Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 122-122)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر تعالى في الآيَة الأولَى ؛ أنَّ المُشْرِكين يُجَادِلُون المُؤمنين في دين الله - تعالى - ذكر مثلاً يدُلُّ على حَالِ المُؤمِن المهْتَدي ، وعلى حَالِ الكَافرِ الضال فبَيَّن أن المؤمن بِمَنْزِلة مَنْ كَانَ مَيْتاً ؛ فَجُعِل حَيّاً بعد ذلك ، وأعْطِي نُوراً يَهْتَدِي به في مَصَالِحِه ، وأنَّ الكَافِر بمنْزِلَة المُنْغَمِس في ظُلُمَاتٍ لا خَلاصَ له مِنْهَا ، فيكون مُتَحَيِّراً دائماً . قوله : { أو مَنْ كَانَ } تقدَّم أن الهَمْزَة يَجُوز أن تكُون مقدَّمة على حرف العطْفِ ، وهو رَأي الجُمْهُور ، وأن تكُون على حَالِها وبَيْنها وبيْن فِعْل مُضْمَر ، و " مَنْ " في محلِّ رفع بالابتداء ، و " كمَنْ " خَبَرْهُ ، وهي مَوْصُولة ، و " يمشي " في محلِّ نَصْب صِفَة لـ " نُوراً " . قال قتادة : أراد بـ " النور " : كِتَاب اللَّه - تعالى - بيّنه مع المُؤمن ، بها يعمل ، وبها يَأخُذ ، وإليها يَنْتَهِي ، و " مَثَلُه " مُبْتَدأ و " فِي الظُّلُمات " : خَبَرُه ، والجُمْلَةُ صِلَةُ " مَنْ " و " مَنْ " مَجْرورَة بالكَافِ , والكَفُ وَمَجْرُورُها كما تقدَّم في محلِّ رفعٍ خبراً لـ " مَنْ " الأولى و " ليس بِخَارج " في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الموصُول ، أي : " مِثْل الَّذي اسْتَقَرَّ في الظُّلُمات حالً كَوْنه مُقِيماً فيها " . وقال أبُو البقاء : " لَيْس بِخَارج في مَوْضِع الحَالِ من الضَّمِير في " منْها " ولا يَجُوز أن يكُون حالاً من الهَاءِ في " مَثَلُه " للفَصْل بَيْنَه وبيْن الحَال بالخبر " . وجعل مَكِّي الجُمْلَة حالاً من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في " الظُّلُمات " وقرأ طَلْحَة بن مُصْرِّف : " أفَمَنْ كَانَ " بالفَاءِ بدل الواو . فصل في المراد بالآية اخْتَلَفُوا في هذه الآية الكَرِيمة على قَوْلَيْن : أحدهما : أنَّها نزلت في رَجُلَيْن بأعْيَانِهِمَا . قال ابْن عبَّاس - رضي الله عنهما - : { جَعَلْنَا لَهُ نُوراً } يريد : حَمْزة بن عَبْد المُطَّلِب ، { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } يريد : أبا جَهْل بْن هِشَام ، وذلك أنَّ أبا جَهْل رَمَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفَرْثٍ ، فأخْبِر حمزة بما فعل أبُو جَهْل وهو رَاجِعٌ من قُدومِهِ من صَيْدٍ ، وبِيَده قَوْس وحَمْزة لَمْ يؤمن بعد ، فأقبل غضْباناً حتى علا أبَا جَهْلٍ بالقَوْس ، وهو يَتَضَرَّع إلَيْه ، ويَقُول : أبا يَعْلى ، أما ترى ما جَاءَ به ، سَفَّه عُقُولنا ، وسَبَّ آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حَمْزَة : ومن أسْفَه مِنْكُم ، تَعْبُدون الحِجَارة من دُونِ اللَّه ؛ أشْهَدُ ألاّ إله إلاَّ الله وأشْهَد أنَّ محمَّداً عَبْده ورَسُوله ، فأنْزَل اللَّه الآية . وقال