Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 103-103)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال سعيد بن المُسَيَّبِ : لا تحيط به الأبصارُ . وقال عطاء : كَلَّتْ أبْصَارُ المخلوقين عن الإحَاطَةِ به . وقال ابن عبَّاسٍ : لا تدركه الأبْصَارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة . قوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } أي : لا يخفى عليه شيءٌ ولا يفوته { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } . قال ابن عباس : اللَّطيفُ بأوليائه ، الخَبِيرُ بهم . وقال الأزهري : اللَّطِيفُ الرفيق بعباده . وقيل : اللطيف الذي يُنْسِي العِبادَ ذنوبهم لئلاَّ يَِخْجَلُوا ، واللَّطَافَةُ ضِدُّ الكَثَافَةِ ، والمراد منه الرقة ، وذلك في حَقِّ الله تعالى ممتنع ، فوجب المصير إلى التأويل ، وهو من وجوه : أحدها : لطف صنعه في تركيب أبْدانِ الحيوانات من الأجزاء الدقيقة ، والمنَافِذِ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا اللَّه تبارك وتعالى . وثانيها : لَطِيفٌ بعباده حيث يثني عليهم عند الطَّاعةِ ، ويأمرهم [ بالتَّوبْةِ عند ] المعصية ، ولا يقطعُ عنهم موادَّ رحمته ، سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً . وثالثها : لَطِيفٌ بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم ، وينعم عليهم بما هو فوقَ اسْتِحْقَاقهمْ . وأما الخبير فهو من الخبرِ ، وهو العلم ، والمعنى : أنه لَطِيفٌ بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارْتِكَابِ المعاصي والقبائح . وقال الزمخشري : اللَّطِيفُ معناه : أنه يلطف عن أن تُدْرِكهُ الأبصار الخبير بكل لطيف ، فهو يُدْرِكُ الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه . فصل فيما تدل عليه الآية احتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أنه - تبارك وتعالى - لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ، وذلك مما يساعد الخصم عليه ، وعليه بنوا اسْتِدْلاَلَهُمْ على نَفْي الرؤية ، فنقول : لو لم يكن تعالى جَائِزَ الرُّؤيَةَ لما حَصَلَ التَّمَدُّحُ بقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } ؛ ألا ترى أن المعدوم لا تَصِحُّ رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا يَصِحُّ رؤيتها ، فثبت أن قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يفيد المدح ، وثبت أن ذلك إنما يفيد المَدْحَ لو كان صَحِيحَ الرُّؤيَةِ ، وهذا يَدُلُّ على أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يفيد كونه - تعالى - جَائِزَ الرُّؤيَةِ ، وتحقيقه أن الشيء إذا كان في نَفْسِهِ بحيث يمتنع رؤيته ، فحينئذ لا يَلْزمُ من عدم رؤيته مَدْحٌ وتَعْظيمٌ لذلك الشيء ، أما إذا كان في نفسه جَائِزَ الرؤية ، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رُؤيَتِهِ ، وعن إدراكه كانت هذه القُدْرَةُ دَالَّةً على المدح والعظمة ، فثبت أن هذه الآية دالَّةٌ على أنه - تعالى - يجوز رُؤيَتُهُ بحسب ذاته ، وإذا ثبت هذا وجب القَطْعُ بأن المؤمنين يرونه [ يوم القيامة ، والدليل عليه أن القائل قائلان قائل قال بجواز الرؤية ، مع أن المؤمنين يرونه ، وقال قال : لا يرونه ، ولا تجوز ] رؤيته . فأما القول بأنه - تعالى - تجوز رؤيته ، مع أنه لا يَرَاه أحَدٌ من المؤمنين ، فهذا قول لم يقل