Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 105-105)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما شرع في إثبات النُّبُواتِ بدأ بِحِكَايَةِ شُبُهاتِ المنكرين لِنُبُوةِ محمد صلى الله عليه وسلم . الشُّبْهَةُ الأولَى : قولهم : يا محمد إن هذا القرآن الذي جئْتَنَا به كلامٌ تَستفِيدُهُ من مُدَارَسَةِ العلماء ، وتُنَظِّمُهُ من عند نفسك ، ثم تقرؤه علينا ، وتزعم أنه وَحْيٌ نُزِّلَ عليك من عند الله تعالى . و " الكاف " في محلِّ نصب نَعْتٌ لمصدر محذوف ، فقدَّرَهُ الزجاج : ونُصَرِّفَ الآياتِ مِثْلَ ما صَرَّفْنَاها فيما تُلِيَ عليكم ، وقدَّره غيره : نُصَرِّفُ الآيات في غير هذه السُّورةِ تَصْرِيفاً مثل التصريف في هذه السورة . والمراد بالتَّصْرِيفِ أنه - تبارك وتعالى - يأتي بها مُتَوَاتِرَة حالاً بعد حالٍ . قوله : " ولِيَقُولُوا " الجمهور على كسر اللام كي ، والفِعْلُ بعدها منصوب بإضمار " أن " فهو في تَأويل مصدر مَجْرُورٍ بها على ما عرف [ غير مرَّةٍ ] ، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصَّيْرُورةِ ، كقوله تبارك وتعالى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وكقوله : [ الوافر ] @ 2279 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ … @@ أي : لما صار أمرهم إلى ذلك عَبِّرَ بهذه العبارةِ ، والعِلَّةُ غير مُرَادَةٍ في هذه الأمثلة ، والمُحَقِّقُونَ يأبَوْنَ جَعْلَهَا للعاقبة والصَّيْرُورةِ ، ويُؤوِّلُونَ ما وَرَدَ من ذلك على المَجَازِ . وجوَّز أبو البقاء فيها الوجهين ؛ أعني كونها " لام " العاقبة ، أو العلّة حقيقة ، فإنه قال : " واللام لام العاقبة ، أي : إن أمرهم يَصِيرُ إلى هذا " . وقيل : إنه قَصَدَ بالتصريف أن يقولوا : درست عقوبة لهم ، يعني : فهذه عِلَّةٌ صَرِيحَة ، وقد أوضح بعضهم هذا ، فقال : المعنى : يُصَرِّفُ هذه الدلائل حالاً بعد حالٍ ليقول بعضهم : دارست فيزدادوا كُفْراً ، وتَنْبِيهٌ لبعضهم فَيَزْدادُوا إيماناً ، ونحو : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] وأبو علي جعلها في بَعْضِ القراءات لام الصَّيْرُورَةِ ، وفي بعضها لام العلّة ؛ فقال : واللام في " ليقولوا " في قراءة ابن عامر ، ومَنْ وافقه بمعنى : لئلاً يقولوا ؛ أي : صُرِّفَت الآيات ، وأحْكِمَتْ لئلا يقولوا : هذه أسَاطيرُ الأوَّلينَ قديمة قد بَلِيَتْ وتَكَرَّرَتْ على الأسْماع ، واللام على سائر القراءاتِ لام الصَّيْرُورةِ . قال شهاب الدين : قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أكَلَتْ وسَرَقَتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات ، وسيأتي تحقيق القراءات في هذا الكلمة مُتَواتِرِهَا وشَاذِّهَا . قال أبو حيَّان : " وما أجَازَهُ من إضمار " لا " بعد اللام المضمر بعدها " أنْ " هو مذْهَبٌ لبعض الكوفيين ، كما أضمروها بعد " أنْ " المُظْهَرَة في { أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ولا يجيز البَصْرِيُّونَ إضْمَارَ " لا " إلا في القَسَمِ على ما تَبَيَّنَ فيه " . ثم هذه " اللام " لا بد لها من مُتعلِّقٍ ، فقدَّرَهُ الزمخشري وغيره مُتَأخِّراً ، قال الزمخشري : " وليقولوا " جوابه مَحْذُوف ، تقديره : وليقولوا دَرَسَتْ تُصَرِّفُهَا . فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين اللاَّمَيْنِ في " ليقولوا " و " لنُبَيِّنَهُ " ؟ قال شهاب الدين : الفَرْقُ بينهما أن الأولَى مَجَازٌ ، والثانية حَقيقَةٌ ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين ، ولم تُصْرَفْ ليقولوا : دارست ، ولكن لأنه لمَّا حَصَلَ هذا القولُ بتصريف الآيات كما حَصَلَ للتَّبْيينِ شبِّه به فسِيقَ مَسَاقَةُ . وقيل : ليقولوا كما قيل لِنَبيهِ . قال شهاب الدين : فقد نَصَّ هنا على أنَّ لام " ليقولوا " عِلَّةٌّ مَجَازِيَّة . وجوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نَسَقاً على عِلًّة محذوفة . قال ابن الأنباري : " خلت الواو في " وليقولوا " عطفاً على مضمر ، التقدير : وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهُمُ الحجة وليقولوا " . قال شهاب الدين وعلى هذا فاللام مُتعلِّقَةٌ بفعل التَّصْرِيف ، من حَيْثُ المعنى ، ولذلك قَدَّرَهُ مَنْ قدَّرَهُ مُتَأخِّراً بـ " نُصَرِّف " . وقال أبو حيَّان : " ولا يتعيَّنُ ما ذكره المُعْرِبُونَ والمُفَسِّرُونَ من أن اللام لام كي ، أو لام الصَّيْرُورةِ ، بل الظاهر أنها لامُ الأمْرِ والفعل مَجْزُومٌ بها ، ويُؤيِّدُهُ قرءاة من سَكَّنَ اللام ، والمعنى عليه يَتَمكَّنُ ، كأنه قيل : وكذلك نُصَرِّفُ الآيات ، وليقولوا هم ما يقولون من كَوْنِهَا دَرَسْتَهَا وتعلَّمْتَها أو دَرَسَتْ هي ، أي : بَلِيَتْ وقدُمَتْ ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم وهو أمْرٌ معناه الوعيدُ والتهديد ، وعدمُ الاكتراثِ بقولهم ، أي : نُصَرِّفُهَا وليدَّعُوا فيها ما شَاءُوا ، فإنه لا إكْتِرَاث بِدَعْوَاهُمْ " . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المعنى على ما قالهُ النَّاسُ وفهموه ، وأيضاً فإن بعده " ولنبيِّنَهُ " وهو نَصٌّ في لام كي ، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشَّاذَّةِ ، فلا يَدُلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنَتْ إجْرَاء للكلمة مُجْرَى : كَتِف وكَبِد . وقد رَدَّ أبو حيان على الزمخشري ؛ حيث قال : " وليقولوا جوابه محذوف " فقال : وتَسمِيَتُهُ ما يتعلَّقُ به قوله : " وليقولوا " جواباً اصْطِلاحٌ غريب لا يقال في " جئت " من قولك : " جئت لتقوم " إنه جواب . قال شهاب الدين : هذه العبارةُ قد تكرَّرَتْ للزمخشري ، وسيأتي ذلك في قوله : { وَلِتَصْغَىۤ } [ الأنعام : 113 ] أيضاً . وقال الشيخ هناك : " وهذا اصْطِلاحٌ غريب " . والذي يظهر أنه إنما يُسَمَّى هذا النحو جواباً ، لأنه يَقَعُ جواباً لسائل ؛ تقول : أين الذي يتعلَّق به هذا لجار ؟ فيجاب به ، فسُمِّي جواباً بهذا الاعْتِبَار ، وأضيف إلى الجارِّ في قوله : " وليقُولُوا " جوابه ؛ لأن الإضافة تقع بأدْنَى مُلابَسَةٍ ، وإلا فكلامُ إمَامٍ يَتَكَرَّرُ لا يُحْمَلُ على فَسَادٍ . وأما القراءات التي في " درست " فثلاث في المتواتر : فقرأ ابن عامر : " دَرَسَتْ " بِزِنَةِ : ضَرَبَتْ ، وابن كثير وأبو عمرو " دَارَسْتَ " بِزِنَةِ : قَابَلْتَ أنت ، والباقون " دَرَسْتَ " بِزِنَةِ ضَرَبْتَ أنت . فأمَّا قراءة ابن عامر : فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ ، وتكرَّرَتْ على الأسْمَاعِ ، يشيرون إلى أنها من أحَادِيثِ الأوَّلينَ ، كما قالوا : " أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ " . وأما قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو : فمعناها : دَارَسْتَ يا محمد غَيْرَكَ من أهْلِ الأخبار الماضية ، والقرون الخالية حتى حَفِظْتَهَا قَفُلْتَهَا ، كما حكى عنهم فقال : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } [ النحل : 103 ] . وفي التفسير : أنهم كانوا يقولون : هو يُدَارِسُ سَلْمَانَ وعَدَّاساً . وأما قراءة الباقين : فمعناها : حَفِظْتَ وأتْقَنْتَ بالدَّرْسِ أخبارَ الأوَّلين ، كما حُكِيَ عنهم { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] أي : تكرر عليها بالدرس يحفظها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : وليقولوا أهل " مكة " حين تَقْرَأُ عليهم القرآن : ودَرَستْ تعلمت من يسارٍ وجبر ، وكانا عَبْدَيْنِ من سَبي الروم قرأت علينا تَزْعُمُ أنه من عند الله . حكى الواحدي في قوله : درس الكتاب قولين : الأول : قال الأصمعيُّ : أصله من قولهم : درس الطعام إذا دَرَسَهُ يَدْرُسُهُ دراساً ، والدَّرْسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أهل " الشام " ، قال : ودرس الكلام من هذا ، أي : يدرسه فيخفُّ على لسانه . والثاني : قال أبو الهيثم : درست الكتاب ، أي : ذللته بكثرةِ القراءة خَفَّ حِفْظُهُ من قولهم : درست الثوب أدْرُسُهُ دَرْساً ، فهو مَدْرُوسٌ ودَرِيسٌ ، أي : أخْلَقْتُهُ ، ومنه قيل للثوب الخلق : دريسٌ لأنه قد لان والدراسةُ الرياضة ، ومنه درست السُّورة حتى حفظتها قال الواحدي : وهذا القول قريب مما قال الأصمعيُّ ، بل هو نفسه لأن المعنى يعود إلى التَّذْليل والتَّلْيين . وقرئ هذا الحرف في الشَّاذِّ عشر قراءات أخر فاجتمع فيه ثلاثة عشرة قراءة ؛ فقرا ابن عباس بخلاف عنه ، وزيد بن علي ، والحسن البصري ، وقتادة " دُرِسَتْ " فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الإناث ، وفسَّرها ابن جنيِّ والزمخشري بمعنيين في أحدهما إشكال . قال أبو الفتح : " يحتمل أن يُرَادَ عَفَتْ أو بَلِيَتْ " . وقال أبو القاسم : " بمعنى قُرِئَتْ أو عُفِيَتْ " . قال أبو حيَّان : " أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهِرٌ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّرَ القراءة متعدِّ ، وأما " دَرَس " بمعنى بلي وانمحى فلا أحْفَظُهُ متعدياً ، ولا وَجَدْنا فيمن وقَفْنَا على شعره [ من العرب ] إلا لازماً " . قال شهاب الدين : لا يحتاج هذا إلى استقراء ، فإن معناه لا يحتمل أن يكون متعدياً ؛ إذْ حَدَثُهُ لا يتعدَّى فاعله ، فهو كـ " قام " و " قعد " فكما أنا لا نحتاج في مَعْرِفةِ قصور " قام " و " قعد " إلى استقراءٍ ، بل نَعْرِفُهُ بالمعنى ، فكذا هذا . وقرئ " دَرَّسْتَ " فعلاً ماضياً مشدّداً مبنياً للفاعل المخاطب ، فيحتمل أن يكون للتكثير ، أي : دَرَّسْتَ الكُتُبَ الكثيرة كـ " ذبَّحت الغنم " ، و " قَطَّعْتُ الأثواب " وأن تكون للتَّعديَةِ ، والمفعولان محذوفان ، أي : دَرَّسْتَ غيرك الكتاب ، وليس بظاهرٍ ؛ إذ التفسير على خلافه . وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مَبْنيُّ للمفعول ، أي : دَرَّسَكَ غَيْرُكُ الكتب ، فالتضعيف للتعدية لا غير . وقرئ " دُوْرِسْتَ " مسنداً لتاء المُخاطبِ من " دَارَس " كـ " قاتل " إلا أنه بُنِيَ للمفعول ، فقلبت ألِفُهُ الزَّائدة واواً ، والمعنى : دارسَكَ غَيْرُكَ . وقرئ " دَارَسَتْ " بتاء ساكنة للتأنيث لَحِقَتْ آخر الفعل ، وفي فاعله احتمالان : أحدهما : أنه ضمير الجَمَاعَةِ أضْمِرَتْ ، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي : دراستك الجمَاعَةُ يُشيرون لأبي فكيهة ، وسلمان ، وقد تقدَّم ذلك في قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو رحمهما الله تعالى . والثاني : ضمير الإناث على سبيلِ المُبالغةِ ، أي : إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ ، وإن كان المراد أهْلَهَا . وقرئ " دَرُسَتْ " بفتح الدال ، وضم الراء مُسْنَداً إلى ضمير الإناث ، وهو مُبالغةٌ في " دَرَسَتْ " بمعنى : بَلِيَتْ وقدُمَتْ وانمحَتْ ، أي : اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا . وقرأ أبَيُّ " دَرَسَ " وفاعله ضمير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أو ضمير الكتاب بمعنى قرأهُ النَّبِيُّ ، وتلاهُ ، وكُرِّرَ عليه ، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى ، وهكذا في مصحف عبد الله " دَرَسَ " . وقرأ الحسنُ في رواية " دَرَسْنَ " فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإناثِ هي ضمير الآيات , وكذا هي في بَعضِ مصاحفِ ابن مسعود . وقرئ " دَرَّسْنَ " كالذي قبله إلا أنه بالتَّشديد بمعنى اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا ، كما تقدم . وقرئ " دَارِسَاتٌ " جمع " دَارِسَة " ؛ بمعنى : قديمات ، أو بمعنى ذات دُرُوس ، نحو : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] و { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] وارتفاعها على خبر ابتداء مضمرٍ ، أي : هُنَّ دارسات ، والجملة في محلِّ نصب بالقولِ قبلها . قوله : " ولنبيِّنَه " تقدم أنَّ هذا عطفٌ على ما قَبْلَهُ ؛ فحكمه حُكْمُه ، وفي الضمير المَنْصُوب أربعةُ احتمالات : أحدها : أنه يَعُود على الآياتِ ، وجاز ذلك وإن كانت مُؤنَّثَة ؛ لأنَّها بِمَعْنَى : القُرآن . الثاني : أنَّه يَعُود على الكتاب ، لدلالة السِّياق عليه ، ويُقَوِّي هذا : أنَّه فاعل لـ " دَرَسَ " في قَراءة مَنْ قَرَأه كذلك . الثالث : أنَّه يَعُود على المصدَر المفهوم من نُصَرِّف ، أي : نبيِّن التَّصْريف . الرابع : أنه يَعُود على المَصْدَر المفْهُوم من " لِنُبَيِّنه " أي : نُبَيِّن التَّبْين ، نحو : " ضَرَبْتُه زَيْداً " أي : " ضربت الضَّرْب زَيْداً " ، و " لقوم " معلِّقٌ بالفعل قبله ، و " يعْلَمُون " : في محل جرٍّ صفة للنَّكرة قبلها . قال ابن عباس - ضي الله عنهما - يُريد أوْلِياءَهُ الذين هداهم إلى سبيل الرَّشاد . وقيل : نصرِّف الآيات ليشقَى بها قَوْم ، ويَسْعد بها آخرون ؛ فمن قال : " دَرَسْت " فهو شقي ، ومن تَبيَّن له الحقُّ ، فهو سِعِيدٌ .