الضَّحَّاك : نَزَلَت في عُمر بن الخَطَّاب ، وأبي جَهْل . وقال عِكْرِمَة ، والكلبي : نزلت في عمَّار بن يَاسِر ، وأبي جَهْل . وقال مُقَاتِل : نزلت في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأبِي جَهْل ، وذلك أنَّه قال : زَاحَمَنا بنو عَبْد مَنَاف في الشَّرف ، حتى إذا صِرْنا كفرسي رهان قالوا : مِنَّا يُوحى إلَيْه ، والله لا نُؤمِنُ به إلاَّ أن يَأتِينَا وَحْي كما يَأتِيه ، فنزلت الآية الكريمة . القول الثاني : أنَّ هذه الآية الكريمة عَامَّة في حقِّ المؤمنين والكَافِرين ، وهذا هو الحَقُّ ؛ لأن تَخْصِيص العَامِّ بغير دَلِيل تحكُّم ؛ وأيضاً : فلقولهم إن السُّورة نزلت دَفْعَةً واحدة ، فالقَوْل بأنَّ سَبَبَ هذه الآيَة الكريمة المُعَيَّنة كذا وكذا مُشْكل . قوله : " كَذَلك زُيِّن " نعتُ لِمَصْدَر ، فقدَّره بَعْضُهم : " زُيِّن للكَافِرين تَزْييناً كما أحْيَيْنا المُؤمنين " وقدَّره آخَرُون : " زين لِلْكَافرين تَزْييناً لكون الكَافرين في ظُلُمات مُقِيمين فيها " والفاعل المَحْذُوف من " زُيِّن " المنُوبُ عنه هو اللَّه - تعالى - ويجُوز أنْ يَكُون الشَّيْطَان ، وقد صرَّح بكُلِّ من الفَاعِليْن مَعَ لفظ " زيَّن " ، قال - تعالى - : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] ، وقال - تعالى - : { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } [ العنكبوت : 38 ] و { مَا كَانُوا يَعْمَلُون } : هو القَائِم مقام الفَاعِل ، و " ما " يَجُوز أن تكُون مَوْصُولة اسميَّة أو حَرْفِيَّة أوْ نَكِرة مَوْصُوفة والعائدُ على القولِ الأولِ والثالث محذوفٌ ، دون الثاني عند الجُمْهورِ ، على ما عُرِفَ غير مرَّةٍ . وقال الزجاجُ : " موضعُ الكافِ رفعٌ ، والمعنى : مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك ، زُيِّن للكافرين أعمالهم " . فصل في بيان خلق الأفعال دلّت هذه الآيةُ الكريمةُ على أن الكُفْر ، والإيمانَ من الله تعالى ؛ لأن قوله " فَأحيَيْنَاهُ " وقوله : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } كنايةٌ عن المعرفةِ ، والهدى ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ هذه الأمورَ من الله - تبارك وتعالى - والدلائلُ العقليةُ ساعدت على صِحَّتِه ، وهو دليلُ الداعي المتقدم . وأيضاً فالعاقُل لا يختار الجهل ، والكفر لنفسه ؛ فمن المحال أنْ يختارَ الإنسانُ جَعْلَ نَفْسِه كافراً جاهلاً ، فلما قصد لتحصيل الإيمانِ والمعرفةِ ، ولم يحصلْ له ذلك ، وإنما حصل ضدُّه ، وهو : الكُفْرُ ، والجَهْلُ ؛ علمْنَا أنَّ ذلك بإيجاد غَيْره . فإن قيل : إنَّما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل ، أنَّه عِلْمٌ . فالجواب : أنَّ حاصِلَ هذا الكلامِ أنه إنما اختار هذا الجهْلَ لسابقَةِ جَهْل آخر ، والكلام في ذلك الجَهْلِ السَّابِقِ كذلك إلى غَيْرِ نهاية ، فوجب الانتهاءُ إلى جَهْل يحصل فيه لا بإيجاده ، وهو المطلوبُ .