Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 8-9)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه بدل من " لِذي القُربى " . قاله أبو البقاء والزمخشري . قال أبو البقاء : " قيل : هو بدل من " لذي القُرْبى " وما بعده " . [ وقال الزمخشري : بدل من " لذي القُرْبى " وما عطف عليه ] ، والذي منع الإبدال من " لله وللرسول " والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله - عز وجل - أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراءِ في قوله : { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وأن الله - تعالى - يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقيرِ ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل . يعني أنه لو قيل : بأنه بدل من " الله ورسوله " صلى الله عليه وسلم وهو قبيح لفظاً ، وإن كان المعنى على خلاف هذا الظاهر كما قيل : إن معناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر الله - عز وجل - تفخيماً ، وإلا فالله - تعالى - غني عن الفيء وغيره ، وإنما جعله بدلاً من " لذي القُربى " ؛ لأنه حنفي ، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيءِ . الثاني : أنه بيان لقوله تعالى : { وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [ الحشر : 7 ] ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة بـ " اللام " ليبين أنَّ البدل إنما هو منها . قاله ابن عطية . وهي عبارة قلقةٌ جداً . الثالث : أن " للفقراء " خبر لمبتدأ محذوف ، أي : ولكن الفيء للفقراء . وقيل : تقديره : ولكن يكون للفقراء ، وقيل : اعجبوا للفقراء . قوله " يبتغون " يجوز أن يكون حالاً ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما : للفقراء . والثاني : " واو " أخرجوا . قالهما مكي . فصل في معنى الآية ومعنى الآية أن الفيء والغنائم للفقراء والمهاجرين . وقيل : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء } ولكن يكون " للفقراء " وهو مبني على الإعراب المتقدم ، وعلى القول بأنه بيان لذوي القربى ، " واليتامى والمساكين " أي : المال لهؤلاء ؛ لأنهم فقراء ومهاجرون ، وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به . وقيل : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [ الحشر : 6 ] للفقراء المهاجرين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء مهاجرين من بني الدنيا . وقيل : والله شديدُ العقاب للفقراء المهاجرين ، أي : شديد العقاب للكافر بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم ، ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى : { وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ } [ الحشر : 7 ] . قال القرطبي : " وقيل : هو عطف على ما مضى ، ولم يأت بواو العطف كقولك : هذا المال لزيد لبكر لفلان . و " المهاجرون " : من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا فيه ونُصرةً له " . وقال قتادة : هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الدِّيار والأموال والأهلين والأوطان حبًّا لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتَّى إن الرجل منهم كان يَعْصِبُ على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها . قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } أي : أخرجهم كفار " مكة " ، أي : أحوجوهم إلى الخروج ، وكانوا مائة رجل " يَبْتَغُونَ " أي : يطلبون { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ } : أي غنيمة في الدنيا " ورضْوَاناً " في الآخرة أي : مرضاة ربهم { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في الجهاد { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } في فعلهم ذلك . وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب بـ " الجابية " ، فقال : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقهِ ، فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله - تعالى - جعلني له خازناً وقاسماً ، ألا وإنِّي بادٍ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهنّ ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي ، أخرجنا من " مكة " من ديارنا وأموالنا . قوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } . يعني : أنهم لما هجروا لذَّات الدنيا ، وتحملوا شدائدها لأجل الدِّين ظهر صدقهم في دينهم . قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } . يجوز في قوله : { والذين تبوّءوا الدار } وجهان : أحدهما : أنه عطف على " الفقراء " فيكون مجروراً ، ويكون من عطف المفردات ، ويكون " يحبون " حالاً . والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره " يُحبُّون " ويكون حينئذ من عطف الجمل . وفي قوله : " والإيمان " . ستة أوجه : أحدها : أنه ضمن " تَبَوَّءوا " معنى لزموا ، فيصح عطف الإيمان عليه ، إذ الإيمان لا يتبوأ . الثاني : أنه منصوب بمقدر ، أي : واعتقدوا ، أو وألفوا ، أو وأحبوا ، أو وأخلصوا ، كقوله : [ الرجز ] @ 4746 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً … @@ وقوله : [ مجزوء الكامل ] @ 4747 - … مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا @@ الثالث : أنه يتجوّز في الإيمان ، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم ، فكأنهم نزلوه ، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة . وفيه خلاف مشهور . الرابع : أن يكون الأصل : دار الهجرة ، ودار الإيمان ، فأقام " لام " التعريف في " الدار " مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه . الخامس : أن يكون سمى " المدينة " ؛ لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان . قال بهذين الوجهين الزمخشري . وليس فيه إلاَّ قيام " ال " مقام المضاف إليه ، وهو محل نظر ، وإنما يعرف الخلاف ، هل يقوم " ال " مقام الضمير المضاف إليه ؟ . فالكوفيون يُجِيزُونه ، كقوله : { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه . [ والبصريون : يمنعونه ، ويقولون : الضمير محذوف ، أي : المأوى له ] . وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً . السادس : أنه منصوب على المفعول معه أي : مع الإيمان معاً . قاله ابن عطية . وقال : وبهذا الاقتران يصح معنى قوله " من قبلهم " فتأمله . قال شهاب الدين : " وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى : { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [ يونس : 71 ] من باب إضمار الفعل ؛ لأنه لا يقال : أجمعت شركائي ، إنما يقال : جمعت " . فصل في المراد بهذا التبوء " التَّبَوُّء " : التمكن والاستقرار ، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا " المدينة " قبل المهاجرين إليها ، والمراد بالدَّار : " المدينة " . والتقدير : والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم . فصل قيل هذه الآية معطوفة على قوله : " للفقراء المهاجرين " وأن الآيات في " الحَشْر " كلها معطوفة بعضها على بعض . قال القرطبي : ولو تأملوا ذلك ، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه ؛ لأن الله - تعالى - يقول : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 2 ] - إلى قوله - " الفاسقين " فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع ، ثم قال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [ الحشر : 6 ] فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه ، وما تقدم فيهم من القتالِ ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر ، ثم قال تعالى : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [ الحشر : 7 ] ، وهذا كلام غير معطوف على الأول ، وكذا { والذين تبوّءوا الدار والإيمان } ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم ، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ، وكأنه قال : الفَيْء للفقراء المهاجرين ، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء ، وكذا { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] ابتداء كلام ، والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] . وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ } ، { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] معطوف على ما قبله ، وأنهم شركاء في هذا الفيء ، أي : هذا المال للمهاجرين ، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان . وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] . ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [ الحشر : 6 ] حتى بلغ { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ، { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } ، { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي بـ " سَرْو حمير " نصيبه منها لم يعرق جبينه . وقيل : إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته ، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه ، قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة " الحشر " وتلا : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [ الحشر : 7 ] إلى قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } فلما بلغ قوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } قال : ما هي لهؤلاء فقط ، وتلا قوله : { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] إلى قوله { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . فصل روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال : لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر . وصح عن عمر أنه أبقى سواد " العراق " و " مصر " وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة ، وأرزاق الجيش والذَّراري ، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ، فكره ذلك منهم . واختلف فيما فعل من ذلك : فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله ، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قسم " خيبر " ، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها . وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش . وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلى قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] على ما تقدم أيضاً . فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار اختلفوا في قسمة العقار ، فقال مالك - رضي الله عنه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام مخير بين قسمتها ، أو وقفها لمصالح المسلمين . وقال الشافعي - رضي الله عنه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال ، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله ، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله . وعمر - رضي الله عنه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] مقطوعاً مما قبله ، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم . فصل في فضل المدينة قال القرطبي : " روى ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل " المدينة " على غيرها من الآفاق ، فقال : إن " المدينة " تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية " . قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } . فيه وجهان : أحدهما : أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته . قاله الزمخشري . فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين ، وفي " أوتُوا " للمهاجرين . والثاني : أن الحاجة هنا من الحسد . قال الحسنُ : حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة ؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية . والضميران على ما تقدم قبل . وقال أبو البقاء : " الحاجة مس حاجة " . أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا ، فالضميران لـ { الذين تبوّءو الدار والإيمان } . وقال القرطبي : " يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره ، كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين ، والمعنى : مس حاجة من فقد ما أوتوا ، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة " . فصل في سبب نزول الآية قال القرطبي : " كان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ " ، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رضي الله عنهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا ، ونادت الأنصار : رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ " وأعطى رسول الله للمهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم " . ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } إذا كانوا قليلاً يقنعون به ، ويرضون عنه ، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا ، وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ " . قوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني النضير : " إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً " . فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة " ، فنزل : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية . قال ابن الخطيب : " وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام ، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار ، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات . فذكر القرطبي : أن الترمذي روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية " . وخرجه مسلم أيضاً : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهودٌ ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندي إلا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ يُضيف هذا الليلة رحمه الله ؟ " فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله أنا ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج " ، وذكر نحو الحديث الأول . وفي رواية : فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله . وذكر المهدوي : أنها نزلت في ثابت بن قيس ، ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته . وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا ، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية . وذكر الثعلبي عن أنس ، قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له ، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت الآية . فصل في معنى الإيثار الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية ، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به وفضلته ، ومفعول الإيثار محذوف ، أي : يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عَنْ غِنًى بل مع احتياجهم إليها . فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء ؟ . فالجواب : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فكانوا كما قال الله تعالى : { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } [ البقرة : 177 ] . فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار . " كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب ، فقال هذه صدقة ، فرماه بها ، وقال : " يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس " انتهى . فصل في الإيثار بالنفس الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس . ومن الأمثال : [ البسيط ] @ 4748 - الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ @@ وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم . ففي الصحيح : أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ، لا يصيبونك ، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلتْ . وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم " اليَرْموك " أطلب ابن عم لي [ ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمقٌ سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن نعم ] ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فسمعت آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات . وقال أبو اليزيد البسطامي رحمه الله : ما غلبني أحد سوى شاب من أهل " بلخ " قدم علينا حاجًّا ، وقال : يا أبا اليزيد ، ما حد الزهد عندكم ؟ . فقلت له : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا . فقال : هكذا كلاب " بلخ " عندنا . فقلت : وما حدّ الزهد عندكم ؟ . قال : إذا فقدنا شكرنا ، وإذا وجدنا آثرنا . وسئل ذو النون المصري : ما حدُّ الزهد ؟ قال : ثلاث ، تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند الفوت . وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى " الري " ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج ، وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه . قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . هذه واو الحال ، والخصاصة : الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهي فروجه ، وحال الفقير يتخللها النقص ، فاستعير لها ذلك . وقال القرطبي : " أصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة : انفراد بالحاجة ، أي : ولو كانت بهم فاقة وحاجة " . ومنه قول الشاعر : [ الكامل ] @ 4749 - أمَّا الرَّبيعُ إذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وأثْرَى المُقْتِرُ @@ قوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } . العامة على سكون الواو ، وتخفيف القاف من الوقاية ، وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتح الواو وتشديد القاف . والعامة - بضم الشين - من " شح " ، [ وابن أبي عبلة ] وابن عمر - رضي الله عنهما - بكسرها . قال القرطبي : الشُّحُّ والبخل سواء ، يقال : رجل شحيح بيِّن الشُّح والشَّح والشحاحة . قال عمرو بن كلثوم : [ الوافر ] @ 4750 - تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أمِرَّتْ عَليْهِ لِمَاله فِيهَا مُهِينَا @@ وجعل بعض أهل اللغة الشُّحَّ أشد من البخل . وفي " الصحاح " : الشح : البخل مع حرصٍ ، شَحِحْتُ - بالكسر - تشحّ ، وشَحَحْتُ أيضاً تَشُحُّ وتشِحُّ ، ورجل شَحِيحٌ ، وقومٌ شحاحٌ وأشحَّة . والمراد بالآية : الشُّح بالزكاة ، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضِّيافة ، وما شاكل ذلك ، فليس بشحيحٍ ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه ، ومن وسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطَّاعات فلم يُوقَ شح نفسه . روى الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن رجُلاً أتاه فقال : إنِّي أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يديّ شيئاً ، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله - تعالى - ، إنما الشُّحُّ أن تأكل مال أخيك ظُلْماً ، ولكن ذلك هو البخل ، وبئس الشيء البخل ، ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل . وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشُّحُّ أن يشح بما في أيدي النَّاس ، يجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع . قال ابن زيد : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشُّح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له . وقال ابن جريج : الشح : منع الزكاة وادخار الحرام . وقال ابن عيينة : الشح : الظلم . وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . وقال ابن عباس : من اتبع هواه ، ولم يقبل الإيمان ، فذلك هو الشحيح . وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه ، فقد وقاه الله شحَّ نفسه . وقال أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بَرِىء مِن الشُّحِّ مَنْ أدَّى الزَّكَاةَ وأقْرَى الضَّيْفَ ، وأعْطَى في النَّائِبَة " . وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو " اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي ، وإسْرافِهَا وَسوآتِهَا " . وقال أبو الهياج الأسدي : رأيت رجلاً في الطواف يدعو : اللهم قني شُحَّ نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل ، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه . قال القرطبي : ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " اتَّقُوا الظُّلْمَ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يَوْمَ القِيَامةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهْلكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم حَملهُمْ على أن سفَكُوا دِمَاءهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ " . وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللَّهِ ودُخَانُ جَهَنَّم في جَوْفِ عَبْدٍ أبَداً ، ولا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمَانُ في قَلْبِ عَبْدٍ أبَداً " . وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرُّ بابن آدم ؟ قالوا : الفقرُ ، فقال : الشح أضر من الفقر ، لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبعْ أبداً .