Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 137-137)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا نوع آخر من أحْكَامِهِم الفاسدة ومذاهبهم البَاطِلة . قوله : " وكذلِكَ زيَّنَ " هذا في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذُوف كنظائره ، فقدَّره الزمخشري تقديرين ، فقال : " ومِثْل ذلك التَّزْيين وهو تَزْيين الشِّرْك في قِسْمَة القُرْبَان بين اللَّهِ والآلهة ، أو : ومثل ذلك التَّزيين البَلِيغ الذي عُلِم من الشَّياطين " . قال أبو حيَّان : قال ابن الأنْبَاري : ويجُوز أن يكون " كَذَلِكَ " مستَأنفاً غير مُشَارٍ به إلى ما قَبْله ، فيكون المَعْنَى : وهكذا زيَّن . قال شهاب الدِّين : والمنْقُول عن ابن الانْبَارِي أنه مُشَارٌ به إلى ما قبله ، نقل الواحِدِي عنه ؛ أنه قال : " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى ما نَعَاه اللَّه عليهم من قَسْمِهِم ما قَسَمُوا بالجَهْل ، فكأنه قِيلَ : ومثل ذلك الذي أتَوْه في القَسْم جهلاً وخطأ زيِّن لكَثِير من المُشْركين ، فشبَّه تَزْيين الشُّركَاء بخِطَابهم في القَسْمِ وهذا معنى قول الزَّجَّاج ، وفي هذه الآية قراءات كَثِيرة ، والمُتواتِر منها ثِنْتَان . الأولى : قرأ العامّة " زَيَّنَ " مبنياً للفَاعِل و " قَتْلَ " نصب على المفعُوليَّة و " أوْلادهم " خفض بالإضافةِ , و " شُرَكَاؤُهُم " رفع على الفاعليَّة , وهي قراءة واضِحَةُ المَعْنَى والتَّرْكِيب . وقرأ ابن عامر : " زُيِّن " مبنياً للمفعُول , " قَتْلَ " رفعاً على مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُه , " أوْلاَدَهُم " نَصْباً على المفعُول بالمصْدَر ، " شُركَائِهِم " خفضاً على إضافة المصدر إليه فَاعِلاً ، وهذه القراءة مُتواتِرة صحيحة ، وقد تجرأ كَثِيرٌ من النَّاسِ على قَارِئهَا بما لا يَنْبَغي ، وهو أعلى القُرَّاء السَّبْعَة سَنَداً وأقدمهم هِجْرَة . أمَّا عُلُوِّ سنده : فإنَّه قرأ على أبِي الدَّرْدَاء ، وواثِلة بن الأسْقَع ، وفَضَالةِ بن عُبَيْد ، ومعاوية بن أبي سُفْيَان ، والمُغِيرةَ المَخْزُومِي ، ونقل يَحْيَى الذُّماري أنه قرأ على عُثْمَان نفسه . وأما قِدَم هِجْرَته فإنَّه وُلِد في حَيَاة رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونَاهِيك به أن هشام بن عمَّار أحد شُيُوخ البُخَارِيّ أخّذ عن أصْحاب أصحابه وتَرْجَمَته مُتَّسِعَة ذكرتُها في " شرح القصيد " . وإنَّما ذكرت هُنَا هَذِه العُجَالة تَنْبيهاً على خَطَإِ من رَدَّ قراءته ونَسَبَه إلى لَحْنٍ ، أو اتِّبَاع مجرَّد المَرْسُوم فقط . قال أبو جَعْفَر النحاس : وهذا يَعْني أنّ الفَصْل بين المُضَافِ والمضافِ إليه بالظَّرْفِ أو غيره لا يجُوز في شِعْرٍ ولا غيره ، وهذا خطأ من أبي جَعْفَر ؛ لما سنذكره من لسَان العرب . وقال أبو علي الفارسيّ : هذا قَبيحٌ قليل في الاسْتِعْمَال ، ولو عَدَل عَنْهَا - يعني ابن عامر - ، كان أولى ؛ لأنهم لم يَفْصِلُوا بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالظَّرف في الكلام مع اتِّساعهم في الظَّرُوفِ ، وإنَّما أجَازُوه في الشِّعْر قال : وقد فَصَلُوا به - أي بالظَّرف - في كَثِير من المواضع ، نحو قوله تعالى : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] ؛ وقال الشاعر في ذلك : [ المتقارب ] @ 2317 - عَلَى أنَّنِي بَعْدَمَا قَدْ مَضَى ثلاثُونَ - لِلْهَجْرِ - حَوْلاً كَمِيلاً @@ وقول الآخر في هذا البيت : [ الطويل ] @ 2318 - فَلاَ تَلْحَنِي فيها فإنَّ - بِحُبِّهَا - أخَاكَ مُصَابُ القَلْبِ جَمٌّ بلابِلُهْ @@ ففصل بين " إنَّ " واسْمَها بما يتعلَّق بخبَرِهَا ، ولو كان بِغَيْر