Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 55, Ayat: 46-61)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . يجوز أن يكون " مَقَام " مصدراً ، وأن يكون مكاناً . فإن كان مصدراً ، فيحتمل أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : قيام ربه عليه ، وحفظه لأعماله من قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] . ويروى عن مجاهد ، قال مجاهد وإبراهيم النَّخعي : هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله فيدعها من خوفه . وأن يكون مضافاً لمفعوله ، والمعنى : القيام بحقوق الله فلا يضيعها . وإن كان مكاناً ، فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النَّاس يقومون بين يدي الله للحساب في عرصات القيامة . قيل : فيه مقام الله ، والمعنى : خاف مقامه بين يدي ربه للحساب ، فنزلت المعصية ، فـ " مقام " : مصدر بمعنى القيام . فصل فيمن علق طلاق زوجته على دخوله الجنة قال القرطبي : هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته : إن لم أكُن من أهل الجنة فأنت طالق ، أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله وحياء منه . وقاله سفيان الثوري وأفتى به . فصل في المراد بالجنتين الظاهر أن الجنتين لخائف واحد . قال محمد بن علي الترمذي : جنّة لخوفه من ربه ، وجنّة لتركه شهوته . قال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض . قال القرطبي : ويجوز أن يكون المقام للعبد ، ثم يضاف إلى الله ، وهو كالأجل في قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 34 ] وقوله في موضع آخر : { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] . وقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ } أي : كل خائف له جنتان على حدة . وقيل : جنتان لجميع الخائفين . والأول أظهر . وقيل : جنة لخائف الإنس ، وأخرى لخائف الجن ، فيكون من باب التوزيع . وقيل : " مقام " هنا مُقحم ، والتقدير : " ولمن خاف ربه " ؛ وأنشد : [ الوافر ] @ 4651 - … ونَفَيْتُ عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ @@ أي : نفيت الذئب وليس بجيد ، لأنَّ زيادة الاسم ليست بالسهلة . وقيل : المراد بـ " الجنتين " : جنّة للجزاء ، وأخرى زيادة على الجزاء . وقيل : إن الجنتين : جنته التي خلقت له ، وجنة ورثها . وقيل : إحدى الجنتين منزله ، والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا . وقيل : إحدى الجنتين مسكنه ، والأخرى بستانه . وقيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور ، والأخرى أعاليها . وقال مقاتل : هما جنة عدن وجنة النعيم . وقال الفرَّاء : إنها جنة واحدة ، وإنما ثنّى مراعاة لرءوس الآي . وقيل : جنة واحدة ، وإنما ثنّى تأكيداً كقوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] . وأنكر القتبي هذا ، وقال : لا يجوز أن يقال : خزنة النار عشرون ، وإنما { تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] مراعاة لرءوس الآي . وأيضاً قال : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } . وقال عطاء وابن شوذب : نزلت هذه الآية في أبي بكر - رضي الله عنه - حين ذكر ذات يوم الجنّة حين أزلفت ، والنَّار حين برزت . وقال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ ، فأعجبه فسأل عنه ، فأخبر أنه من غير حلٍّ فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال : " رحمكَ اللَّهُ لقَدْ أنْزِلَتْ فِيْكَ آيَةٌ " ، وتلا عليه هذه الآية . قوله تعالى : " ذَوَاتَا " . صفة لـ " جَنَّتان " ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : " هما ذواتا " . وفي تثنية " ذات " لغتان : الرد إلى الأصل ، فإن أصلها " ذوية " ، فالعين واو ، واللام ياء ؛ لأنها مؤنثة " ذو " . الثانية : التثنية على اللفظ . فيقال : " ذواتا " . و " الأفنان " : فيه وجهان . أحدهما : أنه جمع " فَنَن " كـ " طلل " ، وهو الغصن . قال النابغة الذبياني : [ الوافر ] @ 4652 - بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلاً مُفَجَّعَةٍ على فَنَنٍ تُغَني @@ وقال آخر : [ الرمل ] @ 4653 - رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بالضُّحَى ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 4654 - … عَلَى كُلِّ أفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ @@ و " الفَنَن " : جمعه أفنان ثم الأفانين . قال الشاعر يصف رحى : [ الرجز ] @ 4655 - لَهَا زِمَامٌ مِنْ أفَانِينِ الشَّجَرْ @@ وشجرة فناء : أي ذات أفنان ، وفنواء أيضاً على غير قياس . وفي الحديث : " أنَّ أهْلَ الجنَّةِ مُردٌ مُكَحَّلُون أولُو أفَانِيْن " . وهو جمع أفنان ، وأفنان : جمع " فَنَن " من الشعر ، شبه بالغصن . ذكره الهروي . وقيل : " ذواتا أفنان " أي : ذواتا سعة وفضل على ما سواهما . قاله قتادة . وعن مجاهد أيضاً وعكرمة : أن الأفنان ظل الأغصان على الحِيْطان . وقال مجاهد : الفنن : هو الغصن المستقيم طولاً . الوجه الثاني : أنه جمع " فنّ " كـ " دنّ " ، وإليه أشار ابن عبَّاس . والمعنى : ذواتا أنواع وأشكال ؛ وأنشدوا : [ الطويل ] @ 4656 - ومِنْ كُلِّ أفْنَانِ اللذَاذَةِ والصِّبَا لَهَوْتُ بِهِ والعَيْشُ أخضرُ نَاضِرُ @@ قال سعيد بن جبير والضحاك : ألوان من الفاكهة ، واحدها : " فنّ " ، من قولهم : " افتنّ فلان في حديثه " إذا أخذ في فنون منه وضروب ، إلا أن الكثير في " فنّ " أن يجمع على " فنون " ، وجمع عطاء بين القولين فقال : في كل غصن فنون من الفاكهة . قوله تعالى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } أي : في كل واحدة منهما عينٌ جارية ، كما قال تعالى : { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } [ الغاشية : 12 ] تجريان ماء بالزيادة ، والكرامة من الله - تعالى - على أهل الجنَّة . وعن ابن عباس أيضاً والحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحدى العينين : التسنيم ؛ والأخرى السلسبيل . وقال ابن عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذّة للشَّاربين . وقيل : تجريان من جبل من مسك . وقال أبو بكر الوراق : فيهما عينانِ تجريانِ ، لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل . قوله تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ، أي : صنفان ونوعان . قيل : معناه : أن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً . وقال ابن عبَّاس : ما في الدنيا ثمرة حُلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحَنْظل إلاّ أنه حلو . فإن قيل : قوله تعالى : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } ، و { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } ، و { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } . أوصاف للجنتين المذكورتين ، فهو كالكلام الواحد ، تقديره : " جنتان ذواتا أفنان ، وفيهما عَيْنَان تجريان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان " فما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ مع أنه لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات ، بل قال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [ الرحمن : 35 ] مع أن إرسال النُّحاس غير إرسال الشُّواظ . وقوله : " يَطُوفُون " كلام آخر ؟ . فالجواب : أنه جمع العذاب جملة ، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب ، وتطييباً للقلب ، وتهييجاً للسَّامع ؛ فإن إعادة ذكر المحبوب محبوب ، وتطويل الكلام في اللذات مستحسن . فإن قيل : ما وجه توسيط آية العينين بين ذكر الأفنان ، وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأغصان ، فالمناسبة ألاّ يفصل بين آية الأغصان والفاكهة ؟ . فالجواب : أنه على عادة المتنعمين إذا خرجوا يتفرجون في البستان ، فأول قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ، ثم يكون الأكل تبعاً . قوله : " متّكِئين " يجوز أن يكون حالاً من " منْ " في قوله { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وإنما جمع حملاً على معنى " مَنْ " بعد الإفراد حملاً على لفظها . وقيل : حال عاملها محذوف ، أي : يتنعمون متكئين . وقيل : منصوب على الاختصاص . والعامة على : " فُرُش " بضمتين ، وأبو حيوة : بضمة وسكون ، وهي تخفيف منها . قوله تعالى : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة والظاهر أنها صفة لـ " فُرش " . وتقدم الكلام في " الاستبرق " في سورة الكهف . وقال أبو البقاء : أصل الكلمة فعل على " اسْتَفْعَلَ " ، فلما سمي به قطعت همزته . وقيل : هو أعجمي ، وقرىء بحذف الهمزة ، وكسر النون ، وهو سهو ؛ لأن ذلك لا يكون في الأسماء ، بل في المصادر والأفعال . انتهى . أما قوله : وهو سهو ؛ لأن ذلك لا يكون إلا في الأسماء … الخ . يعني أن حذف الهمزة في الدَّرج لا يكون إلا في الأفعال والمصادر . وأما الأسماء فلا تحذف همزاتها ؛ لأنها همزات قطع . قال شهاب الدين : " وهذا الكلام أحق بأن يكون سهواً ؛ لأنا أولاً لا نسلم أن هذه القراءة من حذف همزة القطع إجراءً لها مجرى همزة الوصل ، وإنما ذلك من باب نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحركة الهمزة كانت كسرة ، فحركة النون حركة نقل لا حركة التقاء الساكنين " . ثم قوله : " إلا في الأفعال والمصادر " ليس هذا الحَصْر بصحيح اتفاقاً لوجود ذلك في أسماء عشرة ليست بمصادر تقدم ذكرها في أول الكتاب . قال ابن الخطيب : قوله : " عَلى فُرُشٍ " متعلق بما في " مُتَّكئينَ " ، كأنه يقول : يتَّكئون على فرش ، كما يقال : فلان اتكَّأ على عصاه ، أو على فخذيه ، وهذا لأن الفراش لا يتكأ عليه ، وإن كان متعلقاً بغيره فما هو ؟ . فنقول : تقديره : يتفكّه الكائنون على فرش متكئين ، من غير بيان ما يتكئون عليه . فصل في تحرير معنى الاستبرق " الإسْتَبْرَقُ " : ما غلظ من الدِّيباج . قال ابن مسعود ، وأبو هريرة : إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة ؟ . وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر ؟ . قال : هذا مما قال الله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم ، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله . قال القرطبي : وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ظَواهِرُهَا نُورٌ يتلألأُ " وعن الحسن : البطائن هي الظَّواهر ، وهو قول الفراء . روي عن قتادة : والعرب تقول للبطن : ظهراً ، فيقولون : هذا بطن السماء ، وظهر الأرض . وقال الفرَّاء : قد تكون البطانة : الظهارة ، والظهارة : البطانة ؛ لأنَّ كل واحد منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه . وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا ، وقالوا : لا يكون هذا إلاَّ في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوماً كالحائط بينك وبين قوم ، وعلى ذلك أمر السماء . وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر ؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظَّواهر . فصل في أن الإستبرق معرب قال ابن الخطيب : الإستبرق معرب ، وهو الدِّيْبَاج الثخين ، وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم تصرفوا فيه ، وهو أن أصله بالفارسية " ستبرك " بمعنى : ثخين ، فزادوا في أوله همزة ، وبدلوا الكاف قافاً ، أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلم في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع ، فصارت كالسكون ، فأثبتوا فيه همزة كما يجلبون همزة الوصل عند سكون أول الكلمة ، ثم إنَّ البعض جعلوها همزة وصل ، وقالوا : " مِن اسْتَبْرَقٍ " . والأكثرون جعلوها همزة قطع ؛ لأن أول الكلمة في الأصل متحرك ، لكن بحركة فاسدة ، فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة ، وتمكنهم من تسكين الأول ؛ لأن عند تساوي الحركة العود إلى السُّكون أقرب ، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ، ولا تبدل حركة بحركة . وأما القافُ فلأنهم أرادوا إظهار كونها فارسية أو أعجمية ، فأسقطوا منها الكاف التي هي