Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 118-119)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في هذه الفَاءِ وجهان : أحدهما : أنَّها جواب شَرْط مُقدَّر . قال الزَّمخْشَريُّ بعد كلام : فقيل للمُسْلِمِين : إن كُنْتم مُتَحَقِّقِين بالإيمان ، فكُلوا [ وذلك أنَّهم كانوا يَقُولون للمُسْلِمين : إنَّكم تَزْعُمون أنَّكم تَعْبُدُون اللَّه ، فما قتله الله أحَقُّ أن تَأكُلُوا ممَّا قَتَلْتُمُوه أنْتُم ، وقال الله - تعالى - للمسلمين : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } . والثاني : أنها عَاطِفَة على مَحْذُوف . قال الواحدي : " ودخَلَت الفاءُ للعطْف على ما دلَّ عليه أوَّل الكلام ، كأنه قِيل : كونوا على الهُدَى ، فكُلُوا " . والظَّاهر : أنَّها عَاطِفة على ما تقدَّم من مَضْمُون الجُمَل المُتقدّمَة كأنه قيل : " اتَّبِعُوا ما أمركُم اللَّه تعالى من أكْلِ المُذَكَّى دون الميتة ، فكُلُوا " . فإن قيل : إنهم كَانُوا يُبيحُون أكْل ما ذُبِح على اسْمِ اللَّه - تعالى - ، ولا يُنَازعون فيه ، وإنما النِّزاع في أنَّهم أيْضاً كَانُوا يُبِيحُون أكْل الميتة ، والمُسْلِمُون كَانُوا يَحْرِّمُونها ، وإذا كان كذلك ، كان وُرُود الأمْر بإبَاحة ما ذُكِر اسم الله عليه عِبْئاً ، لأنَّه يقتضي إثْبَات الحُكْم في المتَّفْقِ عليه ، وترك الحُكْم في المُخْتَلِف فيه . فالجواب : لعلَّ القوم يحرِّمُون أكْل المُذَكَّاة ، ويُبِيحُون أكْل المَيْتَة ، فاللَّه - تبارك وتعالى - ردَّ عليهم في الأمْرَيْن ، فحكم بحلِّ المُذَكَّاة بقوله : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } وبتحريم المَيْتَة بقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] أو يُحْمل قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } على أن المُرَاد : اجْعَلوا أكْلَكُم مقصوراً على ما ذكر اسْمُ الله عليه ، فيكون المَعْنَى على هذا الوجه ، تَحْرِيم أكْل المَيْتَة فقط . قوله : " ومَا لَكُمْ " مُبْتَدأ وخبر ، وقوله : " ألاَّ تَأكُلوا " فيه قولان : أحدهما : هو حَذْف حَرْف الجرِّ ، أي : أيُّ شَيْء اسْتَقَرَّ في مَنْع الأكْل ممَّا ذكر اسْم اللَّه عليه ؛ وهو قول أبي إسْحَاق الزَّجَّاج فلما حُذِفَتْ " في " جَرَى القولان المَشْهُوران ، ولم يذكر الزَّمَخْشَرِيُّ غير هذا الوجه . الثاني : أنَّها في محل نَصْبٍ على الحالِ ، والتَّقْدير : وأيُّ شَيْء لَكُم تَاركين للأكْل ، ويؤيِّد ذلك وُقوع الحالِ الصَّريحة في مِثْل التَّركيب كَثِيراً ، نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] إلاَّ أن هذا مَرْدُود بِوَجْهَيْن : أحدهما : أنَّ " أنْ " تُخَلِّص الفِعْل للاسْتِقْبَال ، فكيف يَقَعُ ما بَعْدَها حالاً ؟ والثاني : أنَّها مع ما بعدها مُؤوَّلة بالمصدر ، وهو أشْبَه بالمُضْمَرَات كما تقدَّم تحريره ، والحال إنَّما تكُون نكرة . قال أبُو البقاء : إلاَّ أن يُقَدَّر حَذْفُ مُضاف ، فَيَجُوز ، أي : " وما لَكُم ذَوِي ألا تَأكلوا " وفي تَكَلُّف ، فمفعول " تَأكُلُوا " مَحْذوف بَقِيتْ صفَته ، تقديره : " شَيْئاً مما ذُكِر اسْمُ اللَّه " ويجُوز ألاَ يُراد مَفْعُول ، بل المُراد : ومَال لكُم ألا يقع منكم الأكْل ، وتكون " مِنْ " لابْتِدَاء الغَاية ، أي : أن لا تَبْتَدِئُوا بالأكْل من المَذْكُور عليه اسم اللَّه ، وزُعِم ، أنَّ " لاَ " مَزِيدة ، وهذا فَاسِدٌ ؛ إذا لا داعِي لِزيَادتها . قوله : " وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ " قرأ ابْنُ كَثِير ، وأبُو عَمْرو ، وابنُ عَامِر : ببنائهما للمفعُول : ونافع ، وحفصٌ عن عاصم : ببنَائِهَما للفاعل ، وحمزة ، والكسَائِيُّ ، وأبُو بكر عن عاصم : ببناء الأوَّل للفاعل ، وبناء الثُّانِي للمَفْعُول ، ولم يأت عكْس هذه ، وقرأ عطيَّة العُوفيُّ كقراءة الأخَويْن ، إلاَّ أنَّه خفف الصَّاد من " فَصَّل " والقَائِم مقام الفاعل : هو المَوْصُول ، وعائده من قوله : " حرَّم عَلَيْكُم " . والفَاعِل