Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 22-26)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { مِن مُّصِيبَةٍ } فاعل " أصاب " ، و " من " مزيدة لوجود الشرطين ، وذكر فعلها ؛ لأن التأنيث مجازي قوله : { فِي ٱلأَرْضِ } يجوز أن يتعلق بـ " أصاب " ، وأن يتعلق بنفس " مصيبة " ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " مصيبة " ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظراً إلى لفظ موصوفه ، وبالرفع نظراً إلى محله ، إذ هو فاعل . والمصيبة غلبت في الشَّر . وقيل : المراد بها جميع الحوادث من خير وشر ، وعلى الأول يقال : لم ذكرت دون الخير ؟ وأجيب : بأنه إنما خصها بالذكر ؛ لأنها أهمّ على البشر . قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } حال من " مصيبة " ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل ، أو بالصفة ، أي : إلا مكتوبة . قوله : " مِنْ قَبْلِ " نعت لـ " كتابٍ " ، ويجوز أن يتعلق به . قاله أبو البقاء . لأنه هنا اسم للمكتوب ، وليس بمصدر . والضمير في " نَبْرأها " الظاهر عوده على المصيبة . وقيل : على الأنفس . وقيل : على الأرض ، أي على جميع ذلك . قاله المهدوي ، وهو حسن . فصل في مناسبة الآية لما قبلها قال الزجاج : إنه - تعالى - لما قال : { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الحديد : 21 ] وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره ، فقال : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } . والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر ، وقلّة النبات ، ونقص الثِّمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوائح . وأما المصيبة في الأنفس فقيل : هي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها . وقيل : ضيق المعاش وقيل : الخير والشَّر أجمع ، لقوله بعد ذلك : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } . وقوله : { إلا في كتابٍ } يعني : مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ . وقوله : { من قبل أن نَبْرَأها } . قال ابن عباس : من قبل أن نخلق المصيبة . وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق الأرض والنفس . { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي : خلق ذلك ، وحفظه على الله يسير أي : هيّن . قال الربيع بن صالح : لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ - رضي الله عنه - بَكَيْتُ ، قال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه ، قال : فلا تَبْكِ ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } الآية . قال ابن عباس : لما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم ، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه ، وقالوا : قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة ، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } الآية ، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : " مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ " . فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها قيل : إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها ، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال ، وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر ، ثم أدبهم فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } أي : حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لاَ يَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ " ، ثمَّ قرأ : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } أي من الدنيا . قاله ابن عباس رضي الله عنهما . فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ قال ابن الخطيب : هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ . قال المتكلمون : وإنما كتب ذلك لوجوه : أحدها : ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها . وثانيها : ليعرفوا حكمة الله ، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم . وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي . ورابعها : ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات ، وعصمته إياهم عن المعاصي . فصل في كيفية حدوث الأحداث قال ابن الخطيب : إن الحكماء قالوا : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً ، والمقسمات أمراً ، إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية ، والاتصالات الكوكبية ، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات ، وهذا هو المراد من قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 3 ] . فصل في مصائب الأنفس قوله تعالى : { وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } يتناول جميع مصائب الأنفس ، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال ؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال ، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا ، ولم يقل : جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار ؛ لأنها غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال . قال ابن الخطيب : وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً لـ " هشام بن الحكم " . قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ } . هذه " اللام " متعلقة بقوله " ما أصَابَ " ، أي : أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به ، و " كي " هنا ناصبة بنفسها ، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها . وقرأ أبو عمرو : " بما أتاكم " مقصوراً من الإتيان ، أي : بما جاءكم . قال أبو علي الفارسي : لأن " أتاكم " معادل لقوله " فَاتَكُم " ، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله : " فاتكم " ، فكذلك الفعل الثاني في قوله : " بما أتاكم " . وقرأ باقي السبعة : " آتاكم " ممدوداً من " الإيتاء " ، أي : بما أعطاكم الله إياه . والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل ، و " الهاء " محذوفة من الصِّلة ، أي : بما آتاكموه . وقرأ عبد الله : " بما أوتيتم " . فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر قال ابن عبَّاس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً ، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز . وقال جعفر بن محمد : يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر لا يردّه عليك الفَوْت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت . وقيل لـ " بزرجمهر " : أيها الحكيم ، ما لك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آتٍ ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ . وقوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر بما أوتي من الدنيا . " فخور " به على النَّاس ، قيل : الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار . فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر قال ابن الخطيب : المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة ، فهم مسلمون في العلم والجبر ، فيلزمهم الجبر باعتبارهما . والفلاسفة مذهبهم الجَبْر ؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية . والقدرية قالوا : بأن الحوادث اتفاقية ، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر ، سواء أقروا به أو أنكروه . فصل في إرادة العبد الحزن والفرح قالت المعتزلة : قوله : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة ، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن ، وهو خلاف قول المجبرة ؛ لأنه قال : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } والمحبة هي الإرادة . وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب ، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة . قوله : { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } . تقدم نظيره في سورة " النساء " . قال القرطبي : " الذين " في موضع خفض نعتاً للمختال . وقال ابن الخطيب : بدل من قوله : " كل مُخْتَال " . وقيل : رفع بالابتداء ، فهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله . والمعنى : الذين يبخلون فالله غني عنهم . قيل : أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم لئلا يؤمن به النَّاس ، فتذهب مأكلتهم . قاله السُّدي والكلبي . فيكون " الذين " مبتدأ ، وخبره محذوف يدلّ عليه قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } . وقال سعيد بن جبير : " الذين يَبْخَلُون " يعني بالعلم { وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } بألاَّ يعلموا الناس شيئاً . وقال زيد بن أسلم : إنه البُخْل بأداء حق الله تعالى . وقال عبد الله بن عامر الأشعري : هو البخل بالصدقة والحقوق . وقال طاوس : وهو البُخْل بما في يديه . فصل في قراءات البخل " بالبخل " . قرأ العامة : " بالبُخْل " بضم الباء وسكون الخاء . وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وابن محيصن وحمزة والكسائي " بالبَخَل " بفتحتين ، وهي لغة الأنصار . وقرأ أبو العالية وابن السَّميفع : " بالبَخْل " بفتح الباء وإسكان الخاء . وعن نصر بن عاصم : " البُخُل " - بضمتين - وكلها لغات مشهورة . وقال قوم : الفرق بين البخل والسخاء من وجهين : أحدهما : أن البخيل الذي لا يعطي عند السؤال ، والسَّخي الذي يعطي بغير سؤال . وتقدم الفرق بين البُخْل والشُّحِّ في آخر آل عمران . قوله : { وَمَن يَتَوَلَّ } أي : عن الإيمان { فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } . قرأ نافع وابن عامر : { فإن الله الغني الحميد } بإسقاط " هو " ، وهو ساقط في مصاحف " المدينة " و " الشام " ، والباقون : بإثباته ، وهو ثابت في مصاحفهم ، فقد وافق كل مصحفه . قال أبو علي الفارسي : من أثبت " هو " يحسن أن يكون فصلاً ، ولا يحسن أن يكون ابتداء ؛ لأن الابتداء لا يسوغ حذفه . يعني أنه رجح فصليّته بحذفه في القراءة الأخرى ، إذ لو كان مبتدأ لضعف حذفه لا سيما إذا صلح ما بعده أن يكون خبراً لما قبله . ألا ترى أنك لو قلت : إن زيداً هو القائم يحسن حذف " هو " لصلاحية " القائم " خبراً ، وهذا كما قالوا في الصلة : إنه يحذف العائد المرفوع بالابتداء بشروط : منها : ألاَّ يكون ما بعده صالحاً للصِّلة نحو : " جاء الذي هو في الدَّار ، وهو قائم أبوه " لعدم الدلالة . إلا أن للمنازع أن ينازع أبا عليٍّ ويقول : لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى ، وكم من قراءتين تغاير معناهما ، كقراءتي : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] إلا أن توافق القراءتين في معنى واحد أولى ، هذا مما لا نزاع فيه . ومن أثبت " هو " فعلى أن يكون فصلاً ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، و " الغَنِيّ " خبره والجملة خبر " إن " . قال ابن الخطيب : وقوله " الحميد " كأنه جواب من يقول : إذا كان الله عالماً بأنه يبخل ، فلم أعطاه المال ؟ . فأجاب : بأنه محمود حيث فتح أبواب الرحمة مع تقصير العبدِ في الطاعة . قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } . يعني المعجزات البينة ، والشرائع الظاهرة . وقيل : الإخلاص لله - تعالى - في العبادة . { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } أي الكتب التي أوحينا إليهم فيها خبر من كان قبلهم . " والمِيزَانَ " ، قال ابن زيد : هو ما يُوزَنُ به ، ويتعامل . روي أن جبريل - عليه السلام - نزل بالميزان فدفعه إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - وقال : مُرْ قَوْمكَ يَزِنُوا بِهِ ليقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ ، أي : بالعدل في معاملاتهم . وقيل : أراد به العدل . قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان وهو من باب : [ الرجز ] @ 4725 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً @@ ويدل على هذا قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7 ] . قوله : " مَعَهُمُ " حال مقدرة ، أي : صائراً معهم ، وإنما احتجنا إلى ذلك ؛ لأن الرسل لم ينزلوا ، ومقتضى الكلام أن يصحبوا الكتاب في النزول . وأما الزمخشري فإنه فسّر الرسل بالملائكة الذين يجيئون بالوحي إلى الأنبياء ، فالمعية متحققة . قوله : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } . روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللَّهَ تعَالَى أنْزلَ أرْبَعَ بركاتٍ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ : الحَديْدَ والمَاءَ والنَّارَ والثَّلْجَ " . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل ثلاثة أشياء مع آدم - عليه الصلاة والسلام - الحَجَر الأسود وكان أشد بياضاً من الثَّلج ، وعصا موسى ، وكانت من آسِ الجنة ، طولها عشرة أذرع مع طول موسى ، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء : السَّنْدَان ، والكَلْبتَان ، والميْقَعَة ، وهي المِطْرقَة ذكره الماوردي . وروى الثعلبي عن ابن عبَّاس قال : نزل آدم من الجنَّة ، ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين : السَّندان ، والكلْبتَان ، والمِيْقعَة ، والمِطْرقَة والإبْرَة . وحكاه القشيري قال : والمِيْقعَة : [ ما يحدد به ، يقال : وقعت الحديدة أقعها ، أي حددتها . وفي " الصحاح " ] : " المِيْقَعَة " الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشبة القصَّار التي يدقّ عليها ، والمِطْرقَة ، والمِسَنّ الطويل . وروي أن الحديد أنزل يوم الثلاثاء . { فيه بأس شديدٌ } أي : لإهراق الدِّماء ، ولذلك نهي عن الفَصْد والحِجَامة يوم الثلاثاء ؛ لأنه يوم جرى فيه الدَّم . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ فِي يَوْمِ الثلاثاءِ ساعةً لا يُرَاقُ فِيْهَا الدَّمُ " . وقيل : " أنزلنا الحديد " أي : أنشأناه وخلقناه ، كقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلأَنْعَامِ } [ الزمر : 6 ] وهذا قول الحسن . فيكون من الأرض غير منزل من السماء . وقال أهل المعاني : أي أخرج الحديد من المعادن ، وعلمهم صنعته بوحيه . وقوله : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } جملة حالة من " الحديد " ، والمراد بالحديد يعني : السلاج والجُنَّة . وقيل : إن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً . { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } قال مجاهد : يعني جُنَّة . وقيل : انتفاع النَّاس بالماعون : الحديد كالسِّكين والفأس ونحوه . قوله : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ } . عطف على قوله : { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ } ، أي : لقد أرسلنا رسلنا ، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس ، وليعلم الله . وقال أبو حيان : علّة لإنزال الكتاب والميزان والحديد . والأول أظهر ؛ لأن نصرة الله ورسوله مناسبة للإرسال . قوله : " ورُسُلَهُ " عطف على مفعول " ينصره " ، أي : وينصر رسله . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " من " لئلا يفصل به بين الجار ، وهو " بالغيب " ، وبين ما يتعلق به وهو " ينصر " . قال شهاب الدين : وجعله العلة ما ذكره من الفصل بين الجار ، وبين ما يتعلق به يوهم أن معناه صحيح لولا هذا المانع ، وليس كذلك ؛ إذ يصير التقدير : وليعلم الله من ينصره بالغيب ، وليعلم رسله ، وهذا معنى لا يصح ألبتة ، فلا حاجة إلى ذكر ذلك ، و " بالغيب " حال وقد تقدم مثله أول " البقرة " . فصل في معنى الآية المعنى : وليعلم الله من ينصره ، أي : أنزل الحديد ليعلم من ينصره ، أو ليقوم الناس بالقسط ؛ أي : أرسلنا رسلنا . { وأنزلنا معهم الكتاب } وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق ، وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله بالغيب ، أي : وهم لا يرونهم . { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } قوي في أخذه عزيز أي : منيع غالب . وقيل : بالغيب أي : بالإخلاص . فصل في الرد على من قال بحدوث علم الله احتج من قال بحدوث علم الله بقوله : " وليعلم الله " . وأجيب : بأنه - تعالى - أراد بالعلم المعلوم ، فكأنه - تعالى - قال : ولتقع نُصْرة الرسول ممن ينصره . فصل في الرد على الجبرية قال الجبائي : قوله : { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } يدل على أنه - تعالى - أنزل الميزان والحديد ، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط ، وأن ينصروا رسله ، وإذا أراد هذا من الكل بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك . وأجيب : بأنه كيف يمكن أن يريد من الكُلِّ ذلك مع علمه بأن ضدّه موجود ، والجمع بين الضِّدين محال ، والمحال غير المراد . قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ } الآية . لما أجمل الرسل في قوله : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } فصل ها هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب ، وأخبر أنه أرسل نوحاً وإبراهيم ، وجعل النبوة في نسلهما ، لقوله : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } ، أي : جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء ، وبعضهم أمماً يتلون الكتب المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والزَّبُور والفُرقَان . وقال ابن عبَّاس : الخَطّ بالقَلم . قوله : { فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ } . والضمير يجوز عودهُ على الذُّرِّية ، وهو أولى لتقدم ذكره لفظاً . وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة رسلنا والمرسلين إليهم . والمعنى : منهم مهتد ومنهم فاسق ، والمراد بالفاسق هاهنا ، قيل : الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لإطلاق هذا الاسم ، وهو يشمل الكافر وغيره . وقيل : المراد بالفاسق ها هنا الكافر ؛ لأنه جعل الفُسَّاق ضد المهتدين .