به أحَدٌ من الأمَّةِ ، فكان بَاطِلا . الثاني : أن نقول : المراد بـ " الأبصار " في قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } ليس هو نفس الإبصار ، فإن البَصَر لا يدرك شيئاً ألبته في مَوْضع من المواضع ، بل المدرك هو المبصر ، فوجب القَطْعُ بأن المُرَادَ من قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } هو إدراك المبصرين ، ومعتزلة البَصرةٍ يوافقون بناء على أنه - تعالى - يبصر الأشياء ، فكان تعالى من جملة المبصرين ، فقوله تعالى : { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } يقتضي كونه تعالى مُبصراً لنفسه ومن قال : إن المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ ، فدلَّتِ الآية الكريمة على أنه جَائِزُ الرؤية ، وعلى أنَّ المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ ، وإذا اخْتَصَرْنَا هذا الاستدلال قلنا قوله تعالى : { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } المراد منه إنما نفس البصر ، أو المبصر على التقديرين يلزم كونه - تعالى - مبصراً لإبصار نفسه ، أو كونه مبصراً لذات نَفْسِهِ ، وإذا ثبت هذا وجب أن يراه [ المؤمنون ] يوم القيامة ضَرُورَةَ أنه لا قَائِلَ بالفَرْقِ . الثالث : أن لَفْظِ " الأبصار " صيغة جَمْعٍ دَخَلَ عليها الألف واللام ، فهي تفيد الاسْتِغْراقِ في قوله : { تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } . [ فإذا كان كذلك كان قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يفيد أنه لا تراه جَميعُ الأبْصارِ ، فهذا يفيد سَلْبَ العُمُوم ، ولا يفيد عموم السَّلب ، وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول : تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع يَدُلُّ على ثبوت الحكم في بعض أفْرَادِ المجموع ؛ ألا تَرَى أن الرَّجُلَ إذا قال : إن زيداً ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ ، وإذا قيل : إن محمداً صلى الله عليه وسلم ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس ، فكذلك قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } معناه أنه : لا تدركه كل الأبصار ، فوجب أن يفيد أنه تُدْرِكُهُ بَعْضُ الأبْصَارِ أقصى ما في الباب أن يقال : هذا تمسُّك بدليل الخطاب ، فنقول : هَب أنه كذلك إلاَّ إنه دليلٌ صحيح ؛ لأن بتقدير ألاَّ يحصل الإدْرَاكُ لأحَدٍ ألْبَتَّةَ كان تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع من حَيْثُ هو مجموع عبثاً ، وَصَوْنُ كلام الله - تعالى عن العَبَثِ واجِبٌ . الرابع : نقل أن ضرار بْنَ عَمْرو الكُوفِيَّ كان يقول : إن الله - تعالى - لا يُرَى بالعين ، وإنما يرى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ يخلقها يوم القيامة واحتج بهذه الآية الكريمة ، فقال : دلَّتْ [ هذه ] الآية الكريمةُ على تخصيص نَفْي إدْرَاكِ الله - تبارك وتعالى - بالبَصَرِ ، وتخصيص الحكم بالشيء يَدُلُّ على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجَبَ أن يكون إدْراكُ الله - تبارك وتعالى - بغير البصر جائزاً في الجملة ، ولما ثبت أن سائر الحواسِّ الموجودة الآن لا تَصْلُحُ لذلك وجب أن يقال : إنه تعالى يخلق يوم القيامة حَاسَّةً سادسَةً بها تحصل رُؤيَةُ الله - تعالى - وإدراكه . واسْتَدَلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة على نَفْيِ الرُّؤيَةِ من وجهين : الأول : قالوا : الإدْرَاكُ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ بدليل لو قال قائل : أدركته ببصري ، وما رأيته ، أو قال : رأيته ، وما أدْرَكتُهُ ببصري ، فإنَّ كلامه يكوم متناقضاً ، فثبت أن الإدْراكَ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يقتضي أنه لا يَرَاهُ شيء من الأبْصَارِ في شيء من الأحْوالِ ، ويدل على صِحَّةِ هذا العموم وجهان : الأول : أنه يصح اسْتِثْنَاءُ جميع الأشخاص ، وجميع الأحوال عنه ، فيقال : لا تدركه الأبصار إلاَّ بصر فلان وإلاَّ في الحالة الفُلانيَّةِ ، والاستثناء يُخْرجُ من الكلام مَا لولاهُ لدخل ، فثبت أن عُمُومَ هذه الآية الكريمة يُفِيدُ عموم النفي عن كُلِّ الأشخاص ، وفي جميع الأحوال ، وذلك يَدُلُّ على أن أحَداً لا يرى الله - تعالى - في حالٍ من الأحوال . الثاني : أن عائشة - رضي الله عنها - لما أنكرت قَوْلَ ابْنِ عبَّاسِ - رضي الله عنه - في أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربَّهُ لَيْلَة المِعْراج تَمَسَّكَتْ بهذه الآية ، ولو لم تكن هذه الآيةُ تفيد العُمُومَ بالنسبة إلى كُلِّ الأشخاص ، وكُل الأحوال لما تَمَّ ذلك الاسْتِدلالُ ، وكانت من أعظم الناس بِلُغَةِ العربِ . الوجهُ الثاني : أن قوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَار } مَدْحٌ وثناء ، فوجب أن يكون قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } مَدْحاً وثناءً ، وإلاّ لزم أن يقال : إن ما ليس بِمَدْحٍ وثناء وَقَعَ في خلال ما هو مَدْحٌ وثناء ، وذلك يوجب الرَّكَاكَة وهي غير لائِقَةٍ بكلام الله - تبارك وتعالى - وإذا ثبت هذا فنقول : كل ما كان عَدَمُهُ مَدْحاً ، ولم يكن من باب الفِعْلِ كان ثُبُوتُهُ نَقْصاً في حقِّ الله - تبارك وتعالى - والنُّقْصانُ على الله مُحَالٌ ، واعلم أن القَوْمَ إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من بابِ الفعل ؛ لأنه تعالى تَمَدَّحَ بِنَفْي الظُّلم عن نفسه في قوله : { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] مع أنه تبارك وتعالى قَادِراً على الظُّلم عندهم ، وذكروا هذا القيد دَفْعاً لهذا النَّقْضِ عن كلامهم فهذا [ غاية ] تقرير كلامهم في هذا الباب . والجوابُ عن الأوَّل من وجوه . أحدها : لا نُسَلِّمُ أن إدْرَاكَ البَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ ، لأن لَفْظِ الإدْراكِ في اصل اللغة عبارة عن اللُّحُوقِ والوُصُول ؛ قال تعالى : { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُون } [ الشعراء : 61 ] أي لمُلْحَقُونَ ، وقال : { حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ } [ يونس : 90 ] أي : لحقه ، ويقال : أدرك فلان فلاناً ، وأدرك الغُلامُ الحلْمَ ، أي : بلغ ، وأدركت الثمرة ، أي : نَضَجَتْ ، فثبت أن الإدْراكَ هو الوُصُولُ إلى الشيء ، وإذا عُرِفَ هذا فنقول المرئِيُّ إذا كان له حَدُّ ونهايةٌ ، وأدْرَكَهُ البَصَرُ بجميع حُدُودهِ وجَوانبهِ ونهايته صَارَ ذلك الإبْصَارُ كأنه أحَاطَ به فَتُسَمَّى هذه الرُّويةُ إدْرَاكاً . أما إذا لم يُحِطِ البَصَرُ بجوانب المرئيِّ لم تُسَمَّ تلك الرؤية [ إدراكاً ، فالحاصل أن الرؤية ] جنس تحته نوعان : رؤية مع الإحاطة [ ورؤية لا مع الإحاطة ، والرؤية مع الإحاطة ] هي التي تسمى إدراكاً ، فنفي الإدراك يفيد نفي الجِنْسِ , فلم يلزم من نَفْي الإدْرَاكِ على الله - تعالى - نَفْيُ الرؤية عن الله ، وهذا وَجْهٌ حَسَنٌ في الاعْتِرَاضَ على كلامهم ، فإن قالوا : إنْ قلتم : إنَّ الإدْراك يُغَايِرُ الرؤية ، فقد أفْسَدْتُمْ على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تَمَسَّكْتُمْ بها في هذا الآية الكريمة على إثبات الرؤية . قلنا : هذا يفيد أنه إدْرَاكٌ أخَصُّ من الرُّؤيَةِ ، وإثبات الأخَصِّ يوجب إثبات الأعَمِّ ، أما نَفْيُ الأخَصِّ فلا يوجب نَفْيَ الأعَمِّ ، فثبت أن البَيَانَ الذي ذَكَرْنَاهُ يبطل كلامهم ، ولا يبطل كلامنا . وثانيها : أن نقول : هَبْ أن الإدْراكَ يفيد عموم النَّفْي عن كل الأشخَاصِ في كُلِّ الأحوال ، فلا نُسَلِّمُ أنه يفيد نَفْي العموم ، إلاَّ أن نَفْيَ العموم غير ، وعموم النفي غير , وقد دَلَّلْنَا على أن هَذَا اللَّفْظِ لا يفيد إلا نفي العموم ، وبَيَّنَّا أن نَفْيَ العموم يوجب ثبوت الخُصُوصِ . وأما قولهم : إن عَائِشَةَ تَمَسَّكَتْ بهذه الآية في نَفْي الرؤية ، فنقول : معرفة مفردات اللغة إنما تُكْتَسَبُ من علماء اللغة ، فأمَّا كيفية الاسْتِدْلالِ بالدليل ، فلا يُرْجَعُ فيه إلى التَّقْلِيدِ ، وبالجملة فالدليل العَقْلِيُّ دَلَّ على أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يفيد نفي العموم وثبت بصريح العَقْلِ أن نَفْيَ لعموم مُغَايِرٌ لعموم النَّفْيِ ، ومقصودهم إنما يَتِمُّ لو دلَّتِ الآية الكريمة على عُمُومِ النفي ، فَسَقَطَ كلامُهُمْ . وثالثها : أن نقول : صيغة الجَمْعِ كما تُحْملُ [ على الاستغراق فقد تُحْمَلُ ] على المعهود السَّابق أيضاً ، وإذا كان كذلك ، فقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } وهي الأحْدَاقُ وما دامتْ تبقى على هذه الصفات التي هي مَوْصُوفَةٌ به في الدنيا لا تدرك الله تعالى ، وإنما تدرك الله تعالى إذا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا ، وتغيَّرتْ أحوالها ، فَلِمَ قلتم ، إن حصول هذه التغيرات لا تدرك الله تعالى . ورابعها : سَلَّمْنَا أن الأبْصَارَ لا تُدْرِكُ الله - تبارك وتعالى - فَلِمَ لا يجوز حصول إدراك الله تبارك وتعالى بِحَاسَّةٍ سَادسةٍ مُغَايِرَةٍ لهذه الحواسِّ ، كما قال ضرار بن عمرو به ، وعلى ها التقدير فلا يبقى بالتمسُّكِ بهذه الآية الكريمة فَائدةٌ . وخامسها : هَبْ أن هذه الآية عامَّةٌ ، إلاَّ أنَّ الآيات الدَّالَّة على إثبات رؤة الله تعالى خَاصَّةٌ والخَاصُّ مُقدَّمٌ على العام ، وحينئذ ينتقل الكلام إلى أنَّ بيان أن تلك الآيات هل تَدُلُّ على حصول رؤية الله تعالى أم لا ؟ وسادسها : أن نقول بموجب الآية الكريمة ، فنقول : سلمنا أن الأبْصَارَ لا تدرك الله - تعالى - فمل قلتم : إن المُبْصِرينَ لا يُدْرِكُونَ الله تعالى . وأما الوجه الثاني فقد بَيَّنَّا أنه يمتنع حصول التَّمَدُّحِ بِنَفْي الرؤية لو كان تعالى في ذَاتِهِ بحيث تَمْتَنْعُ رؤيته ، ثم إنه تبارك وتعالى يَحْجُبُ الإبصار عن رُؤيَتِهِ فَسَقَطَ كلامهم بالكلية ، ثم نقول : إن النفي يمتنع أن يكون سَبَباً لحصول المَدْحِ والثناء ، لأن النَّفْيَ المَحْضَ , والعدم الصرف لا يكون سَبَباً مُوجِباً إلى المدح والثناء , والعلم به ضروري ، بل إذا كان النَّفْيُ دليلاً على حصول صِفَةٍ ثابتة من صفات المَدْحِ والثناء ، فإن ذلك النَّفْيَ يوجب المَدْحَ . مثال : أن قوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] أن هذا النفي في حقِّ الباري - تعالى - يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تَبَدُّلِ ولا زوالٍ ، وكذا قوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] يَدُلُّ على كونه قائماً بنفسه غَنِيَّاً في ذَاتِهِ ؛ لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم ، وإذا ثبت هذا فقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يمتنع أن يُفِيدَ المَدْحَ والثناء ، إلا إذا دَلَّ على معنى مَوْجُودٍ يفيد المَدْحَ والثناء ، وذلك هو الذي قلنا : إنه - تبارك وتعالى - قادرٌ على حَجْبِ الأبْصَارِ ، ومنعها عن إدراكه ورؤيته ، فانْقَلَبَ الكلامُ على المعتزلة ، وسَقَطَ الاستلال . واعلم أن القاضي ذَكَرَ وُجُوهاً أخر تَدُلُّ على نَفْيِ الرؤية ، وهي خَارِجةٌ عن التَّمْسُّكِ بهذه الآية الكريمة . فأولها : أن الحَاسَّة إذا كانت سَلِيمَةً ، وكان المرئي حَاضِراً ، وكانت الشرائط المعتبرة حَاصِلَةً ، وهو ألاَّ يحصل القُرْبُ القريب ، ولا البعد البعيد ، ولا يحصل الحِجَابُ ، ويكون المرئي مقابلاً ، أو في حكم المقابل ، فإنه يجب حُصُولُ الرؤية ؛ إذ لو جاز مع حُصُولِ هذه الأمور ألا تحصل الرؤية جَازَ أن يكون بِحَضْرَتَنَا بُوقَاتٌ وطبلاتٌ ولا نسمعها ولا نراها ، وذلك يوجب السَّفْسَطَة وإذا ثبت هذا فنقول : إن انْتِفَاءِ القُرْبِ القريب ، والبعد البعيد ، والحِجَاب ، وحُصول المُقابلةِ في حق الله - تعالى - ممتنع ، فلو صَحَّتْ رؤيته لوَجَبَ أن يكون المقتضي لِحُصُولِ تلك الرؤية هو سَلامَةُ الحَاسَّةِ ، وكون المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته . وثانيها : أنَّ كل ما كان مرئياً كان مُقَابِلاً ، أو في حكم المُقابلِ ، والله - تعالى - ليس كذلك ، فَوَجَبَ أن تمتنع رُؤيَتُهُ . وثالثها : قال القاضي : ويقال لهم كيف يراهُ أهلُ الجنة دون أهْلِ النار ، فإما أن يقرب منهم أو يقابلهم ، فيكون حاله معهم دُونَ أهْلِ النار ، وهذا يوجب أن جِسْمٌ يجوز عليه القرب والبعد والحِجَابُ . ورابعها : قال : أهْلُ الجَنَّة دون أهل النار يَرَونَهُ في كل حال عند الجِمَاعِ وغيره ، وهو بَاطِلٌ ، ويرونه في حالٍ دون حالٍ ، وهو أيضاً باطل ؛ لأن ذلك يوجب أنه - تبارك وتعالى - مرَّةً يقرب ، وأخرى يَبْعد ، وأيضاً فَرُؤيَتُهُ أعْظَمْ اللَّذَّاتِ , وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون مُشْتهين لتك الرُّؤيَةِ أبداً , فإذا لم يَرَوْهُ في بَعْضِ الأوقات وقعُوا في الغَمِّ والحُزْنِ ، وذلك لا يليق بصفات أهل الجَنَّةِ ، وهذه الوجوه في غاية الضَّعْفِ . أمَّا الأول : فيقال : هَبْ أن الأجْسامَ والأعراضَ عند سلامة الحاسَّةِ ، وحضور المرئي ، وحصل سائر الشَّرائط واجبة فلم قلتم : إنه يلزم منه وُجُوبُ حصول الرؤية إذا كان المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ ذَاتَهُ تعالى مُخَالِفَةٌ لسائر الذوات ، ولا يلزم من ثُبُوتِ حكمه في شيء ثُبُوتُ مثل ذلك الحكم فيما يُخَالِفُهُ . وأما الثاني : يقال النزاع وقع في أن الموجود الذي لا يكون مُخْتَصاً بمكان وجهَةٍ هل تجوز رؤيته أم لا ؟ فإما أن تدّعوا أن العلم بامْتِنَاع رُؤيَةِ هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة عِلْمٌ بديهي ، أو تقولوا : علم اسْتدلالِيُّ ، والأوَّلَ باطل ؛ لأنه لو كان العلم به بَدِيهياً لما وقع الخِلافُ فيه بين العقلاء ، وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العِلْمُ بَدِيهياً كان الاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الدليل عَبَثاً فاتركوا الدليل ، واكتفوا بِذِكْرِ هذه البديهية . وإن كان الثاني : فنقول قولكم المَرْئِيُّ يجب أن يكون مُقَابلاً ، و في حكم المقابل ، فلا فَائِدة في هذا الكلام إلا إعادة الدَّعْوَى . وأما الثالث : فيقال له : لم لا يجوز أن يقال : إنَّ أهل الجنَّةِ يرونه ، وأهل النار لا يرونه ؟ لا لأجل القرب والبعد ، بل لأنَّهُ - تعالى - يخلق الرؤية في عُيُون أهل الجنَّة ، ولا يَخْلُقُهَا في عُيُونِ أهل النار ، فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تَجْويزَهُ يُفْضِي إلى تَجْويز أن يكون بِحَضْرتِنَا بُوقَاتٌ وطَبْلاتٌ لا نراها ولا نسمعها ، كان هذا رُجُوعاً إلى الطريقة الأولى ، وقد سبق جوابها . وأما الرابع : فيقال : لم لا يجوز أن يُقَال : إنَّ المؤمنين بدون الله - تبارك وتعالى - في حالٍ دون حال [ وقوله : فإنه يقتضي أن يقرب منه مرة ويبعد أخرى ، فنقول : هذا عَوْدٌ إلى أن الإبْصَار لا يَحْصُلُ إلاَّ عند الشَّرائِطِ المذكورة وقد سَبَقَ جوابُهُ ، وقوله : الرؤية أعْظَمُ اللَّذَّاتِ ، فيقال له : إنَّها وإن كانت كذلك ، إلاَّ أنه لا يبعد أن يقال : يشتهونها في حالٍ دون حالٍ بدليل أن سَائِرَ لذَّاتِ الجنَّة , ومنافعها لَذِيذَةٌ طيبة ، ثم إنها تَحِصُلُ في حالٍ دون حالٍ ] فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها . وأما الدَّلالةُ الدَّالَّةُ على أن المؤمنين يَرَوْنَ الله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] . وقال مقاتل : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] قال مالك : لو لم يَرَ المُؤمِنُونَ ربَّهُمْ يوم القيامة لم يُعِدَّ الله للكفار الحِجَابَ ، وقال : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [ الإنسان : 20 ] بفتح الميم وكسر اللام على إحْدَى القراءات ، ولما طلب موسى عليه الصلاة والسلام من الله تعالى الرؤية دَلَّ ذلك على جوازِ رُؤيَةِ الله تعالى . وأيضاً علَّق الرؤية على اسْتِقرَارِ الجبل حيث قال : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] واستقرار الجَبَلِ جائز ، والمُعَلَّفُ على الجائز جائز . الوجوه الأربعة المُتقدِّمَةُ في أوَّلِ الآية الكريمة سيأتي الكلام عليها وعلى هذه الآيات ، وما يشبهها في الدِّلالةِ في مواضعها إن شاء اللَّهُ تعالى . وأمَّا الأخبار فكثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام : " سَتروْنَ ربَّكُمْ كَمَا تَروْنَ القمَرَ ليْلَةً البَدْرِ " وقال عليه السلام : " إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ عياناً " وقرأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] قال : " الحُسْنَى " هِيَ الجَنَّةُ و " الزِّيَادةُ هِيَ النَّظَرُ إلى وجْهِ اللِّهِ . واختلف الصحابة في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل رَأى رَبَّهُ ليلة المعراج ؟ ولم يُكَفِّرْ بعضهم بعضاً بهذا السَّبب ، ولا نَسَبَهُ إلى البِدْعَةِ والضلالة ، وهذا يَدُلُّ على أنهم كانوا مجتمعين على أنه لا امْتِنَاعَ عَقْلاً في رُؤيتِهِ تعالى ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصَحْبِهِ وسلَّمَ .