Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 113-113)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في هذه اللاَّم ثلاثة أوْجُه : أحدها : أنها لام " كَيْ " والفِعْل بعدها مَنْصُوب بإضمار " أن " وفيما يتعلَّق به احتمالان : الاحتمال الأول : أن يتعلَّق بـ " يُوحِي " على أنَّها نَسَق على " غُرُوراً " و " غُرُوراً " مفعول له ، والتقدير : " يوحي بَعْضُهم إلى بَعْض للغُرُور وللصَّغْو " ، ولكن لما كان المَفْعُول له الأوَّل مُسْتَكْمِلاً لِشُروط النَّصْب ، نُصِب ، ولما كان هذا غير مُسْتكملٍ للشُّروطِ ، وصل الفعل إليه بِحَرف العِلَّة ، وقد فَاتَه من الشَّروط كونه لم يتَّحِد فيه الفَاعِل ، فإنَّ فاعل الوحي : " بَعْضُهم " ، وفاعل الصَّغْو : " الأفئدة " وفات أيضاً من الشُّروط صَريح المصدريَّة . والاحتمال الثاني : أن يتعلَّقِ بِمَحْذُوف متَأخِّر بَعْدَها ، فقدَّره الزَّجَّاج ، ولِتَصْغى إليه فَعَلُوا ذَلِك ، وكذا قدَّره الزَّمَخْشَرِي ، فقال : ولِتَصْغى جَوَابُه مَحْذُوف ، تقديره : وليكون ذَلِك جَعَلْنا لكُلِّ نبي عدُواً على أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة . والوجه الثاني : أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة وهي الَّتِي يعبِّرون عنها بِلام العاقِبَة ، وهي رأي الزَّمَخْشَري ، كما تقدَّم حكايته عنه . الوجه الثالث : أنها لام القَسَم . قال أبو البقاء : " إلا أنَّها كُسِرتْ لمَّا لم يؤكد الفِعْل بالنُّون " وما قَالَه غير مَعْرُوف ، بل المَعْرُوف في هذا القَول : أنَّ هذه لام كَيْ ، وهي جوابُ قسم مَحْذُوف ، تقديره : واللَّه لتَصْغَى فوضع " لِتَصْغَى " موضع " لَتَصْغَيَنَّ " فصار دواب القَسَم من قَبِيل المُفْرَد ؛ كقولك : " والله ليقومُ زيد " أي : " أحْلِفُ بالله لَقيامُ زيد " هذا مَذْهبُ الأخْفَش وأنشد : [ الطويل ] @ 2289 - إذَا قُلْتُ قَدْنِي قَالَ بِاللَّه حَلْفَةً لِتُغْنِيَ عَنِّي ذَا إنَائِكَ أجْمَعَا @@ فقوله : " لتُغْني " جواب القَسَم ، فقد ظَهَر أن هذا القَائِل يَقُول بكونها لام كي ، غاية ما في الباب أنَّها وقعت مَوْقِع جواب القَسَم لا أنَّها جوابٌ بِنَفْسِها ، وكُسِرَتْ لمَّا حُذِفَتْ منها نون التَّوكيد ، ويدلُّ على فساد ذلك ، أنَّ النُّونَ قد حُذِفَتْ ، ولامَ الجواب بَاقِية على فَتْحِها ، قال القَائِل في ذلك : [ الطويل ] @ 2290 - لئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ @@ فقوله : " لَيَعْلَمُ " جوابُ القَسَم الموطَّأ له باللاَّم في " لَئِنْ " ومع ذلك فَهِي مَفْتُوحة مع حَذْفِ نُونِ التَّوْكِيد . والضَّمِير في قوله : " مَا فَعَلُوه " وفي : " إليه " يَعُود : إمَّا على الوَحْي ، وإمَّا على الزُّخْرُف ، وإما على القَوْل ، وإمَّا عَلَى الغُرُور ، وإمّا على العداوة ؛ لأنَّها بمعنى : التَّعَادي . ولتصغى أي تميل وهذ المادَّة