Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 55, Ayat: 62-78)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } . أي : من دون تلك الجنتين المتقدمتين جنَّتان في المنزلة وحسن المنظر ، وهذا على الظاهر من أن الأوليين أفضل من الأخريين ، وقيل : بالعكس ، ورجحه الزمخشري . وقال : قوله : { مُدْهَآمَّتَانِ } مع قوله في الأوليين : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [ الرحمن : 48 ] يدل على أن مرتبة هاتين دونهما ، وكذلك قوله في الأوليين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [ الرحمن : 50 ] مع قوله في هاتين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } ؛ لأن النضخ دون الجري ، وقوله في الأوليين : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } [ الرحمن : 52 ] مع قوله في هاتين : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ } ، وقوله في الأوليين : { فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها ، وعدم إدراك العقول إياها ، مع قوله في هاتين : " رفرفٍ خُضرٍ " دليل عليه . وقال القرطبي : لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما ، فقال في الأوليين : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } [ الرحمن : 52 ] وفي الأخريين : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ولم يقل : من كل فاكهة . وقال في الأوليين : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] وهو الدِّيباج . وفي الأخريين : { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [ الرحمن : 76 ] و " العَبْقَرِي " : الوشْي ، والديباج أعلى من الوشي . والرفرف : كسرُ الخباء ، والفرش المعدة للاتِّكاء عليها أفضل من كسر الخباء . وقال في الأوليين في صفة الحور : { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 58 ] . وفي الأخريين : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } ، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان . وقال في الأوليين : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [ الرحمن : 48 ] . وفي الأخريين : { مُدْهَآمَّتَانِ } أي : خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان ، وفي هذا كله بيان لتفاوت ما بينهما . قال ابن الخطيب : ويمكن أن يجاب الزمخشري بأن الجنتين اللتين من دونهما لذريتهم التي ألحقهم الله - تعالى - بهم ولأتباعهم لا لهم ، وإنما جعلها لهم إنعاماً عليهم ، أي : هاتان الأخريان لكم ، أسكنوا فيهما من تريدون . وقيل : إن المراد بقوله : { وَمِن دُونِهِمَا } أي : دونهما في المكان ، كأنهم في جنتين ، ويطلعون من فوق على جنتين أخريين ، بدليل قوله تعال : { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [ الزمر : 20 ] . وقال ابن عباس : ومن دونهما في الدّرج . وقال ابن زيد : ومن دونهما في الفضل . وقال ابن عباس : والجنات لمن خاف مقام ربه ، فيكون في الأوليين : النخل والشجر وفي الأخريين : الزرع والنبات . وقيل : المراد من قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلة أحدهما للحور العين ، والأخرى للولدان المخلدون ليتميز بها الذكور من الإناث . وقال ابن جريج : هي أربع جناتٍ منها للسابقين المقربين فيها من كل فاكهة زوجان ، وعينان تجريان ، وجنات لأصحاب اليمين فيها فاكهة ونخل ورمان . وقال أبو موسى الأشعري : جنتان منها للسَّابقين ، وجنتان من فضَّة للتابعين . وقال عليه الصلاة والسلام : " جَنَّتانِ من فضَّةٍ ، آنيتُهمَا وما فيهمَا ، وجنَّتانِ مِنْ ذهبٍ آنيتُهُمَا وما فِيهَما ، وما بَيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أن يَنْظرُوا إلى ربِّهِمْ إلاَّ رِدَاءُ الكِبرياءِ على وجْهِهِ في جنَّة عدْنٍ " . وقال الكسائي : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } أي : أمامهما وقبلهما . قال البغوي : " يدلّ عليه قول الضحاك : الجَنَّتان الأوليان من ذهب وفضّة ، والأخريان من ياقُوت وزمرّد ، وهما أفضل من الأوليين " . وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " ، وقال : " ومعنى { ومن دونهما جنتان } أي : دون هذا إلى العرش ، أي : أقرب وأدنى إلى العرش " . وقال مقاتل : الجنَّتان الأوليان : جنة عدن وجنة النعيم ، والأخريان : جنة الفردوس ، وجنة المأوى . قوله تعالى : { مُدْهَآمَّتَانِ } أي : خضراوان . قاله ابن عبَّاس وغيره . وقال مجاهد : مسودتان . والإدْهَام في اللغة : السواد وشدة الخضرة ، جُعلتا مدهامتان لشدة ريِّهما ، وهذا مشاهد بالنظر ، ولذلك قالوا : سواد " العراق " لكثرة شجره وزرعه . ويقال : فرس أدهم وبعير أدهم ، وناقة دهماء ، أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه ، فإن زاد على ذلك واشتد السواد فهو جَوْن ، وادهمَّ الفرس ادهماماً أي صار أدهم . وادْهَامَّ الشيء ادهيماماً : أي : اسوداداً ، والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى السواد ، ويقال للأرض المعمورة : سواد يقال : سواد البلد . وقال عليه الصلاة والسلام : " عَليْكُمْ بالسَّوادِ الأعظَمِ ، ومن كَثَّرَ سوادَ قَوْمٍ فهُو مِنْهُمْ " . قال ابن الخطيب : والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاؤها هو السَّواد ، فإنَّ الأبيض يقبل كل لون ، والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان . قوله تعالى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } . قال ابن عباس : فوَّارتان بالماء والنَّضْخُ - بالخاء المعجمة - أكثر من النَّضْحِ - بالحاء المهملة - لأن النَّضْح بالمهملة : الرَّشُّ والرشحُ ، وبالمعجمة : فورانُ الماء . وقال ابن عباس والحسن ومجاهد : المعنى نضَّاختان بالخير والبركة . وعن ابن مسعود وابن عباس أيضاً وأنس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر . وقال سعيد بن جبير : بأنواع الفواكه والماء . قوله تعالى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } . قال بعض العلماء : ليس الرمان والنخل من الفاكهة ؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، وهذا ظاهر الكلام ، فلو حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكلهما . وقال الجمهور : هما من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النَّخل والرمان لفضلهما على الفاكهة ، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام تفضيلاً له كقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . وقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ } [ البقرة : 238 ] . قال شهاب الدين : وهذا يجوز ؛ لأن " فاكهة " عامًّا ؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات ، وإنما هو مطلق ، ولكن لما كان صادقاً على النخل والرمان قيل فيه ذلك . وقال القرطبي : إنما كررهما ؛ لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البُرِّ عندنا ؛ لأن النخل عامةُ قوتهم ، والرُّمان كالتمرات ، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه ، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثِّمار التي يعجبون بها ، فإنما ذكر الفاكهة ، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما ، وكثرتهما عندهم في " المدينة " إلى " مكّة " إلى ما والاها من أرض " اليمن " ، فأخرجهما في الذكر من الفواكه ، وأفرد الفواكه على حدتها . وقيل : أفردا بالذكر ؛ لأن النخل ثمرة : فاكهة وطعام . والرُّمان : فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكّه . ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رماناً ، أو رطباً لم يحنث . فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها قال ابن الخطيب : قوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } كقوله تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] ؛ لأن الفاكهة أرضية وشجرية ، والأرضية كالبطِّيخ وغيره من الأرضيات المزروعة ، والشجرية كالنَّخْل والرمان وغيرهما من الشجريات ، فقال : { مُدْهَآمَّتَانِ } بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية والفواكه الشجرية ، وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب ؛ لأنهما متقابلان . أحدهما : حلو ، والآخر : حامض . وأحدهما : حار ، والآخر : بارد . وأحدهما : فاكهة وغذاء ، والآخر : فاكهة ودواء . وأحدهما : من فواكه البلاد الباردة ، والآخر : من فواكه البلاد الحارة . وأحدهما : أشجار في غاية الطول والكبر ، والآخر : أشجاره بالضّد . وأحدهما : ما يؤكل منه بارز ، وما لا يؤكل كامن ، فهما كالضدين ، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كقوله تعالى : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [ الرحمن : 17 ] . فصل في الكلام على نخل ورمان الجنة قال ابن عباس : الرمانة في الجنة ملء جلد البعير المُقَتَّب . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجَنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكرمُها ذهب أحمر ، وسعفُها كسوة لأهل الجنة ، فيها ( مقطعاتهم ) وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدِّلاء ، أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزُّبد ، ليس له عجم . وفي رواية : كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وإن ماءها ليجري في غير أخدود ، والعنقود : اثنا عشر ذراعاً . قوله تعالى : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } . في " خيرات " وجهان : أحدهما : أنه جمع " خَيْرة " من الخير ، بزنة " فعْلة " - بسكون العين - يقال : " امرأة خَيْرة وأخرى شَرّة " . والثاني : أنه جمع " خيرة " المخفف من " خَيِّرة " ، ويدل على ذلك قراءة ابن مقسم والنهدي ، وبكر بن حبيب : " خيّرات " بتشديد الياء . قال القرطبي : " وهي قراءة قتادة ، وابن السميفع ، وأبي رجاء العطاردي " . وقرأ أبو عمرو : " خَيَرَات " بفتح الياء ، جمع " خَيَرة " ، وهي شاذة ؛ لأن العين معلة ، إلا أن بني " هُذَيل " تعامله معاملة الصحيح ، فيقولون : " حورات وبيضات " . وأنشد : [ الطويل ] @ 4661 - أخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأوِّبٌ رَفِيقٌ بِمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ @@ فصل في تفسير الآية قال المفسرون : " الخيرات الحسان " يعني النِّساء ، الواحدة " خيرة " على معنى " ذوات خير " . وقيل : " خيرات " بمعنى " خيِّرات " ، فخفف كـ " هَيِّن وليِّن " . روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : " قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن قوله : " خَيْراتٌ حِسَان " قال : " خَيراتُ الأخلاقِ حسانُ الوُجوهِ " " . وقال أبو صالح : لأنَّهُنَّ عَذَارى أبْكَارٌ . وقال الحكيم الترمذي : فـ " الخيرات " ، ما اختارهنّ الله فأبدع خلقهنّ باختياره ، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين ، ثم قال : " حِسَانٌ " فوصفهن بالحسن ؛ فإذا وصف الله خالق الحسن شباباً بالحسن ، فانظر ما هناك . وقال ابن الخطيب : " في باطنهن الخير ، وفي ظاهرهنّ الحسن " . قوله تعالى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } . معنى " مقصورات " : أي : محبوسات ومنه القصر ؛ لأنه يحبس من فيه . ومنه قول النحاة : " المقصور " ، لأنه حبس عن المد ، وحبس عن الإعراب أو حبس الإعراب فيه ، والنساء تمدح بملازمتهن البيوت كما قال قيس بن الأسلت : [ الطويل ] @ 4662 - وتَكْسَلُ عَنْ جِيرَانِهَا فَيَزُرنهَا وتغْفُلُ عَنْ أبْيَاتِهِنَّ فتُعْذَرُ @@ ويقال : امرأة مقصورة وقصيرة ، وقصورة بمعنى واحد . قال كثير عزة فيه : [ الطويل ] @ 4663 - وأنْتِ الَّتِي حبَّبْتِ كُلَّ قصيرةٍ إليَّ ، ولَمْ تَعْلَمْ بذاكَ القَصَائِرُ عَنَيْتُ قِصاراتِ الحِجَالِ ولمْ أردْ قِصَارَ الخُطَا ، شرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ @@ و " الخيام " : جمع " خَيْمة " ، وهي تكون من ثُمام وسائر الحشيش ، فإن كانت من شعر ، فلا يقال لها : خيمة ، بل بيت . قال جرير : [ الوافر ] @ 4664 - مَتَى كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ سُقيتِ الغَيْثَ أيَّتُهَا الخِيَامُ @@ فصل في أن جمال الحور يفوق الآدميات اختلفوا أيهما أكثر حسناً وأتم جمالاً الحور أو الآدميات . فقيل : الحور لما ذكر من صفتهن في القرآن والسُّنة ، " ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنائز : " وأبْدِلْ لَهُ دَاراً خَيْراً مِنْ داره ، وأبْدِلْ لَهُ زَوْجاً خَيْراً من زَوْجِه " " . وقيل : الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف ، روي ذلك مرفوعاً . وقيل : إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النَّبيِّين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة . قاله الحسن البصري . والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، إنما هن مخلوقات في الجنة ؛ لأن الله تعالى قال : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات . فصل في جمال الحور العين " الحور " : جمع حوراء وهي الشديدة بياض العين مع سوادها . و " المقصورات " : المحبوسات المستورات في الخيام ، وهي الحجال ، لسن بالطَّوافات في الطرق ، قاله ابن عباس . وقال عمر رضي الله عنه : " الخيمة " : درّة مجوفة . وقاله ابن عباس . وقال : وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب . قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في قوله تعالى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } : بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش ، فخلقن من قطرات الرحمة ، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب ، حتى إذا دخل وليّ الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها ، فهي مقصُورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين . وقال مجاهد : قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبتغين بدلاً . وقال عليه الصلاة والسلام : " لوْ أنَّ امْرأةً مِنْ نساءِ أهْلِ الجنَّة اطَّلعَتْ على أهْلِ الأرْضِ لأضاءَتْ ما بينَهُما ، ولمَلأتْ ما بَيْنهُمَا ريحاً " . وتقدَّم الكلام على قوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } . قوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } . " الرفرف " : جمع رفرفة فهو اسم جنس . وقيل : بل هو اسم جمع . نقله مكي ، وهو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب وقال الجوهري : " والرفرف " : ثياب خضر تتخذ منها المحابس ، الواحدة : رَفرفة . واشتقاقه : من رف الطائر إذا ارتفع في الهواء ، ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطَّيران ، ورفرف السحاب هبوبه . ويدلّ على كونه جمعاً وصفه بالجمع . وقال الراغب : رفيف الشجر : انتشار أغصانه ، ورفيف الطائر نشر جناحيه ، رَفَّ يَرِفُّ - بالكسر - ورفَّ فرخه يرُفُّه - بالضم - يفقده ، ثم استعير للفقدِ ، ومنه : " ما له حاف ولا رافّ " ، أي : من يحفه ويتفقده ، والرفرف : المنتشر من الأوراق . وقوله : { عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } ضرب من الثياب مشبه بالرياض . وقيل : الرفرف طرف الفُسْطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد . وذكر الحسن : أنه البُسُط . وقال ابن جبير ، وابن عباس أيضاً : رياض الجنة من رفّ النبت إذا نعم وحسن . وقال ابن عيينة : هي الزَّرابي . وقال ابن كيسان : هي المرافق . وقال أبو عبيدة : هي حاشية الثوب . وقيل : الفرش المرتفعة . وقيل : كل ثوب عريض عند العرب ، فهو رفرف . قال القرطبي : " وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : فرُفِعَ الرَّفْرَفُ فَرأيْنَا وَجْهَهُ كأنَّهُ ورقَةٌ تُخَشْخِشُ " . أي : رفع طرف الفسطاط . وقيل : أصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضًّا نضيراً . قال القتبي : يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز : رفّ يرفّ رفيفاً . حكاه الهروي . وقد قيل : إن الرَّفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به ، وأهوى به كالمرجاح يميناً وشمالاً ورفعاً وخفضاً يتلذّذ به مع أنيسه ، قاله الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " . قال : فالرفرف أعظم خطراً من الفرش ، فذكر في الأوليين { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] . وقال هنا : { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } . فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الوليّ رفرف به ، أي طار به حيثما يريد كالمرجاح . ويروى في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى ، جاء الرفرف فتناوله من جبريل ، وطار به إلى سند العرش ، فذكر أنه طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربّي ، ثم لما كان الانصراف تناوله ، فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به حتى آواه إلى جبريل - عليه السلام - . فـ " الرفرف " : خادم من الخدم بين يدي الله - تعالى - له خواصّ الأمور في محل الدنو والقرب كما أن البراق دابة تركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه ، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدَّانيتين هو مُتَّكأهما وفرشهما ، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه . فصل في الكلام على قوله : خضر قوله تعالى : " خُضْرٍ " . نعت هنا بـ " خضر " ؛ لأن اسم الجنس ينعت بالجمع كقوله : { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] وحسن جمعه هنا جمع " حِسَان " . وقرأ العامة : " رفرف " وقرأ عثمان بن عفان ونصر بن عاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم : " رفَارِفَ خُضْرٍ " بالجمع وسكون الضاد . وعنهم أيضاً " خُضُر " بضم الضاد ، وهي إتباع للخاء . وقيل : هي لغة في جمع " أفْعَل " الصفة . قال القرطبي : وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { متَّكئين على رفارف خضر وعباقر حسان } . ذكره الثعلبي ، وضم الضاد من " خُضُر " قليل . وأنشد لـ " طرفة " : [ الرمل ] @ 4665 - أيُّهَا الفِتْيانُ في مَجْلِسنَا جَرِّدُوا مِنهَا وِرَاداً وشُقُرْ @@ وقال آخر : [ البسيط ] @ 4666 - ومَا انتميْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُفٍ ولا لِئَامٍ غَداةَ الرَّوْعِ أوْزاعِ @@ وقرءوا : " وعَباقِريَّ " - بكسر القاف وتشديد الياء - مفتوحة على منع الصرف ، وهي مشكلة . إذ لا مانع من تنوين ياء النَّسب ، وكأن هذا القارىء توهم كونها في " مفاعل " تمنع من الصرف . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " عباقريّ " منوناً ابن خالويه . وروي عن عاصم : " رَفَارِف " بالصَّرف . وقد يقال في من منع " عَبَاقِري " : إنه لما جاور " رَفارِف " الممتنع امتنع مشاكلة . وفي من صرف " رَفارف " : إنه لما جاور " عباقِريًّا " المنصرف صرفه للتناسب ، كقوله : { سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً } [ الإنسان : 4 ] . كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويًّا : " خُضَّار " كـ " ضُرَّاب " بالتشديد ، و " أفْعَل ، وفُعَّال " لا يعرب . قوله : " وعَبْقريّ حِسَان " . الجمهور على أن " عبقري " منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنها بلد الجن . قال ابن الأنباري : الأصل فيه أن " عَبْقَرَ " قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل . وقال الخليل : كل منافس فاضل فاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر - رضي الله عنه - : " فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه " . وقال أبو عمرو بن العلاء ، وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : " فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه " ؛ فقال : رئيس قوم وجليلهم . وقال زهير : [ الطويل ] @ 4667 - بِخَيْلٍ عليْهَا جنَّةٌ عبْقريَّةٌ جَدِيرُونَ يوماً أن ينَالُوا فَيستعْلُوا @@ وقال الجوهري : " العَبْقَري " موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن ؛ قال لبيد : [ الطويل ] @ 4668 - … كُهُولٌ وشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ @@ ثم نسبوا إليها كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته ، فقالوا : " عبقري " وهو واحد وجمع . وفي الحديث : " أنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ على عَبْقَرِيّ " وهو البُسُط التي فيها الأصباغ ، والنقوش ، والمراد به في الآية : قيل : البسط التي فيها الصّور والتماثيل وقيل : الزَّرابي . وقيل : الطَّنافس . وقيل : الدِّيباج الثَّخين . " عَبْقَرِي " جمع عبقرية ، فيكون اسم جنس كما تقدم في " رفرف " . وقيل : هو واحد دالّ على الجمع ، ولذلك وصف بـ " حِسَان " . قال القرطبي : وقرأ بعضهم : " عَباقِريٌّ حِسَان " وهو خطأ ؛ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته . وقال قطرب : ليس بمنسوب ، وهو مثل : " كُرسيِّ وكَراسِيّ ، وبُختيِّ وبخاتِي " . قوله : { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } . قرأ ابن عامر : " ذُو الجلالِ " بالواو ، جعله تابعاً للاسم ، وكذا هي مرسومة في مصاحف الشَّاميين . قال القرطبي : " وذلك يقوي كون الاسم هو المسمّى " . والباقون : بالياء ، صفة للربّ ، فإنه هو الموصوف بذلك ، وأجمعوا على أن الواو في الأولى إلا من استثنى فيما تقدم . فصل في تحرير معنى تبارك " تبارك " تفاعل من " البركة " . قال ابن الخطيب : وأصل التَّبارك من التَّبرك ، وهو الدوام والثبات ، ومنه برك البعير وبركة الماء ، فإن الماء يكون فيها دائماً . والمعنى : دام اسمه وثبت ، أو دام الخير عنده ؛ لأن البركة وإن كانت من الثبات ، لكنها تستعمل في الخير ، أو يكون معناه : علا وارتفع شأنه . فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها قال القرطبي : كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السُّورة ، فقال : " الرحمن " فافتتح بهذا الاسم ، فوصف خلق الإنسان والجن ، وخلق السموات والأرض وصنعه ، وأنه { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ووصف تدبيره فيهم ، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها وصفة النار ، ثم ختمها بصفة الجنان ، ثم قال في آخر السورة : { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي : هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة ، كأنه يعلمهم أن هذا كله فرج لكم من رحمتي ، فمن رحمتي خلقتكم ، وخلقت لكم السماء والأرض ، والخليقة ، والخلق ، والجنة والنَّار ، فهذا كله لكم من اسم الرحمن ، فمدح اسمه فقال : { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ } ، ثم قال : { ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي : جليل في ذاته كريم في أفعاله . روى الثعلبي عن علي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لِكُلِّ شَيءٍ عروسٌ ، وعرُوسُ القرآنِ سُورةُ الرَّحمنِ ، جل ذكرهُ " . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورة الرَّحْمَنِ رحِمَ الله ضعفهُ ، وأدَّى شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عليه " . والله - سبحانه وتعالى - الموفق الهادي إلى الخيرات ، اللهم ارحمنا برحمتك .