Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 63-67)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { أَفَرَأَيْتُم } وما بعده تقدم نظيره ، وهذه حجة أخرى ، أي : أخبروني عما تحرثون من أرضكم ، فتطرحون فيها البَذْر ، أأنتُم تُنشئُونه ، وتجعلونه زرعاً ، فيكون فيه السُّنبل والحب ، أم نحن نفعل ذلك وإنما منكم البِذْر وشقُّ الأرض ؟ فإذا أقررتم بأن إخراج السُّنبلة من الحبَّة ليس إليكم ، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم ؟ . وأضاف الحَرْث إليهم ، والزَّرع إليه تعالى ؛ لأنَّ الحرث فعلهم ، ويجري على اختيارهم ، والزرع من فعل الله - تعالى - وينبت على اختياره لا على اختيارهم . وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يَقُولنَّ أحدُكمْ : زَرعتُ ، وليقُلْ حرثتُ ، فإنَّ الزَّارعَ هُوَ اللَّهُ " . قال أبو هريرة : ألم تسمعوا قول الله تعالى : { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } . قال القرطبي : " والمستحبّ لكل من زرع أن يقرأ بعد الاستعاذة : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } الآية ، ثم تقول : بل الله هو الزارع ، والمنبت والمبلغ ، اللهم صل على محمد ، وارزقنا ثمره ، وجَنِّبْنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشَّاكرين ، ويقال : إنَّ هذا القول أمان لذلك الزَّرع من جميع الآفات : الدُّود والجراد وغير ذلك ، سمعناه من ثقة وجرَّبناه فوجدناه كذلك " . فإن قيل : إذا كان الزَّارع هو الله ، فكيف قال تعالى : { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } [ الفتح : 29 ] . وقال عليه الصلاة والسلام : " الزَّرْعُ للزُّراع " فالجواب : أن الحرث أوائل الزَّرع ، والزرع أواخر الحرث ، فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر لاتِّصاله به . ومعنى : " أأنْتُمْ تزرَعُونَهُ " ، تجعلونه ، وقد يقال : فلان زَرَّاع كما يقال : حرَّاث أي : يفعل ما يؤول إلى أن يصير زَرْعاً ، وقد يطلق لفظ الزَّرْع على بَذْر الأرض وتكريبها تجوزاً . قال القرطبي : " وهذا نهي إرشاد وأدب ، لا حظر وإيجاب " . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يَقُولنَّ أحدُكم : عَبْدِي وأمَتِي ، وليقُلْ : غُلامِي وجَاريَتِي وفَتَايَ وفَتَاتِي " . قوله : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } . أتى هنا بجواب " لو " مقروناً بـ " اللام " ، وهو الأكثر ؛ لأنه مثبت ، وحذف في قوله : { جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] ؛ لأن المنّة بالمأكول أعظم منها بالمشروب . قاله الزمخشري . وهذا منقوض بقوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا } [ يس : 66 ] و { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } [ يس : 67 ] ، وذلك أن أمر الطَّمس أهون من أمر المسخ ، وأدخل فيهما " اللام " . وأجاب الزمخشري بجواب آخر فقال : { ولو نشاء لجعلناه حطاماً } كان أقرب الذكر ، فاستغنى باللام فيه عن ذكرها ثانياً . قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ؛ لأن قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] مع قوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } [ يس : 67 ] أقرب من قوله : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } ، و { جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] اللَّهُم إلاَّ أن تقول هناك : أحدهما قريب من الآخر ذكراً لا معنى ؛ لأن الطَّمْس لا يلزمه المَسْخ ولا بالعكس ، وأما المأكول يكون معه المشرُوب في الدهر فالأمران متقاربان لفظاً ومعنى . فصل في الكلام على هذه الآية قال الماوردي : هذه الآية تتضمن أمرين : أحدهما : الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم . الثاني : البرهان الموجب للاعتبار ؛ لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره ، وانتقاله إلى استواء حاله من العفنِ والتَّتريب حتى صار زرعاً أخضر ، ثم قوي مشتدًّا أضعاف ما كان عليه ، فهو بإعادة من أمات أحق عليه وأقدر ، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السَّليمة ، ثم قال : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أي : متكسِّراً ، يعني : الزَّرع والحُطَام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء ، فنبَّه بذلك على أمرين : أحدهما : ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه . الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم كما أنه يجعل الزَّرع حُطاماً إذا شاء ، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتَّعظوا فينزجروا . قوله : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } . قرأ العامة : بفتح الظَّاء ، بلام واحدة وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في " طه " . وأبو حيوة وأبو بكر في رواية : بكسر الظاء . وعبد الله الجحدري : " فظَلِلتُمْ " على الأصل بلامين ، أولاهما مكسورة . وروي عن الجحدري : فتحها ، وهي لغة أيضاً . والعامة : " تَفَكَّهُونَ " بالهاء . ومعناه : تَنْدَمُون ، وحقيقته : تلقون الفكاهة من أنفسكم ، ( ولا تلقى ) الفكاهة إلاَّ من الحزن ، فهو من باب " تحَرَّج وتأثّم وتحوب " . وقيل : " تفكّهون " . تتعجبون بذهابها ما نزل بكم في زرعكم . قاله عطاء والكلبي ومقاتل . وقيل : تتندمون مما حلّ بكم . قاله الحسن وقتادة وغيرهما . وقيل : تلاومُون . وقيل : تتفجَّعون ، وهذا تفسير باللازم . وقرأ أبو حزام العكلي : " تَفَكَّنُونَ " بالنون ، أي : تندَّمون . قال ابن خالويه : " تَفَكَّه " تعجَّب ، و " تَفَكَّن " تندَّم . وفي الحديث : " مثلُ العالم كمثل الحمَّة ، يأتيها البُعدَاءُ ويترُكُهَا القُربَاءُ ، فَبَيْنَا هُم إذ غَارَ ماؤهَا فانتفع به قومٌ ، وبَقِي قومٌ يتفكَّنُون " ، أي : يتندَّمُون . قال الفرَّاء : والنون ، لغة عكل . وفي الصحاح : " التَّفَكُّن " التندُّم على ما فات . وقيل : التفكُّه : التكلُّم فيما لا يعنيك . ومنه قيل للمزاح : فُكاهة بالضَّم . فأما الفَكَاهة - بالفتح - فمصدر " فَكِهَ الرَّجل " بالكسر ، فهو فَكِهٌ إذا كان طيّب النفس مزَّاحاً . قوله : " إنا لمغرمون " . قرأ أبو بكر : " أئِنَّا " بالاستفهام ، وهو على أصله في تحقيق الهمزتين ، وعدم إدخال ألف بينهما . والباقون : بهمزة واحدة على الخبر . وقيل : هذه الجملة قول مقدر على كلتا القراءتين ، وذلك في محل نصب على الحال ، تقديره : فظلتم تفكهون قائلين ، أو تقولون : إنا لمغرمون ؛ أي : لمُلزمُون غرامة ما أنفقنا ، أو مُهلكُونَ لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك . قاله الزمخشري . ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قوله : [ الخفيف ] @ 4697 - إنْ يُعَذِّبْ يَكُنْ غَرَاماً وإن يُعْـ ـطِ جَزيلاً فإنَّهُ لا يُبَالِي @@ قال ابن عبَّاس وقتادة : الغرام : العذاب . ومنه قول ابن المُحلَّم : [ الطويل ] @ 4698 - وثِقْتُ بأنَّ الحِلْمَ منِّي سَجيَّةٌ وأنَّ فُؤادِي مُبْتَلٌ بك مُغْرمُ @@ وقال مجاهد وعكرمة : لمولع بنا . يقال : أغرم فلان بفلانة أي أولع بها ، ومنه الغرام ، وهو الشر اللازم . وقال مجاهد أيضاً : لملقون شرًّا . وقال النحاس : " لمُغْرمُون " مأخوذون من الغرام ، وهو الهلاك . وقال الضحاك وابن كيسان : هو من الغرم . و " المُغْرَم " : الذي ذهب ماله بغير عوضٍ ، أي : غرمنا الحبَّ الذي بذرناه . وقال مرة الهمداني : مُحَاسَبُون . قوله : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } . أي : حرمنا ما طلبنا من الريع ، والمحروم المحدود الممنوع من الرِّزق ، والمحروم ضد المرزوق . قاله قتادة . وعن أنس " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بأرض الأنصار ، فقال : " ما يمنَعُكمُ الحَرْث " ؟ قالوا : الجُدوبة ، فقال : " لا تَفْعَلُوا ، فإنَّ الله - تعالى - يقولُ : أنَا الزَّارعُ ، إن شِئْتُ زرعْتُ بالماءِ ، وإن شِئْتُ زرعْتُ بالرِّيحِ ، وإن شِئْتُ زرعتْ بالبَذْرِ " ، ثم تلا : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } " . قال القرطبي : " وفي هذا الحديث والذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزَّارع في أسماء الله - تعالى - " وأباه جمهور العلماء .