تدل على الميْل ، ومنه قوله - تعالى - : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، وفي الحديث : " فأصْغى لها الإنَاء " وصاغِيَةُ الرجل : قَرَابَتُه الَّذِين يَمِيلون إليه ، وعين صَغْوى أي : مائِلَة ، قال الأعْشَى : [ الطويل ] @ 2291 - تَرَى عَيْنَهَا صَغْوَاء فِي جَنْبِ مُؤقِهَا تُرَاقِبُ فِي كَفِّي القَطِيعَ المُحَرَّمَا @@ والصَّغَا : مَيْلٌ في الحَنَك والعَيْن ، وصغت الشمس والنجوم : أي مالت للغُرُوب . ويقال : " صَغَوْتُ ، وصَغِيتُ وصَغَيْتُ " فاللاَّم واو أو ياء ، ومع الياء تُكْسَرُ عين المَاضِي وتُفْتَحُ . قال أبو حيَّان : " فَمَصْدر الأوَّل صَغْوٌ ، والثَّاني صُغيُّ والثالث صَغاً ، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين " . قال شهاب الدِّين : قد حَكَى الأصْمَعِيُّ في مصدر صَغَا يَصْغُوا صَغاً ، فليس " صَغاً " مُخْتَصاً بكونه مَصْداً لـ " صَغِي " بالكَسْر . وزاد الفرَّاء : " صُغِياً " و " صُغُواً " بالياء والواو مُشَدَّدتين ، وأما قوله : " ومُضارِعُها ، أي مُضارع الأفعال الثلاثة : يَصْغَى بِفَتْح الغين " فقد حكى أبُو عُبَيْد عن الكسَائِي : صَغَوتُ أصْغُو ، وكذا ابن السِّكِّيت حَكَى : صَغَوتُ أصْغُو ، فقد خَالَفُوا بين مُضارعِها ، وصَغَوْتُ أصْغُو هو القياس الفَاشِي ، فإن فعل المُعْتَل اللاَّم بالواو قِيَاس مُضَارعه : يَفْعُل بضمِّ العَيْن . وقال أبو حيَّان أيضاً : " وهي - يعني الأفعال الثلاثة - لازمة " أي : لا تتعدَّى ، وأصْغَى مثلْها لازم ، ويأتِي متعدِّياً ، فتكون الهَمْزَة للنَّقْل ، وأنشد على " أصْغَى " اللاَّزم قول الشاعر : [ البسيط ] @ 2292 - تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ زَيَغٌ وَفِيهِ إلى التَّشْبيه إصْغَاءُ @@ قال شهاب الدِّين : ومثله قول الآخر : [ البسيط ] @ 2293 - تُصْغِي إذَا شَدَّهَا بالرَّحْلِ جَانِحَةً حَتَّى إذا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَأ تَثِبُ @@ وتقول : أصْغَى فُلان بأذُنه إلى فُلان , وأنْشِد على " أصْغَى " المتعدِّي قول الآخر : [ البسيط ] @ 2294 - أصَاخَ مِنْ نَبْأةٍ أصْغَى لَهَا أذُناً صِمَاخُهَا بِدَخِيسِ الذَّوْقِ مَسْتُورُ @@ وفي الحديث : " فأصْغَى لها الإنَاء " وهذا الذي زَعَمه من كَوْن صغَى ، أو صَغِيَ ، أو صَغاً يكون لازماً غير مُوافَقٍ عليه ، بل قد حَكى الرَّاغب أنه يُقَال : صَغَيْتُ الإنَاء وأصغَيْتُه [ وصَغِيت بكسر الغَيْن ] يُحْتَمل أن يَكُن من ذَوَات اليَاءِ ، ويُحْتَمل أن يكُون من ذَواتَ الواوِ ، وإنَّما قُلِبَت الواوُ ياءً ؛ لانكسار ما قَبْلَها ؛ كقَوِي ، وهُو من القُوَّة . وقراءة النَّخْعِي ، والجَرَّاح بن عبد الله : " ولِتُصْغَى " من أصغَى رباعياً وهو هُنا لاَزِم . وقرأ الحسن : " وَلْتَصْغى وليَرْضَوْه ولْيَقْتَرِفوا " بسكون اللاَّم في الثَّلاثة ، وقال أبو عمرو الداني : " قراءة الحَسَن إنَّما هُو : " ولِتَصْغِي " بكَسْر الغَيْن " . قال شهاب الدِّين : فتكون كقراءة النَّخَعِيِّ . وقيل : قرأ الحسن : " ولتصغي " بكَسْر اللاَّم كالعامَّة ، ولْيَرْضوه ولْيَقْتَرِفوا بسكون اللاَّم ، خرَّجوا تَسْكين اللاَّم على أحَدِ وَجْهَين : إمَّا أنها لام كي ، وإنَّما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع بَعْدها مُجْرى كَبِد ، ونَمِر . قال ابن جِنِّي : " وهو قَوِيٌّ في القِيَاس ، شاذٌّ في السَّماع " . والثاني : أنَّها لام الأمْر ، وهذا وإن تَمشَّى في " لِيرْضَوْه ولِيَقْتَرِفوا " : فلا يتمشَّى في : " ولِتَصْغى " إذ حرف العلة يحذف جزماً . قال أبُو البقاء : " ولَيْست لام الأمْر ؛ لأنه لَمْ يَجْزِم الفعل " . قال شهاب الدِّين : قد ثبت حَرْف العِلَّة جَزْماً في المُتَواتِر ، فمنها : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ } [ يوسف : 90 ] { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ } [ طه : 77 ] وفي كُلِّ ذلك تَاويلات سَتَقِف عَلَيْها - إن شاء الله تعالى - فلتكن هذه القراءة الشَّاذَّة مثل هذه المَوَاضِع ، والقولُ بكون لام " لتصغى " لام " كَيْ " سُكِنت ؛ لِتَوالي الحَرَكات واللاَّمين بَعْدَها لامَيْ أمْر بعيدٌ وتَشَهٍّ . وقال النَّحَّاس : ويُقْرأ : " ولْيَقْتَرِفُوا " يعني بالسُّكُون ، قال : " وفيه مَعْنى التَّهْديد " . يريد : أنَّه أمر تَهْديد ؛ كقوله : { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ولم يحك التَّسْكِين في " لِتَصْغَى " ، ولا في " لِيَرْضَوه " . و " مَا " في " ما هم مُقْتَرِفون " مَوْصُولة اسميَّة ، أو نكرة مَوْصُوفة مصدريَّة ، والعَائِد على كلا القولَين الأولين مَحْذُوف ، أي : " ما هم مُقْتَرِفُوه " . [ و ] قال أبُو البقاء : " وأثبت النُّون لما حُذِفَت الهاء " يريد : أن الضَّمير المتَّصِل باسم الفاعل المُثَنَّى والمجموع على حَدِّه ، تُحْذَفُ له نُون التَّثْنِيَة والجمع ، نحو : " هَذَانِ ضَارِبَاه " و " هؤلاء ضَارِبُوه " فإذا حذفَ الضَّمِير ، زال المُوجِب , فتَعُود النُّون , وهذا هو الأكْثَر , أعني : حّذْف النُّون مع اتِّصال الضَّمِير , وقد ثَبَتت ؛ قال القائل : [ الطويل ] @ 2295 - وَلَم يَرْتَفِقْ والنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ جَمِيعاً وأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُهْ @@ وقال القائل في ذلك : [ الطويل ] @ 2296 - هُمُ الفَاعِلون الخَيْرَ والآمِرُونَهُ … @@ والاقْتِرَاف : الاكْتِساب ، واقترف فُلان لأهْله ، أي : اكْتَسَب ، وأكثر ما يُقَال في الشَّرِّ والذَّنْب ، ويطْلَق في الخَيْر ، قال - تعالى - : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [ الشورى : 23 ] . وقال ابن الأنْبَارِيِّ : " قَرَفَ واقْتَرَفَ : اكتسب " وأنْشَد في ذلك : [ الطويل ] @ 2297 - وإنِّي