حرف تشبيه ، وعلى لسان العرب في أواخر الكلم للخطاب لو تركت الكاف لاشتبه " ستبرك " بـ " مسجدك " ، إذا لحقت كاف الخطاب بهما ، فلو تركت الكاف قافاً أولاً ، ثم ألحقت الهمزة بأولها ، وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا ؛ لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها ، وذلك كله سهلٌ عليهم ، وبه يحصل الإعجاز ، بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم ، وذكر الاتكاء ؛ لأنه حال الصَّحيح الفارغ القلب المتنعم ، بخلاف المريض والمهموم . قوله تعالى : { وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } مبتدأ وخبر ، وأصله : " دان " مثل " غاز " فأعل كإعلاله . وقرأ عيسى بن عمر : " وجَنِي " بكسر النون . وتوجيهها : أن يكون أمال الفتحة لأجل الألف ، ثم حذف لالتقاء الساكنين ، وأبقى إمالة النون نحو الكسرة وقرىء : " وجِنَى " بكسر الجيم ، وهي لغة . والجنى : ما يقطف من الثِّمار ، وهو " فَعْلٌ " بمعنى " مفعول " كالقَبْضِ والقنص . فصل في المراد بالجنى قال القرطبي : " الجنى " : ما يُجْتنى من الشجر ، تقول : أتانا الشجر بجناة طيبة لكل ما يجتنى ، وثمرة جنيٌّ على " فَعِيل " حين جُني . قوله : " دانٍ " أي : قريب . قال ابن عبَّاس : تدنو الشجرة حين يجتنيها ولي الله إن شاء قائماً ، وإن شاء قاعداً ، وإن شاء مضطجعاً . وقال قتادة : لا يرد يده بعد ، ولا شوك . قال ابن الخطيب : جنة الآخرة مخالفة لجنّة الدنيا من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الثمرة على رءوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتّكىء ، وفي الجنة هو متكىء ، والثمرة تتدلى إليه . ثانيها : أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ، ويتحرك إليها ، وفي الآخرة هي تدنُو إليهم ، وتدور عليهم . وثالثها : أنَّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمر شجرة بعد عن غيرها ، وثمار الجنة كلها تدنو إليهم في وقت واحد ، ومكان واحد . قوله تعالى : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } . اختلف في هذا الضمير . فقيل : يعود على الجنات . فإن قيل : كيف تقدّم تثنيته في قوله : { فِيهِمَا عَيْنَانِ } ، و { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } ثم أتى بضمير جمع ؟ . فالجواب : أن أقلّ الجمع اثنان على قول ، وله شواهد تقدم أكثرها ، أو يقال : عائد إلى الجنَّات المدلول عليها بالجنتين . أو يقول : كل فرد فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة ، وإما أن الجنة تشتمل على مجالس وقصور ومنازل ، فأطلق على كل واحد منها جنة . وقيل : يعود على الفرش . قال الزمخشري : " فِيهِنَّ " أي : في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين ، والفاكهة والفرش والجنى . قال أبو حيان : " وفيه بُعْد " وكأنه قد استحسن الوجه الأول وفيه نظر ؛ لأن الاستعمال أن يقال : على الفراش كذا ، ولا يقال : في الفراش كذا إلا بتكلّف . فلذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول : " فيهن " بحرف الظرفية ؛ ولأن الحقيقة أن يكون الإنسان على الفرش لأنه مستعمل عليها . وأما كونها فيها فلا يقال إلا مجازاً . وقال الفراء : كل موضع في الجنة ، فلذلك صح أن يقال : " فيهن " . والقاصرات : الحابسات الطَّرف : أي يحبسن أعينهن عن غير أزواجهن . ومعناه : قصرن ألحاظهن على أزواجهن . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 4657 - مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ مِنَ الذّرِّ فوقَ الإتبِ مِنْهَا لأثَّرَا @@ و " قاصرات الطّرف " من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفاً ، إذ يقال : قصر طرفه على كذا ، وحذف متعلق القصر للعلم به ، أي : على أزواجهن . وقيل : معناه : قاصرات طرف غيرهن عليهن إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن . ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع ؛ لأنه في معنى المصدر ، من طرفت عيناه تطرف طرفاً ، يقال : ما فيها عين تطرف ، ثم سميت العين بذلك ، فأدى عن الواحد والجمع ، كقولهم : " قَومٌ عَدْل ، وصَوْم " . قاله القرطبي . واعلم أن هذا الترتيب في غاية الحسن ؛ لأنه بيَّن أولاً المَسْكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزّه به وهو البستان ، والأعين الجارية ، ثم ذكر المأكول ، فقال : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ، ثم ذكر موضع الرَّاحة بعد الأكل وهو الفرش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه . قال ابن الخطيب : وقوله : { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } . أي : نساء أو أزواج ، فحذف الموصوف لنكتة وهو أنه - تعالى - لم يذكرهُنّ باسم الجنس ، وهو النساء بل بالصفات ، فقال : { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] ، { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } [ النبأ : 33 ] { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } ، { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ } [ الرحمن : 72 ] ولم يقل : نساء عُرباً ، ولا نساء قاصرات ، لوجهين : إما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكر بأوصافهنّ ، وإما لأنهن لما كملن كأنهن خرجن من جنسهن . وقوله تعالى : { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } يدل على عفّتهن ، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن ، فيحببن أزواجهن حبًّا يشغلهنَّ عن النَّظر إلى غيرهم ، ويدل أيضاً على الحياء ؛ لأن الطرف حركة الجفن ، والحييَّةُ لا تحرك جفنها ، ولا ترفع رأسها . قوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } . هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً لـ " قاصرات " ، لأن إضافتها لفظية ، كقوله تعالى : { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] . وقوله : [ البسيط ] @ 4658 - يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ … @@ وأن يكون حالاً لتخصيص النكرة بالإضافة . واختلف في هذ الحرف والذي بعده عن الكسائي ، فنقل عنه أنه يجيء في ضم أيهما شاء . ونقل عنه الدوري ضم الأول فقط . ونقل عنه أبو الحارث : ضم الثاني فقط ، وهما لغتان . يقال : طَمَثَها يَطْمِثها ويَطْمُثها إذا جامعها ، لما روى أبو إسحاق السبيعي قال : كنت أصلي خلف أصحاب عليٍّ فأسمعهم يقولون : " لم أطْمِثْهُنّ " بالرفع ، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فأسمعهم يقولون : بكسر الميم ، وكان الكسائي يضم إحداهما ، ويكسر الأخرى لئلاّ يخرج عن هذين الأثرين . وأصل " الطَّمْث " : الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر ، ثم أطلق على كل جماع طمث ، وإن لم يكن معه دم . وقيل : " الطّمث " : دم الحيض ودم الجماع ، فيكون أصله من الدم . ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قيل : لم يدمهن بالجماع إنس قبلهم ولا جانّ . وقيل الطمث : المسّ الخالص . وقال الجحدري ، وطلحة بن مصرف : " يطمثهن " بفتح الميم في الحرفين ، وهو شاذ ، إذ ليس عينه ولا لامه حرف حلق . والضمير في " قبلهم " عائد على الأزواج الدال عليهم قوله : { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } ، أو الدَّال عليه " متكئين " . فصل في تحرير معنى الطمث قال القرطبي : " لم يطمثهن " أي : لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد . قال الفراء : والطَّمْث : الافتضاض والنكاح بالتدمية ، طَمَثَها يَطْمِثُها طَمْثاً إذا افتضها . ومنه قيل : امرأة طامث أي : حائض . وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول : طمثها بمعنى وطىء على أيّ الوجوه كان ، إلا أن الفراء أعرف وأشهر . قال الفرزدق : [ الوافر ] @ 4659 - وقَعْنَ إليَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي وهُنَّ أصحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ @@ وقال أبو عمرو : الطَّمث والمس ، وذلك في كل شيء يمسّ ، ويقال للمرتع : ما طمث