Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 106-107)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما حَكَى عَن المُشْرِكين أنَّهُم يَنْسِبُونه في إظْهَار هذا القُرْآن العظيم إلى الافْتِرَاء ، وإلى مُدَارسة من يَسْتَفِيد هذه العلُوم مِنْهُم ، ثمَّ ينظِّمُهَا قُرْآناً ، ويدَّعي أنَّه عليه من اللَّه ، أتبعه بقوله : { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك } لئلا يصير ذلك القول سَبَباً لفتوره عن تَبْلِيغ الدَّعْوَة والرِّسالة ، والمقصُود : تقوية " قَلْبِه " ، وإزالة الحُزْن الذي حَصَل بسَمَاع تلك الشُّبْهَة . قوله : " ما أوحِي " يجُوز أن تكُون " ما " : اسميَّة ، والعائد هو القائمُ مقام الفاعل ، و " إليك " : فَضْلَه ، وأجَازُوا أن تكون مَصْدَريَّة ، والقائِم مقام الفاعل حينئذٍ : الجار والمجرُور ، أي : الايحاء الجَائِي مِنْ ربِّك ، و " مِنْ " لابْتِدَاء الغاية مَجَازاً ، فـ " مِنْ ربِّك " : متعلِّقٌ بـ " أوحِيَ " . وقيل : بل هُو حالٌ من " ما " نَفْسِها . وقيل : بل هُو حالٌ من الضَّمير المُسْتترِ في " أوحِيَ " وهو بِمَعْنَى ما قَبْلَه . وقوله : " لا إلهَ إلاَّ هُو " جملة مُعْتَرِضة بَيْن هاتَيْن الجُمْلَتيْن الأمْرِيَّتيْن ، هذا هو الأحْسن . وجوّز أبُو البقاءِ أن تكُون حالاً من " ربِّك " وهي حالٌ مؤكِّدَةٌ ، تقديره : من ربِّك مُنْفَرِداً . قوله : " وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكين " أي : لا تُجَادِلْهم . وقيل : المرادُ : ترك المُقاتَلة ؛ فلذلك قالوا : إنَّه مَنْسوخٌ ، وهذا ضعيف ؛ لأن الأمْر بترك المُقاتلة في الحالِ لا يُفِيدُ الأمر بِتَرْكِها دائماً ، وإذا كان الأمْر كذلك لم يَجِبِ التزام النَّسْخ . قوله : " ولوْ شَاء اللَّه " مفعول المشيئة مَحْذُوف ، أي : " لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم " وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه ، والمعنى : لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار ، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم ، لَقَدَرْت ، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم ، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم . وتمسَّك أهل السُّنَّة بقوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ } والمعنى : لو شَاءَ ألاَّ يُشْرِكوا ، ما أشْرَكوا ، وحيث لَمْ يَحْصُلِ الجَزَاء ، لم يَحْصُل الشَّرْط . وقالت المُعتزلَة : ثبت بالدَّلِيل أنَّه - تعالى - أراد مِنَ الكُلِّ الإيمان ، وما شَاءَ من أحدٍ الكُفْر ، وهذه الآيَة الكريمة تَفْتَضِي : أنَّه - تعالى - ما شَاءَ من الكُلِّ الإيمانَ ؛ فوجب التَّوفيق بين الدَّليليْن ، فيحمل مَشِيئةِ اللَّه لإيمانهم ، على مَشِيئة الإيمان الاخْتِيَاريِّ الموجبِ للثُّواب ، ويحمل عدم مشيئته لإيمانِهِم ، على الإيمان الحاصِل بالقَهْر والجَبْر ، يعني : أنه - تبارك وتعالى - ما شاء أن يَحْمِلَهُم على الإيمان على سبيل القَهْر والإلْجَاء ؛ لأنَّ ذلك يُبْطِل التَّكْليف ، ويخرج الإنْسَان عن اسْتِحقاق الثَّواب . والجواب من وُجُوهٍ : أحدها : أنه - تبارك وتعالى - ما شَاءَ مِنْهُم أن يَحْمِلَهم على الإيمان على سَبِيل القَهْر وهو الذي أقْدَر الكَافِر على الكُفْر فَقُدْرَةٌ الكُفْر إن لم تَصْلُح للإيمان ، فخالِقُ تلك القُدْرَة لا شكَّ أنه كان مُريداً للكُفْر ، فإن كانت صَالِحة للإيمان ، لَمْ يَتَرجَّحْ جانب الكُفْرعلى جَانِب الإيمان ، إلاَّ عند حصولِ داعٍ يَدْعُو إلى الإيمان ، وإلاَّ لَزِم رُجْحان أحد طرَفِي المُمْكِن على الآخَر [ لا ] لمرجِّح . وهو مُحَالٌ ، ومَجْمُوع القُدْرَة مع الدَّاعِي إلى الكُفْر ، يُوجِب الكُفْرَ , فإذا كان خالِق