس بآية ، وأنه مع ما بعده كلام واحد ، وهو مبتدأ ، خبره " عَلَّم القُرْآنَ " . فصل في بيان مناسبة السورة افتتح السورة التي قبلها بذكر معجزة تدل على القهر [ والغلبة ] والجبروت ، وهو انشقاق القمر ، فمن قدر عليه قدر على قطع الجبال وإهلاك الأمم ، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدلّ على الرحمة ، وهي القرآن ، وأيضاً فأولها مناسب لآخر ما قبلها ؛ لأن آخر تلك أنه { مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] وأول هذه أنه رحمن . قال بعضهم : إن " الرحمن " اسم علم ، واحتج بقوله تعالى : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ } [ الإسراء : 110 ] . وأجاز أن يقال : " يالرحمن " باللام ، كما يقال : " يا الله " وهذا ضعيف ، وهو مختص بالله تعالى ، فلا يقال لغيره . قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : " الرحمن " فاتحة ثلاثة سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى : " الر " و " حم " و " نون " ، فيكون مجموع هذه " الرحمن " . ولله - تعالى - رحمتان : رحمة سابقة بها خلق الخلق ، ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع ، فهو رحمن باعتبار السَّابقة ، رحيم باعتبار اللاحقة ، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره : رحمن ، ولما تخلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطَّاقة البشرية ، فأطعم ونفع ، جاز أن يقال له : رحيم . قوله : " عَلَّم القُرآن " فيه وجهان : أظهرهما : أنه " علم " المتعدية إلى اثنين أي عرف من التعليم ، فعلى هذا المفعول الأول محذوف . قيل : تقديره : علم جبريل القرآن . وقيل : علم محمداً . وقيل : علم الانسان ، وهذا أولى لعمومه ، ولأن قوله : " خَلَقَ الإنْسان " دال عليه . والثاني : أنها من العلامة ، والمعنى : جعله علامة ، وآية يعتبر بها ، أي : هو علامة النبوة ومعجزة ، وهذا مناسب لقوله تعالى : { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] . على ما تقدم أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيبة ، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة ، وهو أنه يسر من العلوم ما لا يسره غيره ، وهو ما في القرآن ، أو يكون بمعنى أنه جعله بحيث يعلم كقوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } [ القمر : 17 ] ، فالتعليم على هذا الوجه مجاز كما يقال لمن أنفق على متعلم وأعطى أجرة معلمه : علمته . فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني ؟ . فالجواب : أن ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعليم لا تعليم شخص دون شخص ؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] ؟ فالجواب : إن قلنا بعطف الرَّاسخين على " الله " فظاهر . وإن قلنا بالوقف على الجلالة ، ويبتدأ بقوله : " والرَّاسِخُون " فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة ، وتأملها بقدر الإمكان ، فإنه يقال : فلان يعلم الكتاب الفلاني ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة ، وكذا القول في تعليم القرآن ، أو يقال : المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه ، بخلاف الكتب التي تستخرج بقوّة الذكاء . فصل في نزول هذه الآية قال المفسرون : نزلت هذه الآية حين قالوا : وما الرحمن ؟ . وقيل : نزلت جواباً لأهل " مكة " حين قالوا : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [ النحل : 103 ] ، وهو رحمن " اليمامة " ، يعنون : مسيلمة الكتاب فأنزل الله - تعالى - { الرحمن ، علَّم القُرآن } أي : سهله لأن يذكر ويُقرأ . كما قال : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } [ القمر : 22 ] . قوله تعالى : " خلق الإنسان " . قال ابن عباس وقتادة ، والحسن : يعني آدم - عليه الصلاة والسلام - . قوله : " علَّمهُ البَيانَ " علمه أسماء كل شيء . وقيل : علمه اللغات كلها ، وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية . وعن ابن عباس أيضاً ، وابن كيسان : المراد بالإنسان هنا محمد - عليه الصلاة والسلام - والمراد من البيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلالة . وقيل : ما كان وما يكون ؛ لأنه ينبىء عن الأولين ، والآخرين ، ويوم الدين . وقال الضحاك : " البيان " : الخير والشر وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه مما يضره . وقيل : المراد بـ " الإنسان " جميع الناس ، فهو اسم للجنس ، والبيان على هذا الكلام : الفهم وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان . قال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به . وقال يمان : الكتابة والخط بالقلم نظيره { عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 4 ، 5 ] . فصل في كيفية النظم إنه علم الملائكة أولاً ، ثم خلق الإنسان ، وعلمه البيان ، فيكون ابتدأ بالعلوي ، وقابله بالسفلي ، وقدم العلويات على السفليات ، فقال : " علم القرآن " إشارة إلى تعليم العلويين . ثم قال : { خَلَقَ الإنسانَ ، علَّمهُ البيانَ } إشارة إلى تعليم السفليين ، وقال : { الشمس والقمر بحسبان } [ في العلويات ] { والنجم والشجر يسجدان } [ في السفليات ] . ثم قال : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] ، وفي مقابلتها { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا } [ الرحمن : 10 ] . فصل في وصل هذه الجمل هذه الجمل من قوله : { عَلَّمَ القُرآنَ ، خلق الإنسَانَ ، علَّمه البيان } جيء بها من غير عاطف ؛ لأنها سيقت لتعديد نعمه ، كقولك : " فلان أحسن إلى فلان ، أشاد بذكره ، رفع من قدره " فلشدة الوصل ترك العاطف ، والظاهر أنها أخبار . وقال أبو البقاء : و " خَلَقَ الإنسَانَ " مستأنف ، وكذلك " علَّمَهُ " ، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان مقدرة ، وقدَّر معها مرادة انتهى . وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهر ما تقدم ، ولم يذكر الزمخشري غيره . فإن قيل : لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه ، وهو متأخر عنه في الوجود ؟ . فالجواب : لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه . فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في " علَّمهُ البَيانَ " ، ولم يصرح بهما في " علَّم القُرآن " ؟ . فالجواب : أن المراد من قوله " علَّمه البَيَانَ " تعديد النِّعم على الإنسان ، واستدعاء للشكر منه ، ولم يذكر الملائكة ؛ لأن المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان . فإن قيل : بأنه علم الإنسان القرآن . فيقال : بأن ذكر نعمة التعليم وعظمها على سبيل الإجمال ، ثم بين كيفية تعليمه القرآن ، فقال : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } . واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الألفاظ توقيفية . قوله : { والشمس والقمر بحسبان } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الشمس مبتدأ ، و " بِحُسْبَان " خبره على حذف مضاف ، تقديره : جري الشمس والقمر بحسبان ، أي كائن ، أو مستقر ، أو استقر بحُسْبَان . الثاني : أن الخبر محذوف يتعلق به هذا الجار ، تقديره : يجريان بحُسْبَان . وعلى هذين القولين ، فيجوز في الحسبان وجهان : أحدهما : أنه مصدر مفرد بمعنى " الحُسْبان " ، فيكون كـ " الشُّكْران " و " الكُفْران " . والثاني : أنه جمع حساب ، كـ " شهاب " و " شُهْبَان " . والثالث : أن " بحسبان " خبره ، و " الباء " ظرفية بمعنى " في " أي : كائنان في حسبان . وحسبان على هذا اسم مفرد ، اسم للفلك المستدير ، مشبهة بحسبان الرَّحَى الذي باستدارته تدور الرّحى . فصل لما ذكر خلق الإنسان وإنعامه عليه لتعليمه البيان ، ذكر نعمتين عظيمتين ، وهما : الشمس والقمر ، وأنهما على قانون واحد وحسابٍ لا يتغيران ، وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ، ولولا الشمس لما زالت الظلمة ، ولولا القمر لفات كثير من المنافع الظاهرة ، بخلاف غيرهما من الكواكب ، فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما ، وأنهما بحساب لا يتغير أبداً ، ولو كان مسيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزِّراعات في أوقاتها ، ومعرفة فصول السَّنة . ثم لما ذكر النعم السماوية وذكر في مقابلتها أيضاً نعمتين ظاهرتين من الأرض ، وهما : النبات الذي لا ساق له ، وما له ساق ؛ لأن النبات أصل الرزق من الحبوب والثمار ، والحشيش للحيوان . وقيل : إنما ذكر هاتين النعمتين بعد تعليم القرآن إشارة إلى أن من الناس من لا تكون نفسه زكيّة ، فيكتفي بأدلة القرآن ، فذكر له آيات الآفاق ، وخص الشمس والقمر ؛ لأن حركتهما بحسبان تدل على الفاعل المختار . ولو اجتمع العالم ليبيّنوا سبب حركتهما على هذا التقدير المعين لعجزوا ، وقالوا : إن الله حركهما بالإرادة كما أراد . وقيل : لما ذكر معجزة القرآن بإنزاله أنكروا نزول الجرم من السماء وصعوده إليها ، فأشار تعالى بحركتهما إلى أنها ليست بالطبيعة . وهم يقولون بأن الحركة الدّورية من أنواع الحركات لا يكون إلا اختيارياً ، فقال تعالى : من حرّكهما على الاستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ، والثقيل على مذهبكم لا يصعد ، وصعود النَّجم والشجر إنما هو بقدرة الله تعالى ، فحركة الملك كحركة الفلك جائزة . فصل في جريان الشمس والقمر قال المفسرون : [ المعنى ] يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر . قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : يجريان بحساب في منازل لا تعدوها ولا يحيدان عنها . وقال ابن زيد وابن كيسان : بهما تحسب الأوقات والأعمار ، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يجد شيئاً إذا كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً . وقال السدي : " بحسبان " تقدير آجالهما ، أي : يجريان بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا ، نظيره : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } [ الرعد : 2 ] . وقال الضحاك : بقدر . وقال مجاهد : " بحسبان " كحُسْبَان الرَّحى يعني : قطعها ، يدوران في مثل القُطْب . والحُسْبَان : قد يكون مصدر " حسبته أحسبُه بالضم حَسْباً وحِسَاباً وحُسْبَاناً " مثل الغُفْرَان والكُفْران والرُّجحان . وحسبته أيضاً : أي عددته . وقال الأخفش : ويكون جماعة الحساب ، مثل " شِهَاب ، وشُهْبَان " . والحُسْبَان - بالضم - أيضاً : العذاب والسِّهام القصار ، الواحدة : حُسْبَانة . والحُسْبانة أيضاً : الوِسادَة الصغيرة تقول منه : " حَسَّبْتُهُ " إذا وسدته . قال : [ مجزوء الكامل ] @ 4619 - … لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ @@ أي غير مُوسَّد ، يعني : غير مكرم ولا مكفن . قوله تعالى : { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] . قال ابن عباس وغيره : النَّجْم : ما لا ساق له ، والشَّجر : ما له ساق . وأنشد ابن عباس قول صفوان التيمي : [ الطويل ] @ 4620 - لَقَدْ أنجمَ القَاعُ الكَبيرُ عِضَاههُ وتَمَّ بِهِ حيَّا تَميمٍ ووَائِلِ @@ وقال زهير بن أبي سُلْمَى : [ البسيط ] @ 4621 - مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ رِيحُ الجَنُوبِ لِضاحِي مَائِهِ حُبُكُ @@ واشتقاق النجم من " نَجَمَ الشيء يَنْجُمُ " - بالضم - نُجُوماً : ظهر وطلع . ومنه : نَجَمَ نابُ البعير ، أي : طلع . وسجودهما : سجود ظلالهما ؛ قاله الضحاك . وقال الفرّاء : سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت ، ثم يميلان معهما حتى ينكسر الفيء . وقال الزجاج : سجودهما : دوران الظِّل معهما ، كما قال : { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ } [ النحل : 48 ] . وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء ، وسجوده في قول مجاهد : " دوران ظله " وهو اختيار الطبري ، حكاه المهدوي . وقيل : سجود النجم : أفوله ، وسجود الشجر : إمكان الاجتناء لثمارها ، حكاه الماوردي . والأول أظهر . وقيل : إن جميع ذلك مسخر لله تعالى ، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصَّابئين النجوم ، وعبد كثير من العجم الشجر . والسجود : الخضوع ، والمعني به آثار الحدوث ، حكاه القشيري . وقال النحاس : أصل السجود في اللغة : الاستسلام والانقياد لله - عز وجل - فهو من السموات كلها استسلامها لأمر الله - عز وجل - وانقيادها له . ومن الحيوان كذا ، ويكون من سجود الصلاة . وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم ؛ قال : [ الطويل ] @ 4622 - فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتجيرِهِ سَرِيعٍ بأيْدِي الآكلينَ جُمُودهَا @@ قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } . العامة : على النصب على الاشتغال مراعاة لعجز الجملة التي يسميها النحاة ذات وجهين ، وفيها دليل لسيبويه الذي يجوز النصب ، وإن لم يكن في جملة الاشتغال ضمير عائد على المبتدأ الذي تضمنته الجملة ذات الوجهين . والأخفش يقول : لا بد من ضمير ، مثاله : " هند قامت وعمراً أكرمته لأجلها " . قال : " لأنك راعيْتَ الخبر وعطفت عليه ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيشترط فيه ما يشترط فيه " . ولم يشترط الجمهور ذلك ، وهذا دليلهم . فإن القراء كلهم نصبوا مع عدم الرابط إلا من شذ منهم وقد تقدم تحرير هذا في سورة " يس " عند قوله : { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] . وقرأ أبو السمال : برفع السماء على الابتداء ، والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله " والشمس والقمر " . قال القرطبي : " فجعل المعطوف مركباً من ابتداء وخبر كالمعطوف عليه " . قوله : " ووَضَع المِيزانَ " . العامة على " وَضَع " فعلاً ماضياً ، و " الميزان " نصب على المفعول به . وقرأ إبراهيم : " ووضْع الميزانِ " - بسكون الضاد - وخفص " الميزان " وتخريجها : على أنه معطوف على مفعول " رفعها " أي : " ورفع ووضْع الميزان " أي جعل له مكانة ورفعة لأخذ الحُقُوق به ، وهو من بديع اللفظ حيث يصير التقدير : " ورفع ووضع الميزان " . قال الزمخشري : " فإن قيل : كيف أخلّ بالعاطف في الجمل الأول وجيء به بعده ؟ . قلت : بَكَّتَ بالجمل : الأول ، وأورده على سننِ التعديد للذين أنكروا الرحمن وآلاءه كما تبكت منكر أيادي المنعم من الناس بتعدّدها عليه في المثال الذي قدمته ، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التَّبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف . فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف ؟ . قلت : إن الشمس والقمر سماويَّان ، والنجم والشجر أرضيَّان فبينهما تناسب من حيث التقابل ، وإن السماء والأرض لا يزالان يذكران قرينتين ، وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم والشجر " . فصل في المراد بوضع الميزان قال مجاهد وقتادة : وضع الميزان عبارة عن العدل . قال السدي : " ووضع الميزان " وضع في الأرض العدل الذي أمر به ، يقال : وضع الله الشريعة ، ووضع فلان كذا أي ألقاه . وقيل : على هذا الميزان القرآن ، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه . وهو من قول الحسين بن الفضل . وقال الحسن وقتادة - أيضاً - والضحاك : هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض ، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } [ الرحمن : 9 ] . والقسْط هو العَدْل ، وقيل : هو الحكم . وقيل : المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال . وأصل " ميزان " " يوزان " . وقد مضى القول فيه في " الأعراف " . قال ابن الخطيب : قوله : " ووَضَعَ المِيزانَ " إشارة إلى العدل ، كقوله : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ } [ الحديد : 25 ] أي : ليعلموا بالكتاب ، ويعملوا بالميزان ، فكذا هنا " عَلَّمَ القُرآن " ووضع الميزانَ ، فالمراد بـ " الميزان " : العدل بوضعه شرعة ، كأنه قيل : شرع العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العَدْل ، هذا هو المنقول ، قال : والأولى العكس كالأول وهو الآلة ، والثاني : بمعنى الوزن ، أو بمعنى العدل . قوله : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } ، في " أنْ " هذه وجهان : أحدهما : أنها الناصبة ، و " لا " بعدها نافية ، و " تطغوا " منصوب بـ " أن " ، و " أن " قبلها لام العلة مقدّرة تتعلق بقوله : " ووضَعَ المِيزانَ " ، التقدير : " لئلاَّ تَطغَوا " ، كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] . وأجاز الزمخشري وابن عطية : أن تكون المفسرة ، وعلى هذا تكون " لا " ناهية ، والفعل مجزوم بها . قال القرطبي : فلا يكون لـ " أنْ " موضع من الإعراب ، فتكون بمعنى " أي " ، و " تطغوا " مجزوم بها كقوله : { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ } [ ص : 6 ] ، أي : " امْشُوا " . إلا أن أبا حيان رد هذا القول بأن شرط التفسيرية تقدم جملة متضمنة لمعنى القول ، وليست موجودة . قال شهاب الدين : " وإلى كونها مفسرة ذهب مكي ، وأبو البقاء ، إلا أن أبا البقاء كأنه تنبه للاعتراض ، فقال : " وأن - بمعنى أي - والقول مقدر " . فجعل الشيء المفسر بـ " أن " مقدراً لا ملفوظاً به ، إلا أنه قد يقال إن قوله " والقول مقدر " ليس بجيّد ؛ لأنها لا تفسر القول الصريح ، فكيف يقدر ما لا يصحّ تفسيره ، فإصلاحه أن يقول : وما هو بمعنى القول مقدر " . فصل في الطغيان في الميزان والطغيان مجاوزة الحد ، فمن قال : الميزان العدل ، قال : الطغيان الجور ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به ، قال : طغيانه النّجس . قال ابن عباس : لا تخونوا من وزنتم له . وعنه أيضاً أنه قال : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس : المكيال والميزان . ومن قال : إنه طغيان الحكم ، قال : طغيانه التحريف . وقيل : فيه إضمار ، أي : وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه . فإن قيل : العلم لا شك في كونه نعمة ، وأما الميزان فأي نعمة عظيمة فيه حتى يعد بسببها في الآلاء ؟ . فالجواب : أن النفوس تأبى الغَبْنَ ، ولا يرضى أحد بأن يغلبه غيره ، ولو في الشيء اليسير ، ويرى أن ذلك استهانة به ، فلا يترك خَصْمه يغلبه ، ثم إن عند عدم المعيار الذي به تُؤخذ الحقوق ، كل أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه ، فوضع الله - تعالى - معياراً بين به التَّساوي ، ولا يقع به البغضاء بين الناس ، وهو الميزان ، فهو نعمة كاملة ، ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته ، وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء الذي لا يبين فضلهما إلاَّ عند فقدهما . قوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } . أي : افعلوه مستقيماً بالعدل . وقال أبو الدرداء : أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل . وقال ابن عيينة : الإقامة باليد ، والقسط بالقلب . وقال مجاهد : القسط : العدل بالرومية . وقيل : هو كقولك : أقام الصلاة ، أي : أتى بها في وقتها ، وأقام الناس أسواقهم ، أي : أتوا بها لوقتها ، أي : لا تدعوا التعامل بالوزن والعدل . قوله : " ولا تُخْسِرُوا " . العامة على ضم التاء وكسر السين ، من " أخْسَرَ " أي : نقص ، كقوله : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 3 ] . وقرأ زيد بن علي ، وبلال بن أبي بردة : بفتح التاء وكسر السين ، فيكون " فَعِل ، وأفْعَل " بمعنى ، يقال : خَسِر الميزان ، وأخْسَره " بمعنى واحد ، نحو : جَبِر وأجْبر " . ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال : فتح التاء والسين ، ونقلها أيضاً القرطبي عن أبان بن عثمان ، قال : وهما لغتان ، يقال : أخسرت الميزان ، وخسرته ، كـ " أجبرته " و " جبرته " . قال شهاب الدين : وفيها وجهان : أحدهما : أنه على حذف حرف الجر ، تقديره : " ولا تخسروا في الميزان " ، ذكره الزمخشري وأبو البقاء ، إلا أن أبا حيان قال : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن " خَسِر " جاء متعدياً ، قال تعالى : { خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } [ الأنعام : 12 ] و { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآُخِرَةَ } [ الحج : 11 ] . قال شهاب الدين : " وهذا أليق من ذاك ، ألا ترى أن " خسروا أنفسهم " و " خسر الدنيا والآخرة " معناه : أن الخسران واقع بهما ، وأنهما معدومان ، وهذا المعنى ليس مراداً في الآية قطعاً ، وإنما المراد : لا تخسروا الموزُون في الميزان " . وقرىء : " تَخْسُروا " بفتح التاء وضم السين . قال الزمخشري : " وقرىء : " ولا تَخْسروا " بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها ، يقال : خَسِر الميزان يَخْسُره ويَخْسِره ، وأما الفتح فعلى أن الأصل : " في الميزان " فحذف الجار ، وأوصل الفعل إليه " . وكرر لفظ " الميزان " ولم يضمره في الجملتين بعده تقوية لشأنه . وهذا كقول الآخر : [ الخفيف ] @ 4623 - لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا @@ فصل في معنى الآية المعنى : ولا تنقصوا ولا تبخسوا الوزن والكيل ، كقوله : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } [ هود : 84 ] . وقيل : لا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة ، فيكون ذلك حسرة عليكم ، وكرَّر الميزان لحال رُءُوس الآي . وقيل : التكرير للأمر بإيفاء الوزن ، ورعاية العدل فيه . وقال ابن الخطيب : { ولا تخسروا الميزان } أي : لا تنقصوا الموزون . وذكر " الميزان " ثلاث مرات ، فالأول : بمعنى الآلة ، وهو قوله " وَضَعَ المِيزانَ " . والثاني : بمعنى المصدر أي : لا تطغوا في الوزن . والثالث : للمفعول ، أي : لا تخسروا الموزون . وبين القرآن و " الميزان " مناسبة ، فإن القرآن فيه العلم الذي لا يوجدُ في غيره من الكتب ، والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من الآلات . قوله : { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } ، كقوله : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } . قرأ أبو السمال : بالرفع مبتدأ ، و " الأنام " علّة للوضع . " الأنام " . قيل : كل الحيوان . وقيل : بنو آدم خاصة ، وهو مروي عن ابن عبَّاس نقل النووي في " التهذيب " عن الزبيدي : " الأنام " : الخَلْق ، قال : ويجوز الأنيم . وقال الواحدي : قال الليث : " الأنامُ " ما على ظهر الأرض من جميع الخلق . وقيل : هم الإنس والجن . قاله الحسن ، والأول قاله الضَّحاك . ووزنه : " فَعَال " كـ " قَذَال " فيجمع في القلة على " أنِمّة " بزنة : " امرأة أنمّة " ، وفي الكثرة على " أنْم " كـ " قَذَال وأقذلة وقُذْل " . قوله : " فيها فاكهة " يجوز