لآتٍ مَا أتَيْتُ وَإنَّنِي لِمَا اقْتَرَفَتْ نَفْسِي عَلَيَّ لَرَاهِبُ @@ وأصل القِرْفِ والاقْتِرَاف : قِشْرُ لحاء الشَّجر ، والجِلْدَةُ من أعَلَى الحرج وما يؤخَذُ منه قَرف ، ثُمَّ استُعِير الاقْتِرَاف للاكْتِسَاب حَسَناً كان ، أو سِّيئاً وفي السيّئ أكثر اسْتِعْمالاً وقارف فلان أمْراً : تَعَاطى ما يُعَاب به . وقيل : الاعْتراف يُزِيل الاقْتِرَاف ، ورجل مُقْرِف ، أي : هجين : قال الشَّاعر : [ الرمل ] @ 2298 - كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلَى وشَريفٍ بُخْلُهُ قَدْ وَضَعَهْ @@ وقَرَفْتُه بكذا : اتَّهَمْتُه ، أو عِبْتُه به ، وقارف الذَّنْب وعَبَره ، إذا أتَاه ولاصقَهُ ، وقارف امْرَأتَهُ ، إذا جَامَعها ، والمُقْتَرِف من الخَيْل : الهَجِين ، وهو الَّذي أمُّه برذونة ، وأبُوه عَرَبِيّ . وقيل : بالعَكْس . وقيل : هُو الَّذي دان الهجنة وقَارَفَها ، ومن حَدِيث عُمَر - رضي الله عنه - : كتب إلى أبِي مُوسى في البَراذِين ما قَارفَ العِتَاق مِنْهَا ، فأجْعَل لَهُ منهما واحِداً ، أي : قَارَبَهَا ودَانَاهَا ، نقله ابن الأثير . فصل في تقدير الآية قال ابن الخِطِيب [ قال أصْحَابنا ] تقدير الآية الكَرِيمة : وكذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نِبِيِّ عدوّاً من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس ، وصفته : أنَّه يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل غَرُواً ، وإنَّما فَعَلْنا ذلك لِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدة الذين لا يُؤمِنُون بالآخرة أي : أوْجدنا العداوة في قَلْب الشَّيَاطين الذين من صفتهم ما ذَكرْنَاهُ ، ليكون كلامهم المُزَخْرَف مَقْبُولاً عند هؤلاء الكُفَّار . قالوا : وإذ حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه ، يظهر أنَّه - تبارك وتعالى - يُريد الكُفْر من الكَافِر . أجاب المُعْتَزِلَة عنه من ثلاثة أوْجُه : الأول : قال الجُبَّائي : إن هذا الكلام خرج مَخْرج الأمر ، ومعناه : الزَّجْر ؛ كقوله - تبارك وتعالى - : { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } [ الإسراء : 64 ] وكذا قوله : " وَلِيَرْضَوْه ، ولِيقْتَرِفُوا " وتقدير الكلام : كأنَّه قال للرَّسُول - عليه السَّلام - : " فَذرْهُم وما يَفْتَرُون " ثم قال لَهُم على سَبِيل التَّهديد " ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَتُهم ، وليَرْضَوه وليقترفوا ما هُم مُقْتِرَفُون " . الوجه الثاني : قال الكَعْبِي إنّ هذه اللاَّم لام العاقبة ، أي : ستئول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحْوال . قال القَاضِي : ويبعُد أن يقال : هذه العاقبة تحصُل في الآخِرة ؛ لأن الإلْجَاء حَاصِل في الآخِرَة . قال : فلا يجُوز أن تِمَيل قُلُوب الكُفَّار إلى قُبُول المَذْهَب البَاطِل ، ولا أن يَرْضَوْه ، ولا أنْ يقترفوا