القُدْرة والدَّاعِي هو اللَّه - تعالى - ، وثبت أنَّ مَجْمُوعَهما يوجِبُ الكُفْر ، ثبت أنَّ الله - تعالى - أراد الكُفْر من الكافِرِ . وثانيها : أنَّ الله - تبارك وتعالى - كان عالماً بعدم الإيمان من الكَافِر ، ووجُود الإيمَان مع العِلْم بِعدم الإيمان مُتضَادَّانِ ، ومع وُجودِ أحَد الضِّدَّيْن كان حُصُول الضدِّ الثاني محالاً ، مع العِلْمِ بِكَوْنه محالاً غير مُرَادٍ ، فامْتَنَع أن يُقال : إنه - تعالى - يريد الإيمان من الكافر . وثالثها : هَبْ أن اإيمان الاخْتِيَاري أفْضلُ وأنْفع من الإيمان الحَاصِل بالجَبْر والقَهْر ، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما عَلِم أنَّ ذلك النَّفْع لا يَحْصُل ألْبَتَّةَ ، فقد كان يَجِبُ في رَحْمَته وحكمته ، أن يخلق فيهم الإيمان على سَبِيل الإلْجَاء ؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يُوجِب الثُّواب العظيم ، فأقَل ما فيه أن يُخَلِّصَه من العِقَاب العَظيم ، وتَرْك إيجَاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلْجَاء ، يُوجِب وقوعَهُ في أشَدِّ العذاب ، وذلك لا يَلِيقُ بالرَّحمة والإحْسان ، كما إنَّ الوالد إذا كان له ولدٌ عزيزٌ ، وكان الأبُ في غَاية الشَّفَقَة ، وكان الولدُ واقفاً على طَرف البَحْر , فيَقُول له الوالد : غُصْ في قَعْر هذا البَحْر ؛ لتَسْتَخْرِج اللآلِئ العظيمة الرَّفيعة الغَالِية ، وعلِم الوالد قَطْعاً أنَّه إذا غَاصَ في البَحْر ، هَلَك , فهذا الأبُ وإن كان مُشْفِقاً عليه , وجب عليه أنْ يَمْنَعَهُ من الغَوْص في قَعْر البَحْر , ويقول له : أترك طلب اللآلِئ ، فإنَّك لا تَجِدُها وتَهْلَك ، والأوْلى لك أن تَكْتَفِي بالرِّزق القَلِيل مع السَّلامة ، فأما أنْ يَأمُرَه بالغَوْص في قَعْر البحر مع تيقّن الهلاك ، فهذا يدلُّ على عَدَم الرَّحْمة ؛ وكذا هَهُنَا . قوله : " وَمَا جَعَلْنَاكَ " " جعل " بمعنى : صيَّر فالكافُ مَفْعُول أوَّل , و " حَفِيظاً " هو الثّاني , و " عَلَيْهِم " متعلِّق به , قُدِّم للاهْتِمَام أو لِلْفواصِل , ومَفْعُول " حَفِيظ " مَحْذُوف ، أي : " حفيظاً عليهم أعْمالهم " . قال أبُو البقاء : " هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه في إعْمَال فَعِيل " يعني : أنه مِثالُ مُبالَغة ، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه ، ونفاه غَيْرُه . [ قال شهاب الدين ] : وكيف يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ ؟ قوله : " وَمَا أنْتَ " يجُوز أن تَكُون " مَا " الحجازية ؛ فيكُون " أنْتَ " : اسْمُهَا ، و " بوكيل " : خبرها في مَحَلِّ نصْب ، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة ؛ فيكون " أنْتَ " : مبتدأ و " بوكيل " : خَبَره في محلِّ رفع ، والباءُ زائدة على كلا التَّقْديرين ، و " عليهم " : متعلِّق بوكيل قُدِّم لما تقدَّم فيما قَبْلَه ، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها ؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم ، وهو بِمَعْنَى : ما جَعَلْنَاكَ حفيظاً عليهم ، أي : رقيباً . واعلم أنه - تبارك وتعالى - لما بيَّن أن لا قُدْرَةَ لأحد على إزالة الكُفْر عَنْهُم ، ختم الكلام بما يَكْمُل معه تَبْصير الرَّسُول ؛ لأنَّه لما بيَّن له قَدْر مَا جَعَل إلَيْه ، فذكر أنَّه ما جَعَله عليْهم حَفِيظاً ولا وَكِيلاً ، وإنَّما فوَّض إليه البَلاغ بالأمْر ، والنَّهْي ، والبَيَان بذكر الدَّلائل ، فإن انْقَادُوا للقَبُول ، فنفعه عَائِدٌ إلَيْهم ، وإلا فضرَرُه عَائِدٌ إليهم . قال عطاء : وما جَعَلْنَاك عليهم حَفِيظاً : تمنعهم منِّي ، أي : لم تُبْعَثْ لِتَحْفَظ المُشْرِكين من العذاب ، إنما بُعِثْت مُبَلِّغاً ، وما أنت عليهم بِوَكيل على سَبيل المَنْع لَهُم .