أن تكون هذه الجملة حالاً من " الأرض " إلا أنها حال مقدرة ، والأحسن أن يكون الجار والمجرور هو الحال . و " فاكهةٌ " رفع بالفاعلية ، ونكرت لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها ، وهو من باب الترقّي من الأدنى إلى الأعلى . قال ابن الخطيب : الأرض موضوعة لكل ما عليها ، وإنما خصّ الإنسان بالذِّكْر ؛ لأن الانتفاع بها أكثر ، فإنه ينتفع بها ، وبما فيها ، وبما عليها ، فقال : " للأنام " لكثرة انتفاع الأنام بها . وقوله : " فِيهَا فَاكِهَةٌ " . أي : ما يتفكّه به الإنسان من ألوان الثمار . قوله : { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } إشارة إلى الأشجار . و " الأكمام " جمع " كِمّ " - بالكسر - وهو وعاء الثمر . قال الجوهري : و " الكِمُّ " - بالكسر - و " الكِمَامة " : وعاء الطلع ، وغطاء النَّوْر ، والجمع : " كِمَام " و " أكِمَّة " ، و " الأكاميم " أيضاً ، و " كم " الغسيل إذا أشفق عليه ، فسُتر حتى يقوى ، قال العجاج : [ الرجز ] @ 4624 - بَلْ لَوْ شَهِدتَ النَّاسَ إذْ تُكُمُّوا غُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا @@ و " تكمّوا " : أي أعمى عليهم وغطّوا . وأكممتُ وكَمَمْت أي : أخرجت كمامها ، والكِمَامُ - بالكسر - والكمامة أيضاً : ما يكمّ به فَمُ البعير لئلا يعضّ ، تقول منه بعير مكموم أي محجوم ، وكممت الشيء : غطّيته ، ومنه كُمُّ القميص - بالضم - والجمع : " أكْمَام وكِمَمَة " مثل : جُبّ وجببة . و " الكُمَّةُ " : القَلَنْسُوَة [ المدورة ] ؛ لأنها تغطي الرأس . قال رحمه الله : [ الطويل ] @ 4625 - فَقُلْتُ لَهُمْ : كِيلُوا بِكُمَّةِ بَعْضِكُمْ دَرَاهِمَكُمْ ، إنِّي كذلِك أكْيَل @@ قال الحسن : " ذات الأكمام " أي : ذات اللّيف ، فإن النخلة قد تكمم بالليف وأكمامها : ليفها الذي في أعناقها . وقال ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتّق . وقال عكرمة : ذات الأحْمَال . وقال الضَّحاك : " ذات الأكمام " : ذات الغلف . والأكمام : الأوعية التي يكون فيها الثمر ؛ لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم يتشقق ، والمراد بالفاكهة : الفواكهة . قال ابن كيسان : ما يتفكّهون به من النعم التي لا تُحْصَى ، ونكّر الفاكهة للتكثير والتعظيم . قوله : { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } . قرأ ابن عامر : بنصب الثلاثة . وفيه ثلاثة أوجه : النصب على الاختصاص ، أي " وأخص الحبَّ " قاله الزمخشري . وفيه نظر ، لأنه لم يدخل في مسمى الفاكهة والنخل حتى يخصّه من بينها ، وإنما أراد إضمار فعل ، وهو " أخص " فليس هو الاختصاص الصّناعي . الثاني : أنه معطوف على " الأرض " . قال مكي : " لأن قوله " والأرض وضعها " أي : خلقها ، فعطف " الحب " على ذلك " . الثالث : أنه منصوب بـ " خلق " مضمراً ، أي " وخلق الحب " . وقال مكي : " أو وخلق الحب " ، وقراءته موافقة لرسم مصاحف بلدهِ ، فإن مصاحف " الشام " " ذا " بالألف . وجوزوا في " الرَّيْحَان " أن يكون على حذف مضاف ، أي " وذا الريحان " فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، كـ { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . وقرأ الأخوان برفع الأولين وجرّ " الرَّيْحَان " عطفاً على " العَصْف " وهي تؤيد قول من حذف المضاف في قراءة ابن عامر . والباقون : برفع الثلاثة عطفاً على " فاكهة " أي : وفيها أيضاً هذه الأشياء . ذكر أولاً ما يتلذّذون به من الفواكهة . وثانياً : الشيء الجامع بين التلذّذ والتغذِّي ، وهو ثمر النخل . وثالثاً : ما يتغذى به فقط ، وهو أعظمها ؛ لأنه قوت غالب الناس . ويجوز في " الرَّيْحَان " على هذه القراءة أن يكون معطوفاً على ما قبله ، أي : " وفيها الريحان " أيضاً ، وأن يكون مجروراً بالإضافة في الأصل ، أي : " وذو الريحان " ففعل به ما تقدم . و " العَصْفُ " قال مجاهد رضي الله عنه : ورق الشَّجر والزرع . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تِبْن الزرع وورقه الذي تَعْصِفُه الرياح . قال الراغب : " أصله : من " العَصْفِ والعَصِيفَة " ، وهو ما يُعصف ، أي : يقطع من الزرع " . وقال سعيد بن جبير : بقل الزرع أي ما ينبت منه ، وهو قول الفراء . والعرب تقول : خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك ، وكذا في " الصِّحاح " وكذا نقله القرطبي . وعصفت الزرع ، أي : جَزَرته قبل أن يدرك . وعن ابن عباس أيضاً : العصف : ورق الزرع الأخضر إذا وقع رءوسه ويبس نظيره : { كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [ الفيل : 8 ] . قال الجوهري : " وقَدْ أعْصَفَ الزَّرْعُ ، ومكانٌ مُعْصفٌ ، أي : كثير الزرع " . قال أبو قيس بنُ الأسلت الأنصاريُّ : [ السريع ] @ 4626 - إذا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا زَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُعْصِفُ @@ وقيل : " العَصْفُ " : حُطام النبات ، والعَصْفُ أيضاً : الكسب . قال الراجز : [ الرجز ] @ 4627 - بِغَيْرِ مَا عَصْفٍ ولا اكْتسَابِ @@ وكذلك " الاعتصاف والعصيفة " : الورق المجتمع الذي يكون فيه السّنبل . وحكى الثعلبي : وقال ابن السكيت : " تقول العرب لورق الزرع : العَصْف والعَصِيفة ، والجِلُّ بكسر الجيم " . قال علقمة بن عبدة : [ البسيط ] @ 4628 - تَسْقِي مَذانِبَ قَدْ مَالتْ عَصيفتُهَا حُدُورُهَا مِنْ أتِيِّ المَاءِ مَطْمُوم @@ في " الصحاح " : " والجِلّ - بالكسر - قصب الزرع إذا حصد " . والرَّيحان في الأصل مصدر ، ثم أطلق على الرزق . قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : هو الرزق بلغة " حِمْير " ، كقولهم : " سبحان الله وريحانه " أي : استرزاقه . وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وقتادة : أنه الريحان الذي يشمّ وهو قول ابن زيد أيضاً . وعن ابن عباس أيضاً : أنه خُضْرة الزرع . وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق . وقال الفراء : " العصفُ " المأكول من الزرع . و " الريحان " ما لا يؤكل . وقال الكلبي العَصْف : الورق الذي لا يؤكل . و " الريحان " : هو الحب المأكول . وقيل : كل فلّة طيبة الريح سميت ريحاناً ؛ لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي : يشم . وفي " الريحان " قولان : أحدهما : أنه على " فَعْلان " وهو من ذوات " الواو " ، والأصل " رَوْحَان " من الرائحة . قال أبو علي : فأبدلت " الواو " ياء كما أبدلت الياء واواً في " أشاوى " وإنما قلبت الواو ياء للفرق بينه وبين " الرَّوْحَان " وهو كل شيء له روح . قال القرطبي : والثاني : أن يكون أصله " رَيْوَحَان " على وزن " فَيْعَلان " فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت فيها الياء ، ثم خفف بحذف عين الكلمة ، كما قالوا : كَيْنُونة وبَيْنُونَة والأصل تشديد الياء ، فخفف كما خفف " هَيْن ولَيْن " . قال مكي : ولزم تخفيفه لطوله بلُحُوق الزيادتين ، وهما الألف والنون . ثم ردّ قول الفارسي بأنه : لا موجب لقلبها ياء . ثم قال : " وقال بعض الناس " وذكر ما تقدم عن أبي علي . قال القرطبي : " والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء : الاهتزاز والحركة " . وفي الصحاح : " والريحان نبات معروف ، والرَّيْحَان : الرزق ، تقول : خرجت أبتغي ريحان الله " . وفي الحديث : " الولدُ مِنْ رَيْحانِ اللَّهِ " . وقولهم : سُبْحَانَ اللَّهِ ورَيْحَانه " نصبوهما على المصدر ، يريدون : تنزيهاً له واسترزاقاً . قوله : { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } فالعَصْفُ : ساق الزرع ، والرَّيْحَان : ورقه قاله الفراء . قوله : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] ، " فبأي " متعلق بـ " تكذبان " . والعامة على إضافة " أي " إلى " الآلاء " . وقرىء في جميع السورة بتنوين " أيّ " . وتخريجها : على أنه قطع " أيًّا " عن الإضافة إلى شيء مقدر ، ثم أبدل منه " آلاء ربكما " بدل معرفة من نكرة ، وتقدم الكلام في " الآلاء " ومفردها في الأعراف " . والخطاب في " ربكما " قيل : للثقلين من الإنس والجن ؛ لأن الأنام تضمنهما ، وهو قول الجمهور ، ويدل عليه حديث جابر . وفيه : " للْجِنُّ أحْسَنُ مِنْكُم رَدًّا " . وقيل : لما قال : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ ، وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } [ الرحمن : 14 ، 15 ] . دل ذلك على ما تقدم وما تأخر لهما . وكذا قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } [ الرحمن : 31 ] خطاب للإنس والجن . وقال أيضاً : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } [ الرحمن : 33 ] . وقال الجرجاني : خاطب الجن مع الإنس ، وإن لم يتقدم للجن ذكر . كقوله تعالى : { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] . فقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن ، والقرآن كالسورة الواحدة ، فإذا ثبت أنهم مكلَّفُون كالإنس ، خوطب الجنسان بهذه الآيات . وقيل : الخطاب للذكر والأنثى . وقيل : هو مثنّى مراد به الواحد ، كقوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] . وكقول الحجاج بن يوسف : " يا حرسي اضربا عنقه " ، وكقول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 4629 - قِفَا نَبكِ … … @@ و [ الطويل ] @ 4630 - خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي … … @@ وقيل : التثنية للتأكيد . وقيل : التكذيب يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بهما ، فالمراد هما . فصل في آلاء الله تعالى قال ابن زيد : المراد بالآلاء : القدرة ، والمعنى : فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وهو قول الكلبي . واختار محمد بن علي الترمذي ، وقال : هذه السورة من بين السور علم القرآن ، والعلم : إمام الجند ، والجند تتبعه ، وإنما صارت علماً ؛ لأنها سورة صفة الملك والقدرة ، فقال : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة ، فقال : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } . ثم ذكر الإنسان فقال : " خَلَقَ الإنسان " ثم ذكر ما صنع به ، وما من عليه به ، ثم ذكر حُسْبَان الشمس والقمر ، وسجود الأشياء من نجم وشجر ، وذكر رفع السماء ، ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذين الثقلين : الإنس والجن ، حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ، ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان ، وكل معبود اتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم . فقال سائلاً لهم : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، وإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكاً يملك معه ، ويقدر معه ، فذلك تكذيبهم ، ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ ، ثم سألهم فقال : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإن له في كل خلق قدرة بعد قدرة ، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد ، والمبالغة في التقرير ، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ بعد خلق . وقال القتبي : إن الله - تعالى - عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كل خلّة وصفها ونعمة وضعها في هذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليبينهم على النعم ، ويقررهم بها ، كما يقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن راجلاً فحملتك ، أفتنكر هذا ؟ والتكرير حسن في مثل هذا . قال الشاعر : [ مشطور الرجز ] @ 4631 - كَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ @@ وقال الشاعر رحمه الله : [ البسيط ] @ 4632 - لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إن كُنْتِ مُسْلمَةً إيَّاكِ من دمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ @@ وقال آخر : [ المنسرح ] @ 4633 - لا تَقْطَعَنَّ الصَّديقَ ما طَرَفَتْ عَيْنَاكَ من قَوْلِ كَاشحٍ أشِرِ ولا تَمَلَّنَّ مِنْ زيَارتِهِ زُرْهُ وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ @@ وقال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة ، وتأكيد للحجَّة . قال شهاب الدين : والتكرير - هاهنا - كما تقدم في قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } [ القمر : 17 ] ، وكقوله فيما سيأتي : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 45 ] . وذهب جماعة منهم ابن قتيبة : إلى أن التكرير لاختلاف النِّعم ، فلذلك كرر للتوقيف مع كل واحدة . قال ابن الخطيب : وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات ، والمراد به التقريع والزَّجْر ، وذكر لفظ الرب ؛ لأنه يشعر بالرحمة . قال : " وكررت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة إما للتأكيد ، ولا يعقل بخصوص العدد معنى . وقيل : الخطاب مع الإنس والجن ، والنعمة منحصرة في دفع المكروه ، وتحصيل المقصود ، وأعظم المكروهات عذاب جهنم ، و { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } [ الحجر : 44 ] ، وأعظم المقاصد : نعيم الجنة ، ولها ثمانية أبواب ، فالمجموع خمسة عشر ، وذلك بالنسبة للجن والإنس ثلاثون ، والزائد لبيان التأكيد " . روى جابر بن عبد الله ، قال : " قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " الرحمن " حتى ختمها ، ثم قال : " مَا لِي أراكُمْ سُكُوتاً ؟ للجِنُّ كانُوا أحسنَ مِنكُم رَدًّا ؛ ما قرأتُ عليهمِ هذهِ الآية مرَّة : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا : ولا بِشيءٍ من رحْمَتِكَ ربَّنا نكذِّبُ ، فلكَ الحمد " .