Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 104-104)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمَّا بيَّن بالبيِّنَاتِ الباهرة ، والدلائل القاهرة المطالب الإلهية عاد إلى تَقْرِير الدَّعْوَةِ والتبليغ والرسالة ، وإنما ذكر الفِعْلَ لشيئين : أحدهما : الفصل بالمفعول . والثاني : كون التأنيث مَجَازِياً . والبَصَائِرُ : جمع " بَصِيرَة " وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ومنه قيل للدَّمِ الدال على القتيل " مبصرة " والبصيرة مُخْتَصَّةٌ بالقلب [ كالبَصَرِ للعين ، هذا قول بعضهم . وقال الراغب : " ويقال لقوة القلب المُدْرِكة : " بَصِيرَةٌ وبَصَرٌ " ] قال تبارك وتعالى : { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [ القيامة : 14 ] وقال تعالى : { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [ النجم : 17 ] وتقدَّم تحقيق هذا في أوائل سوة " البقرة " . وأراد بالبَصَائِرِ الآيات المتقدمة ، وهي في نَفْسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إلا أنها لقوتها وجلائهَا تُوجِبُ البصائِرَ لمن عرفها ، ووقَفَ على حَقَائِقهَا ، فلما كانت سَبَباً لحصول البَصَائِرِ سميت بالبَصَائِرِ . قوله : " مِنْ ربِّكُمْ " يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله ، وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ لما قبله ، أي : بصائر كائنة من ربكم و " من " في الوجهين لابتداء الغاية مَجَازاً . قوله : " فَمَنْ أبْصَرَ " يجوز أن تكون شَرطيَّةً ، وأن تكون مَوصُولةً فالفاء جواب الشَّرطِ على الأوَّلِ ، ومزِيدَةٌ في الخبر لشبه الموْصُولِ باسم الشرط على الثُّانِي ، ولا بُدَّ قبل لام الجرِّ من مَحْذُوفٍ يَصِحُّ به الكلام ، والتقدير : فالإبْصَارُ لِنَفْسِهِ ، ومَنْ عَمِيَ فالعَمَى عليها ، فإلإبصار والعَمَى مُبْتَدآنِ ، والجارُّ بعدهما هو الخَبَرُ ، والفاء دَاخِلَةٌ على هذه الجملة الواقعة جواباً أو خبراً ، وإنما حُذِف مُبْتَدؤها للعلم به ، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا , فقال : " فلنفسه نَفْعُ ذلك ومن عَمِيَ فعليها ضَرَرُ ذلك " . وقال الزمخشري : " فَمْنْ أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ومن عمي فعليها ، أي : فعلى نفسه عَمِي ، وإياها ضر " . قال أبو حيَّان : وما قدَّرناه من المصدر أوْلَى ، وهو : فالإبصار والعمى لوجهين : أحدهما : أن المَحْذُوفَ يكون مفرداً لا جملة ، والجار يكون عُمْدَةً لا فَضْلَةً ، وفي تقديره هو المحذوف جملة ، والجار والمجرور فَضْلَة . والثاني : وهو أقوى ، وذلك أنه لو كان التقدير فِعْلاً لم تدخل الفاء سواء كانت شَرطيَّةً أم موصولة مشبهة بالشرط ؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دُعَاءً ولا جَامِداً ، ووقع جوابُ الشَّرطِ أو خبر مبتدأ مُشَبَّهٌ بالشرط لم تدخل الفاءُ في جواب الشرط ، ولا في خبر المبتدأ لو قلت : " من جاءني فأكرمته " لم يَجُزْ بخلاف تقديرنا ، فإنه لا بُدَّ فيه من الفاء ، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر . قال شهاب الدين : " وهذا التقدير الذي قدَّرهُ الزمخشري سبقه إليه الكَلْبِيُّ , فإنه قال : فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فلنفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّقْ فعلى نفسه جَنَى العذاب " وقوله : إن الفاء لا تَدْخُلُ فيما ذُكِرَ قد يُنازعُ فيه ، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ، ويظهر فيه أثَرُ الجَازِمِ كالمُضارعِ يجوز فيه دُخُولُ الفاء نحو : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فالماضي بدخولها أوْلَى وأحْرَى . فصل في بيان عود المنافع للبشر قال القاضي : إنه - تعالى - بيَّن لنا أن المنافِعَ تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تبارك وتعالى , وأيضاً إن المَرْءَ بِعُدُولِهِ عن النَّظَرِ يَضُرُّ بنفسه ، ولم يؤت إلاَّ من قبله لا من قبل ربِّهِ ، وأيضاً إنه متمكِّنٌ من الأمرين ، فلذلك قال : { فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَليْها } قال : وهذا يبطل قول المجبرة [ في أنه - تعالى - يكلف بلا قدرة ] وجوابه المعارضة بسؤال الداعي . قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : برقيب أحْصي عليكم أعمالكم ، إنما أنا رَسُولُهُ أبلغكم رِسالاتِ ربي ، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شَيءٌ من أعمالكم . فصل في معنى الآية قال المفسرون : هذا كان قبل الأمْرِ بالقتالِ ، فلما أمِرَ بالقتال صار حَفِيظاً عليهم ، ومنهم من يقول : آيَةُ القِتَالِ نَاسِخَةٌ لهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد ؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ .