Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 27-29)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم } ، أي : أتبعنا على آثارهم ، أي : على آثار الذُّرية . وقيل : على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس ، وغيرهم ، { وقفّينا بعيسى ابن مريم } ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه . { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } : وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران . وقراءة الحسن : بفتح الهمزة . قال الزمخشري : أمره أهون من أمر البَرْطِيل والسَّكينة فيمن رواها بفتح " الفاء " ؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب . وقال ابن جنّي : قراءة الحسن - بفتح الهمزة - مثال مبالغة ، لا نظير له ؛ لأنه " أفعيل " وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام . وقال ابن الخطيب : وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع ؛ وله وجهان : أحدهما : أنه شاذ ، كما حكي عن بعضهم في البَرْطِيل . والثاني : أنه ظن الإنجيل أعجميًّا ، فحرف مثاله ؛ تنبيهاً على كونه أعجمياً . قوله : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } على دينه يعني : الحواريين وأتباعهم { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } . قرأ الحسن : " رَآفة " بزنة " فَعَالة " . قال مقاتل : المراد من الرَّأفة والرحمة : المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم ، وحرّفوا الكلم عن مواضعه . والرَّأفة : [ اللِّين . والرحمة : ] الشَّفقةُ . وقيل : الرأفة تخفيف الكُل ، والرحمة تحمل الثقل . وقيل : الرَّأفة : أشد من الرحمة وتم الكلام . فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية . قال القاضي : المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب . والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل ، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا ؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان ؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع ، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً ، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض . قوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } . في انتصابها وجهان : أحدهما : أنها معطوفة على " رأفة ورحمة " . و " جعل " إما بمعنى " خَلَق " ، وإما بمعنى " صيّر " ، و " ابتدعوها " على هذا صفة لـ " رَهْبَانية " ، وإنما خصّت بذكر الابتداع ؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال البدن ، وللإنسان فيها تكسُّب ، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه ، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه . وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها . وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف عليها ، و " ابتدعوها " نعتٌ له ، والمعنى : فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ، ولهذا قال : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } . والوجه الثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر . وقال أبو علي : " ابتدعوها رهبانية " ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وإليه نحا الفارسي والزمخشري ، وأبو البقاء وجماعة . إلاَّ أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة ، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له ، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه ، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه . ورد عليهم أبو حيَّان هذا الإعراب من حيث الصناعة ، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألاَّ يصلح للرفع بالابتداء ، و " رَهْبَانية " نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، فلا يصلح نصبها على الاشتغال . قال شهاب الدين : وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك ، ويدل عليه قراءة من قرأ : { سُورَةً أَنزَلْنَاهَا } [ النور : 1 ] بالنصب على الاشتغال ، كما تقدم تحقيقه ، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف ، ومن ذلك قول الشَّاعر : [ البسيط ] @ 4726 - عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا ؟ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 4727 - تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا مُحَيَّاكِ ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ @@ ذكر ذلك ابن مالك . و " الرَّهْبَانية " : منسوبة إلى " الرَّهْبَان " ، وهو " فَعْلاَن " من رهب ، كقولهم : الخَشْيَان من خشي ، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة " المائدة " . وقرىء بضم الراء . قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى " الرُّهْبَان " ، وهو جمع : راهب ، كـ " راكب ، ورُكْبان " . قال أبو حيان : والأولى أن يكون منسوباً إلى " رَهْبَان " - يعني بالفتح - وغيِّر ؛ لأنَّ النَّسب باب تغيير ، ولو كان منسوباً لـ " رُهْبَان " الجمع لردّ إلى مفرده إلاَّ إن قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه كـ " الأنصار " . فصل في المراد بالرهبانية والمراد من الرهبانية : ترهُّبُهم في الجبال فارِّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة ، واللِّباس الخَشِن ، والاعتزال عن النساء ، والتعبُّد في الغيرانِ والكهوف . روى ابن عباس أن في أيام الفترةِ بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - غيَّر الملوك التوراة والإنجيل ، فراح نفرٌ ، وبقي نفر قليل ، فترهبوا وتبتلوا . قال الضحاك : إن ملوكاً بعد عيسى - عليه الصلاة والسلام - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقيَ على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعُنَا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصَّوامع . وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفضُ النساء ، واتخاذ الصَّوامع . وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبرارِي والجبال . قوله تعالى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } . صفة لـ " رهبانية " ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك . قال ابن زيد : معناه ما فرضناها عليهم ، ولا أمرناهم بها . وقوله : { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } . فيه أوجه : أحدها : أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله ، والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله ، فيكون " كتب " بمعنى " قضى " ، فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله ، وهذا قول مجاهد . والثاني : أنه منقطع . قال الزمخشري ولم يذكر غيره : " أي : ولكنهم ابتدعوها " . وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة ، قالوا : معناه لم يفرضها عليهم ، ولكنهم ابتدعوها . الثالث : أنه بدل من الضمير المنصوب في " كَتَبْنَاها " قاله مكي . وهو مشكل ، كيف يكون بدلاً وليس هو الأول لا بعضه ، ولا مشتملاً عليه . وقد يقال : إنه بدل اشتمال ؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله ، ويصير نظير قولك : الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في " أحببتها " بدل اشتمال ، وهذا نهاية التمحُّل لصحة هذا القول . والضمير المرفوع في " رَعَوْهَا " عائد على من تقدم . والمعنى : أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها ، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم . وقيل : يعود على الملوك الذين حاربوهم . وقيل على أخلافهم و " حقَّ " نصبه على المصدر . قال القرطبي فيها : وقيل : " إلاَّ ابتغاء " استثناء منقطع ، والتقدير : " ما كتبناها عليهم ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله " . { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } . أي : ما قاموا بها حقَّ القيام ، بل ضمُّوا إليها التثليث والاتحاد ، وأقام الناس منهم على دين عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى أدركوا نبينا محمداً - عليه الصلاة والسلام - فآمنوا به ، فهو قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } . وقيل : إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلاَّ ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه ، وهو طلب الدنيا والرِّياسة والسُّمعة . وقيل : معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها ، فيكون ذلك ذمًّا لهم لتركهم الواجب . وقيل : إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به . فصل فيمن أحدث بدعة دلت هذه الآية أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية . وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديُّ بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أحْدَثْتُم قيامَ رمضانَ ولمْ يُكتَبْ عليْكمْ ، إنَّما كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ ، فدُومُوا على القِيامِ إذْ فعلتُمُوهُ ولا تَتْرُكُوهُ ، فإنَّ ناساً مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ابْتدَعُوا بِدَعاً ولَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عليهم ابتغَوْا بِهَا رضْوانَ اللَّهِ فَما رَعَوْهَا حَقَّ رعايتِهَا فَعَاتَبَهُم الله عليها بِترْكِهَا " ، فقال : { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } الآية . فصل دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مَنْدُوبٌ إليه عند فساد الزمان ، وتغير الأحوال والإخوان . قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ } . أي : آمنوا بموسى وعيسى { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَآمِنُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } ، أي : مثلين من الأجْر على إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا نظير قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] . و " الكِفْلُ " : الحظّ والنصيب . وقد تقدم ، وهو في الأصل كساء يكتفلُ به الراكب يحفظه من السقوط . قاله ابن جرير . وقال الأزهري : اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط ، والمعنى : يؤتكم نَصِيبيْنِ يحفظانكم من هلكةِ المعاصي كما يحفظ الكفلُ الراكب . وقال أبو موسى الأشعري : " كِفْلَيْن " ضِعْفَيْن ، بلسان " الحبشة " . وقال ابن زيد : " كِفْلين " أجر الدنيا والآخرة . وقيل : لما نزلت : { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [ القصص : 54 ] افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية . فإن قيل : إنه - تعالى - لما أعطاهم كِفْلَيْنِ ، وأعطى المؤمن كفلاً واحداً كان حالهم أعظم . فالجواب : أنه لا يبعد أن يكون النَّصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين . روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثَلاثَةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ : رجُلٌ كانَتْ لَهُ جَاريةٌ فأدَّبهَا وأحْسَنَ أدبهَا ، ثُمَّ أعتَقَهَا وتَزوَّجَهَا ، ورجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ ، وآمَنَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعبدٌ أحْسَنَ عبادةَ اللَّهِ ونَصَحَ سَيِّدَهُ " . قوله : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً } . قال مجاهد : أي : بياناً وهدى . وقال ابن عباس : هو القرآن . وقيل : ضياء يمشون به في الآخرة على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة ، وهو النور المذكور في قوله تعالى { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] . وقيل : تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام ، فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها ، وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى ، لا الرِّياسة الحقيقية في الدين ثم قال : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ، أي : ما أسلفتم من المعاصي ، { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } . هذه " اللام " متعلقة بمعنى الجملة الطَّلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا الله ، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم . وفي الآية هذه وجهان : أشهرهما عند النحاة والمفسرين : أنها مزيدة كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] . على خلاف في هاتين الآيتين . والتقدير : أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضلِ الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله ، وهذا واضح بيِّن ، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعاً ذائعاً . والثاني : أنها غير مزيدة ، والمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب [ عجز المؤمنين . نقل ذلك أبو البقاء ، وهذا لفظه . وكان قال قبل ذلك : " لا " زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب ] عجزهم . وهذا غير مستقيم ؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ من فضل الله ، وكيف يعمل هذا القائل بقوله : { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي ، فيصير التقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أنَّ الفضل بيد الله ، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة ، فلا جرم كان قولاً مطرحاً . وقرأ العامة : " لئلاَّ " بكسر لام كي ، وبعدها همزة مفتوحة مخففة . وورش يبدلها ياء محضة . وهو تخفيف قياسي نحو : " مِيَة وفِيَة " في " مِئَة وفِئَة " ويدل على زيادتها قراءة عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، والجحدري ، وعبد الله بن سلمة : " ليعلم " بإسقاطها . وقراءة حطَّان بن عبد الله : " لأن يعلم " بإظهار " أن " . والجحدري أيضاً والحسن : " ليعلم " . وأصلها كالتي قبلها " لأن يعلم " فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة ؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش " ليلاّ " ثم أدغم النون في الياء . قال أبو حيان : " بغير غُنَّةٍ كقراءة خلف " أن يضرب " بغير غُنَّةٍ " . انتهى . فصار اللفظ " ليعلم " . وقوله " بغير غنة " ، ليس عدم الغنة شرطاً في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق ، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة . وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد : " ليلا يعلم " بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة ، ورفع الفعل بعدها . وتخريجها : على أن أصلها " لأن لا " على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة ؛ وأنشدوا : @ 4728 - أرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا … … @@ بفتح " اللام " ، وحذف الهمزة اعتباطاً ، وأدغمت النون في " اللام " فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به ، وأبدل الوسط ياء تخفيفاً ، فصار اللفظ " ليلا " كما ترى ، ورفع الفعل ؛ لأن " أنْ " هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها على ما تقرر ضمير الشَّأن ، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النَّفْي . وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب : " ليلا " بلام مكسورة ، وياء ساكنة ، ورفع الفعل بعدها ، وهي كالَّتي قبلها في التخريج ، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة . وروي عن ابن عباس : " لكي يعلم " و " كي يعلم " . وعن عبد الله : " لكيلا " . وهذه كلها مخالفة للسَّواد الأعظم ، ولسواد المصحف . وقراءة العامة : { أن لا يقدرون } بثبوت النون ، على أن " أنْ " هي المخففة . وعبد الله : بحذفها على أن " أن " هي الناصبة . وهذا شاذّ جداً ؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة . وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } الظاهر أنه مستأنف . وقيل : هو خبر ثانٍ عن الفضل . وقيل : هو الخبر وحده ، والجار قبله حال ، وهي حال لازمة ؛ لأن كونه بيدِ الله لا ينتقل ألبتة . فصل في اتصال الآية بما قبلها نقل ابن الخطيب عن الواحدي أنه قال : هذه الآية مشكلة ، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها . واعلم أن أكثر المفسرين على أن " لا " هاهنا صلة زائدة ، والتقدير : ليعلم أهل الكتاب . وقال أبو مسلم وجماعة : على أن " لا " ليست زائدة ، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه . أما على القول بزيادتها ، فاعلم أنه لا بُدَّ هاهنا من تقديم مقدمة ، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون : إن الوحْيَ والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلاَّ لنا ، وإنّ الله خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين . إذا عرفت هذا ، فنقول : إن الله - تعالى - لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآيةِ ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، فقال : إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فَضْل الله لقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً . وأما القول بأن " لا " غير زائدة ، فاعلم أن الضمير في قوله : " لا يَقْدرون " عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - والتقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه ، فقد علموا أنَّهم يقدرون عليه ثم قال : { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } فيصير التقدير : إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله . واعلم أنَّ هذا القول ليس فيه إلاَّ أنا أضمرنا فيه زيادة ، فقلنا في قوله : { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } تقديره : وليعتقدوا أنَّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود ، ومن المعلوم أنَّ الإضمار أولى من الحذف ؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً . وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهرهُ موهماً للباطل ، فعلمنا أن هذا القول أولى . فصل في نزول هذه الآية قال قتادةُ : حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت : لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله . وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منّا نبيٌّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت : " لئلا يعلم " ، أي : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني : أنهم لا يقدرون ، كقوله : { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } [ طه : 89 ] والمراد من فضل الله . قيل : الإسلام وقيل : الثواب . وقال الكلبي : من رزق الله . وقيل : نِعَمُ الله التي لا تُحْصَى . { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } ليس بأيديهم ، فيصرفوا النُّبُوَّة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يُحِبُّون . وقيل : إن الفضل بيد الله ، أي : بقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } . روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول : " إنَّما بَقَاؤكُمْ فِيْمَا سَلَفَ قَبْلكُمْ مِنَ الأممِ كما بَيْنَ صلاةِ العصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ ، أعْطِيَ أهْلُ التَّوراةِ التَّوْراةَ فَعمِلُوا بِهَا حتَّى انْتَصفَ النَّهارُ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطي أهْلُ الإنجيلِ الإنجيلَ فعمِلُوا بِهِ حتَّى صلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطيتُمُ القُرْآنَ فعَمِلْتُمْ بِهِ حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأعطيتُمْ قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ ، قال أهْلُ التَّوْرَاةِ : رَبَّنَا هؤلاءِ أقَلُّ عملاً وأكْثَرُ أجْراً ، قال : هَلْ ظُلِمْتُمْ مِنْ أجْرِكُمْ شَيْئاً ؟ قَالُوا : لا ، قال : فذلِك فَضْلُ اللَّهِ أوتيهِ مَنْ أشَاءُ " . وفي رواية : " فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى وقالُوا : رَبَّنَا " الحديث .