في قراءة مَنْ بَنَى للفَاعِل ضمير اللَّه - تعالى - ، والجُمْلَة في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ . فصل في المراد من الآية قوله : { فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُم } قال أكثر المُفَسِّرين : هو المُراد من قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } في أوَّل المائدة [ الآية : 3 ] ، وفيه إشْكَالٌ ، وهو أنَّ سُورة الأنْعَام مَكيَّة ، وسُورة المائدة من آخر ما أنْزَل اللَّه - تعالى - بالمدينة ، فقوله : " فصَّل " يَجِبُ أن يكُون ذلك المُفَصَّل متقدِّماً على هذا المُجْمَل ، والمَدَنِيّ متأخِّر عن المَكِيّ ، فيمتنع كونه مُتقدِّماً ، ولقَائِل أن يقول : المُفَصّل : هو قوله - تبارك وتعالى - بعد هذه الاية الكريمة : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [ الأنعام : 145 ] ، الآية ، وهي وإن كانت مَذْكُورة بعد هذه الآية بقليل , إلا أنَّ هذا القَدْر من التَّأخير لا يمنع أن يكُون هو المُرَاد ، خُصُوصاً أن السُّورة نزلت دَفْعَة واحِدَة بإجْماع المُفَسِّرين على ما تقدَّم ، فيكون في حُكْم المُقارن . قوله : { إلاَّ ما اضْطُرِرْتُم إليه } في الاسْتِثْنَاء وجهان : أحدهما : أنَّه مُنْقَطِع ، قاله ابن عطيَّة والحُوفِي . والثاني : أنه [ اسْتِثْنَاء ] متَّصِل . قال أبو البقاء : " ما " في مَوْضِع نَصْبٍ على الاسْتِثْنَاء من الجِنْس من طريق المَعْنى ؛ لأنه وبِّخَهُم بترك الأكل مِمَّا سُمِّي عليه ، وذلك يَتَضَمّن الإباحة مُطْلَقاً . قال شهاب الدِّين : الأوَّل أوْضَح والاتِّصال قلق المَعْنَى ، ثم قال : " وقوله : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُم } أي : في حَالِ الاخْتِيَار ، وذلك حلالٌ حال الاضْطِرارِ " . قوله : { وإنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّون } قرأ الكوفيُّون بضمِّ الياء ، وكذا الَّتِي في يُونس : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ } [ الآية : 88 ] والباقون : بالفَتْح ، وسيأتي لذلك نَظَائِر في إبْراهيم وغيرها ، والقراءتان واضِحَتَان ؛ فإنه يٌقال : ضلَّ في نَفْسَه ، وأضَلَّ غيره ، فالمَفْعُول مَحْذُوف على قراءة الكُوفيين : وهي أبْلَغ في الذَّمِّ ، فإنها تتضَّمن قُبْحَ فِعْلِهم ، حَيْث ضلوا في أنْفُسِهِم ، وأضَلُّوا غيرهم ؛ كقوله - تعالى - : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] . قيل المُراد بِه : عمرو بن لُحَيّ فمن دُونه من المشركين الَّذين اتخذوا البَحَائِر والسَّوَائِب وقراءة الفَتح لا تُحوِجُ إلى حذف ، فرجَّحها بَعْضُهم بهذا وأيضاً : فإنهم أجْمَعُوا على الفَتْح في " ص " عند قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ 26 ] . وقوله : " بِأهْوَائِهِم " متعلِّق بـ " يَضِلُّونَ " والباءُ سَبَبيَّة ، أي : بِسَبب اتِّباعهم أهْواءَهم ، وشهواتهم . وقوله : " بغير عِلْم " متعلِّق بِمَحْذُوف ، لأنه حالٌ ، أي : يَضِلُّون مُصَاحِبِين للجَهْلِ أي : مُلْتَبِسين بغير علمٍ . فصل في المراد بالآية قيل : المُرَاد : عمرو بن لُحَيّ كما تقدَّم ؛ لأنَّه أول من غير دين إسماعيل . وقال الزَّجَّاج : المراد منه الَّذِين يُحَلِّلُون المَيْتَة ، ويناظِرُونكم في إحلالها ، ويَحْتَجون عليها بقولهم لما أحَلَّ ما تَذْبَحُونه أنْتُم ، فَبأن يحلَّ ما يَذْبَحُه الله أوْلَى ، وكذلك كل ما يَضِلُّون فيه من عبادة الأوثان ، والطَّعْن في نُبُوّة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما يتِّبِعُون فيه الهوى والشَّهوة [ بغير عِلْم , وهذه الآية تدلُّ على أن التقليد حَرَام ؛ لأنَّه قول بمحض الَهوَى والشَّهْوة ] ثم قال : { إِنَّ رَبَّك هُوَ أعْلم بالمُعْتَدين } أي : هو العالم بما في ضَمَائِرِهم من التَّعَدِّي ، وطلب نُصْرة البَاطِل ، والسَّعي في إخْفَاء الحقِّ ، وإذا كان عَالِماً بأحْوَالهم وقَادِراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصُود منه التَّهْديد والتخويف .