Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 10-16)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَآءُو } . يحتمل الوجهين المتقدمين في " الذين " قبله ، فإن كان معطوفاً على " المهاجرين " ، فـ " يقولون " حال لـ " يحبون " أي : قائلين أو مستأنف ، وإن كان مبتدأ فـ " يقولون " خبره . فصل هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين ؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار . { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } . قال بعض المفسرين : هذا عطف على " المُهَاجرينَ " وهم الذين هاجروا من بعد . وقيل : التابعون لهم بإحسان ، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة . قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الأولى منازل المهاجرين ، والثانية هي : الذين تبوءوا الدار والإيمان ، والثالثة : والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألاَّ تخرج من هذه المنازل . وقال بعضهم : كن مهاجراً ، فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصارياً ، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبَّهم ، واستغفر لهم كما أمرك الله . وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت . وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه ، أنه جاءه رجل فقال : يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان ؟ فقال له : يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ؟ [ الحشر : 8 ] الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله فيهم : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } ؟ [ الحشر : 9 ] الآية ، قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام ، وهي قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } . وروي أن نفراً من أهل " العراق " جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ قالوا : لا ، قال : أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ؟ ، قالوا : لا ، قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } ، قوموا قد فعل الله بكم وفعل . ذكره النحاس . فصل في وجوب محبة الصحابة هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم ، والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحداً منهم ، أو اعتقد فيه شرًّا أنه لا حقَّ له في الفيء . قال مالك : من كان يبغضُ أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ : { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } . فصل قال القرطبي : دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر - رضي الله عنه - إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمراً فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه ، وإن هذه الآية قاضية بذلك ، لأن الله - تعالى - أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار - وهم معلومون - { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [ الدين ] . " يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : " السَّلامُ [ عليكم ] دارَ قَوْم مُؤمِنينَ وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بكم لاحِقُونَ ودِدْتُ لَوْ رأيتُ إخواننا " قالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ ، ألَسْنَا إخْوَانَكَ ؟ فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " بَلْ أنتُمْ أصْحَابِي ، وإخْواننا الذين لَمْ يأتُوا بَعْدُ ، وأنَا فَرَطُهمْ على الحوْضِ " " . فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كلُّ من يأتي بعدهم ، لا كما قال السُّديُّ والكلبي : إنهم الذين هاجروا بعد ذلك . وعن الحسن أيضاً : أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى " المدينة " بعد انقطاع الهجرة . قوله : { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } . قيل : أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم أن يستغفروا لهم فَسبُّوهم . وقيل : أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيُفْتنُونَ . وقالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تَذْهَبُ هذهِ الأمة حتَّى يلعَنَ آخِرُهَا أوَّلهَا " . وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا رأيتم الَّذين يسُبُّونَ أصْحَابِي فقُولُوا : لَعَنَ اللَّه شَرَّكُم " . وقال العوام بن حوشب : أدركت هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتآلف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم . وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنَّصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب موسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت الرافضة ، من شرُّ أهلِ ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفكِ دمائهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلَّة . { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : حسداً وبغضاً ، { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ } . للتبليغ فقط بخلاف قوله عز وجل : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العنكبوت : 12 ] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة . فصل قال القرطبي رحمه الله : هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً . قال المقاتلان : يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد ، وقيل : رفاعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا ، ومالوا ليهود قريظة والنضير . والإخوان : هم الإخوة ، وهي هنا تحتمل وجوهاً : أحدها : الأخوّة في الكفر ؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفرِ بمحمد صلى الله عليه وسلم . وثانيها : الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة . وثالثها : الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم . فقالوا لليهود : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } من المدينة { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } . وقيل : هذا من قول بني النضير لقريظة ، وقولهم : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قالوا : لا نطيعه في قتالكم . وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من جهة الغيب ؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم ، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم وفعلهم . فقولهم : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } أي : في قتالكم أو في خذلانكم . قوله تعالى : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } . أجيب القسم المقدر ، لأن قبل " إن " لام موطئة حذفت للعلم بمكانها ، فإنَّ الأكثر الإتيان بها ، ومثله قوله : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] وقد تقدم . قوله تعالى : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } . أجيب القسم لسبقه ، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً . وقال أبو البقاء رحمه الله : قوله تعالى : { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } لما كان الشرط ماضياً ترك جزم الجواب انتهى . وهو غلط ؛ لأن { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } ليس جواباً للشرط بل جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله : [ البسيط ] @ 4751 - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ يَقولُ : لا غَائِبٌ مَالِي ولا حَرِمُ @@ وقد سبق أبا البقاء ابنُ عطية إلى ما يوهم شيئاً من ذلك ، ولكنه صرح بأنه جواب القسم ، فقال : " جاءت الأفعال غير مجزومة في " لا يخرجون ولا ينصرون " ؛ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر " . فقوله : " وفي هذا نظر " يوهم أنه جاء على خلاف ما يقتضيه القياس وليس كذلك ، بل جاء على ما يقتضيه القياس . وفي هذه الضمائر قولان : أحدهما : أنها كلها للمنافقين . والثاني : أنها مختلفة بعضها لهؤلاء ، وبعضها لهؤلاء . فصل اعلم أنه - تعالى - عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، وقد أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا ، فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم ، وكان الأمر كذلك ؛ لأن بني النضير لما خرجوا لم يخرج معهم المنافقون ، وقاتلوا أيضاً فما نصروهم ، وهذا كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير : لا نسلم أن الأمر كما تقول ، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول إلا أنه لا يفيد ذلك فائدة فكذا هاهنا ذكر تعالى أنهم لا يخرجون معهم ، وبتقدير أن ينصروهم إلا أنهم لا بد وأن يتركوا النُّصرة وينهزموا ، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي أعدائهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] . [ وقيل : معنى لا ينصرونهم : لا يدومون على نصرهم ، هذا على أن الضميرين متفقان على اختلاف الضميرين ، فالمعنى : لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } أي : ولئن نصر اليهود المنافقين ليولُّنَّ الأدبار ] . قوله تعالى : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } . مصدر من " رُهِبَ " المبني للمفعول ، فالرهبة واقعة من المنافقين لا من المخاطبين ، كأنه قيل : لأنتم أشد رهوبية في صدورهم من الله ، فالمخاطبون مُرْهِبُونَ وهو قول كعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ البسيط ] @ 4752 - فَلَهْوَ أخْوَفُ عِنْدِي إذْ أكَلِّمُهُ وقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسٌ ومَقْتُولُ مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الأرْضِ مُخْدَرُهُ بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ @@ و " رَهْبَةً " تمييز . فصل في معنى الآية المعنى : لأنتم يا معشر المسلمين { أَشَدُّ رَهْبَةً } أي خوفاً وخشية في صدورهم من الله ، يعني صدور بني النضير . وقيل : صدور المنافقين ، ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين ، أي : يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ، " ذَلِكَ " إشارة إلى الخوف أي ذلك الخوف { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } قدر عظمة الله وقدرته حتى يخشوه حقَّ خشيته . قوله تعالى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً } يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين " إلاَّ " إذا كانوا { فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدُّروب والحيطان [ يظنُّون ] أنها تمنعهم منكم ، { أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } أي : من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم . قوله : " جَمِيعاً " حال ، و { إِلاَّ فِي قُرًى } متعلق بـ " يُقَاتِلُونَكُمْ " . وقوله : " جُدُرٍ " . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " جدار " بالإفراد . وفيه أوجه : أحدها : أنه السُّورُ ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم . والثاني : أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه . والثالث : أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار . والباقون قرأوا : " جُدُر " - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار ، فجمع لذلك . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش ، ويروى عن ابن كثير وعاصم : بضمة وسكون ؛ وهي تخفيف الأولى ، وقرأ ابن كثير - أيضاً - في رواية هارون عنه ، وهي قراءة كثير من المكيين : " جَدْر " بفتحة وسكون . فقيل : هي لغة في الجدار . وقال ابن عطية : معناه أصل بنيات كالسور ونحوه : قال : ويحتمل أن يكون من جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم . يقال : أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع . والجدر : نبت ، واحده جدرة . وقرىء : " جَدَرٌ " - بفتحتين - حكاها الزمخشري . وهي لغة في الجدار أيضاً . وقرىء : " جُدْر " - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار . قال القرطبي : ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف " كتاب " وفي الجمع كألف " ظِراف " ومثله " ناقة هجان ، ونوق هجان " لأنك تقول في التثنية " هجانان " ، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى . قاله ابن جني . قوله : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } . " بَيْنَهُمْ " متعلق بـ " شديد " و " جميعاً " مفعول ثانٍ ، أي : مجتمعين . وقوله : { وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } . جملة حالية ، أو مستأنفة للإخبار بذلك . والعامة على " شتى " بلا تنوين ، لأنها ألف تأنيث . ومن كلامهم : " شَتَّى تئوب الحلبة " أي متفرقين . وقال آخر : [ الطويل ] @ 4753 - إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا هِيَ اليَوْمَ شَتَّى ، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ @@ وقرأ مبشر بن عبيد : " شَتًّى " منونة ، كأنه جعلها ألف الإلحاق . وفي قراءة ابن مسعود : " وقُلُوبُهُمْ أشتُّ " يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً . فصل في معنى الآية معنى { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : عداوة بعضهم لبعض . قاله ابن عباس . وقال مجاهد : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } بالكلام والوعيد لنفعلن كذا . وقال السُّدي : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ . وقيل : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس ، وإذا لقوا العدو انهزموا . { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } . يعني اليهود والمنافقين . قاله مجاهد . وعنه أيضاً : يعني المنافقين . وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب . وقال قتادة : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } أي : مجتمعين على أمْر ورأي . { وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } : أي : متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق . وعن مجاهد أيضاً : أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود ، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي : ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله . وقيل : لا يعقلون ما فيه الحظ لهم . وقيل : لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم . قوله تعالى : { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } . خبر مبتدأ مضمر ، أي : مثلهم مثل هؤلاء . و " قريباً " فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب بالتشبيه المتقدم ، أي : يشبهونهم في زمن قريب سيقع لا يتأخر ، ثم بين ذلك بقوله : { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } . والثاني : أنه منصوب بـ " ذاقوا " أي : ذاقوا في زمن قريب . أي : ذاقوه في زمن قريب سيقع ولم يتأخّر . وانتصابه في وجهيه على ظرف الزَّمان . فصل في معنى الآية يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم . قال ابن عباس : يعني به بني قينقاع أمكن الله منهم قبل بني النضير . وقال قتادة : يعني بني النضير أمكن الله منهم قبل قريظة ، وكان بينهما سنتان . وقال مجاهد رضي الله عنه : يعني كفَّار قريش يوم بدر ، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير قاله مجاهد . وكانت غزوة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، فلذلك قال : " قَرِيباً " . وقيل : هو عامٌّ في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم . " وَبَالَ أمرهم " أي : جزاء كفرهم . ومن قال : هم بنو قريظة جعل " وبَالَ أمْرِهِمْ " نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي [ الذرية ] . وهو قول الضحاك . ومن قال : المراد بنو النضير ، قال : " وبَالَ أمْرِهِمْ " الجلاء والنفي ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة . قوله تعالى : { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ } . هذا مثل ضربه الله للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الرجاء في نصرتهم ، وحذف حرف العطف ولم يقل : وكمثل الشيطان ، لأن حذف حرف العطف كثير ، كقولك : أنت عاقل ، أنت كريم ، أنت عالم . وقوله : { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ } كالبيان لقوله { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } . فصل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الإنسان الذي قال له الشيطان : اكفر ؛ راهب ، نزلت عنده امرأة أصابها لممٌ ليدعو لها فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح ، فدلّ الشيطان قومها على موضعها ، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه ، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه من هذه الورطة منهم فسجد فتبرّأ منه فأسلمه ، ذكره القاضي إسماعيل ، وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر خبره طويلاً . وذكر ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ } أنه كان راهب في الفترة يقال له : برصيصا ، قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس ، وذكر خبر برصيصا بتمامه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : فضرب الله ذلك مثلاً للمنافقين مع اليهود ، وذلك أن الله - تعالى - أمر نبيه أن يُجلِيَ بني النضير من " المدينة " ، فدس إليهم المنافقون ألاَّ تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلوكم قاتلنا معكم ، وإن أخرجوكم كنا معكم ، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد . وقيل : المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 48 ] الآية . وقال مجاهد : المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم . ومعنى قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ } . أي : أغواه حتى قال : إنِّي كافر ، وليس قول الشيطان : { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } حقيقة ، إنما هو على وجه التبرُّؤ من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله تعالى : { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ } . وفتح الياء من " إني " نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأسكن الباقون .