ذلك المرتع قبله أحد ، وما طمث هذه النَّاقة حبل أي ما مسها عقال وقال المبرد : لم يذللهن إنس ولا جان ، والطمث : التذليل . وقرأ الحسن : " جأن " بالهمزة . فصل في أن الجن يجامعون ويدخلون الجنة كالإنس دلّت هذه الآية على أن الجن تغشى كالإنس ، وتدخل الجنة ، ويكون لهم فيها جنيّات . قال ضَمْرَة : للمؤمنين منهم أزواج من الحُور ، فالإنسيَّات للإنس ، والجنّيات للجن . وقيل : معناه : لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجنّ في الجنَّة من الحور العين من الإنسيّات إنس ، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا . ذكره القشيري . قال القرطبي : قد مضى القول في سورة " النمل " وفي " سبحان " وأنه جائز أن تطأ بنات بني آدم . وقد قال مجاهد : إنه إذا جامع الرجل ، ولم يسم انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه ، فذلك قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } يعلمك أن نساء الدنيا لم يطمثهن الجان . والحور العين قد برئن من ذلك العيب . قال مقاتل قوله : { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } ؛ لأنهن خلقن في الجنة ، فعلى قوله يكونون من حور الجنة . وقال الشعبي : من نساء الدنيا لم يَمْسَسْهن منذ أنشئن خلقٌ ، وهو قول الكلبي ، أي لم يجامعهن في الخلق الذي فيه إنس ولا جان . قوله تعالى : { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } . هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً لـ " قَاصِرَات " ، وأن تكون حالاً منها . ولم يذكر مكي غيره . و " الياقُوت " : جوهر نفيس ، يقال : إن النار لم تؤثر فيه . ولذلك قال الحريري : [ البسيط ] @ 4660 - وطَالَمَا أصلي اليَاقوتُ جَمْر غَضَى ثُمَّ انْطفَى الجَمْرُ والياقوتُ يَاقوتُ @@ أي حاله لم يؤثر بها ، وجه التشبيه كما قال الحسن في صفاء الياقوت ، وبياض المرجان ، وهذا على القول بأنه أبيض . وقيل : الوجه في الصفة بهما لنفاستهما لا للونهما ، ولذلك سموا بمرجانة ودُرَّة وشبه ذلك . قوله تعالى : { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } . قرأ ابن أبي إسحاق : " إلا الحسان " أي : الحور الحسان . قال القرطبي : هَلْ في الكلام على أربعة أوجه : تكون بمعنى " قد " ، كقوله تعالى : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } [ الإنسان : 1 ] ، { وَهَلْ أَتَاكَ } [ طه : 9 ] ، وبمعنى الاستفهام كقوله : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] . وبمعنى الأمر كقوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . وبمعنى " ما " في الجَحْد كقوله تعالى : { فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] ، و { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } . قال ابن الخطيب : في هذه الآية وجوهٌ كثيرة حتى قيل : إنَّ في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول : أحدها : قوله تعالى : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] . ثانيها : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ] . ثالثها : { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } والمشهور منها أقوال : أحدها : قال عكرمة : أي : هل جزاء من قال : لا إله إلاَّ الله ، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة . وقيل : هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة . قاله ابن زيد . " وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } ثم قال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " . " وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، فقال : " يقول الله تعالى : هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلاّ أنْ أُسكنه جنَّتي وحظيرة قدسي برحمتي " " . وقال الصادق : هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان إليه في الأبد . قال ابن الخطيب : والأقرب أنه عام ، فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو أيضاً .