الذُّنُوب ، بل يَجِبُ أن تُحْمَل على أنَّ عاقبة أمْرِهم في الدُّنْيَا تئول إلى أنْ يَقْبَلوا الأبَاطِيل ، ويرضوا بها ، ويَعْملُوا بها . الوجه الثالث : وهو الذي اختاره أبو مُسْلِم ، قال : اللاَّم في قوله : { ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ } متعلِّق بقوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } والتَّقْدير : أن بَعْضَهم يُوحِي إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل ليغُرُّوا بذلك ، { وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ } الذُّنُوب ، ويكون المُرَاد أنَّ مَقْصُود الشَّياطين من ذلك الإيحاء : هو مَجْمُوع هذه المَعَانِي . والجواب عمّا ذكره الجُبَّائي من وُجُوه ، ذكرها القَاضِي : أحدها : أن الواوَ في قوله : " ولِتَصْغَى " تقتضي تَعَلُّقَه بما قبْلَه ، فحملُه على الابتداء بَعيدٌ . وثانيها : أن اللاَّم في قول : " ولِتَصْغَى " لام كَيْ ، فيبعد أن يُقَال إنَّه لام الأمْر ، ويَقْرُب ذلك من أنْ يَكُون تَحْرِيفاً لِكَلام اللَّه - تعالى - ، وأنه لا يَجُوز ، وأمَّا قول الكَعْبِي : بأنَّها لام العَاقِبَة ، فضعيف ؛ لأنهم أجْمَعُوا على أن هذا مَجَازٌ ، وحَمْلُه على " كي " حَقِيقةً أوْلى ، وأمَّا قَوْل أبِي مُسَلم ، فهو أحسنُها ، إلاَّ أنْ قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } يقتضي ان يكُون الغَرَض من ذلك الإيحاء : هو التَّغْرير ، وإذا عَطَّفْنَا عليه قوله : { ولِتَصْغَى إليْه أفْئِدَة } فهذا أيضاً عَيْن التغرير ، لا معنى التغرير ؛ لأنه يَسْتَمِيل إلى ما يكون بَاطِنُه قَبِيحاً ، وظاهره حَسَنَاً . قوله : { ولِتَصْغَى إليه أفْئِدَة } عين هذه الاسْتِمَالة فلو عَطَفْنَأ عليه ، لَزِم أن يَكُون المَعْطُوف عين المَعْطُوف عَلَيْه ، وأنَّه لا يجوز ، أمَّا إذا قُلْنَا : تَقْدير الكلام : وكذلك جَعَلْنَا لكُلِّ نَبِيّ عُدُوّاً من شَأنه أن يُوحِي زُخْرُف القَوْل ؛ لأجل التَّغرير ، وإنما جَعَلْنا مثل هذا الشَّخْص عَدُواً للنَّبِي ؛ لتصْغَى إليه أفْئِدَة الكُفَّار ، فَيَبْعُدوا بذلك السَّبَبِ عن قُبُول دَعْوة ذلك النَّبِيِّ ، وحينئذٍ لا يَلْزَم منه عَطْف الشَّيء على نَفْسِه ، فما ذَكَرنَاه أوْلى . فصل في معنى الإنسان قالوا : الإنسان شيء مُغَاير للبَدَن ، ثم اخْتَلَفُوا : منهم من قال : المُتَعلَّق الأوَّل هو القَلْب ، وبواسطته تتعلَّق النَّفْس ؛ كسائر الأعْضَاء ، كالدِّمَاغ ، والكَبِد ، ومنهم مَنْ قَال : القَلْب متعلِّق النَّفس الحَيَوانيَّة ، والدِّمَاع متعلَّق النَّفْس النَّاطِقَة ، والكَبِد متعلَّق النَّفْس الطَّبِيعيَّة ، والأوَّلون تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة ؛ فإنه - تبارك وتعالى - جَعَل مَحَلَّ الصَّغى الذي هُو عِبَارة عن المَيْل والإرادة : القَلْب ، فدلّ على أنَّ مُتعلِّق النَّفْس : القَلْب .