الظرف ، لم يَجُزْ ، ألا تَرَى أنَّك لو قُلْتَ : " إنَّ زَيْداً عَمْراً ضَارِب " على أن يكون " زَيْداً " منصُوباً بـ " ضَارِب " لم يَجز ، فإذا لم يُجِيزُوا الفَصْل بين المُضَافِ والمُضافِ إلَيْهِ في الكلامِ بالظرفِ مع اتِّساعهم فيه في الكلام ، وإنما يجُوزُ في الشَّعْر ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 2319 - كَمَا خُطَّ الكِتَاب بَكَفِّ - يَوْماً - يَهْودِيِّ يُقَاربُ أوْ يُزيلُ @@ فأن لا يجوز بالمفعُول الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفَصْلِ أجْدَر ، ووجه ذلك على ضَعْفِه وقلَّة الاسْتِعَمال : أنه قد جَاءَ في الشِّعْر على حدِّ ما قَرَأهُ قال الطَّرْمَاح : [ الطويل ] @ 2320 - يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَم تَرُعْ بِوَادِيهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيَّ - الكَنَائِنِ @@ وأنشد أبو الحسن : [ مجزوء الكامل ] @ 2321 - … زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادَهْ @@ وقال أبو عُبَيْد : وكان عبْدُ اللَّه بن عَامِر ، وأهل الشام يَقْرءُونها : " زُيِّن " بضم الزَّاي " قُتْلُ " بالرَّفْع ، " أولادَهُم " بالنَّصْب ، " شُرَكَائهم " بالخَفْضِ ، ويتأولون " قَتْلَ شُرَكَائِهِم أوْلادَهم " فيفرقون بين الفِعْل وفاعله . قال أبو عبيد : " ولا أحِبُّ هذه القراءة ؛ لما فيها من الاسْتِكْرَاه والقِراءة عِنْدنَا هي الأولَى ؛ لصحِّتِها في العربيِّة ، مع إجْماع أهْل الحَرْمَيْن والمِصْرَين بالعراق عَلَيْهَا " . وقال سيبويْه في قولهم : @ 2322 - يا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارْ @@ بخفض " اللَّيْلَةِ " على التَّجُّوز وبنصب " الأهْلِ " على المَفْعُولِيَّة ، ولا يجُوز " يا سَارِقَ اللَّيْلَة أهْلَ الدَّار " إلاَّ في شِعْر ؛ كراهة أن يَفْصِلُوا بين الجَارِّ والمجْرُور ، ثم قال : وممَّا جَاء في الشِّعْر قد فُصِل بَيْنَهُ وبين المَجْرُور قول عمرو بن قميئة : [ السريع ] @ 2323 - لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ لِلَّهِ دَرُّ - اليَومَ - مَنْ لاَمَهَا @@ وذكر أبْيَاتاً أُخَر . ثم قال : وهذا قَبِيحٌ ويَجُوز في الشِّعر على هذا : " مَرَرْتُ بِخَيْرِ وأفْضَلِ مَنْ ثمَّ " . وقال أبو الفتح بن جني : " الفَصْل بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه بالظَّرْف والجَارِّ والمَجْرُور كَثِيرٌ ، لكنه من ضَرُورَة الشَّاعِر " . وقال مكي بن أبي طالب : " ومن قَرَأ هذه القراءة ونَصَب " الأوْلادَ " وخفض " الشُّركاء " فيه قراءة بعيدةٌ ، وقد رُويَتْ عن ابْن عامر ، ومجازها على التَّفْرِقَة بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالمفعُول ، وذلك إنَّما يجُوزُ عند النَّحويِّين في الشِّعْر ، وأكثر ما يَكُون بالظَّرْفِ " . قال ابن عطيَّة - رحمه الله - : وهذه قراءةٌ ضَعِيفَة في اسْتِعْمَال العرب ، وذلك أنَّه أضاف الفِعْلَ إلى الفاعل ، وهو الشُّرَكَاء ، ثُمَّ فصل بين المُضافِ والمُضافِ إليه بالمفْعُول ، ورُؤسَاء العربيَّة لا يُجيزُون الفَصْل بالظُّرُوف في مِثْل هذا إلا في شِعْرٍ ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 2324 - كَمَا خُطَّ - الكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً يَهْودِيِّ … @@ البَيْت فكيف بالمَفْعُول في أفْصح كلام ؟ ولكنْ وجهُها على ضَعْفِها : أنَّها وردت في بَيْتٍ شّاذٍّ أنْشَدَهُ أبو الحَسَن الأخْفَش ، فقال : [ مجزوء الكامل ] @ 2325 - فَزَجَجْتُهَا بِمَزجَّةٍ زَجَّ - القلُوصَ - أبي مَزَادَهْ @@ وفي بيت الطِّرمَّاح ، وهو قوله : [ الطويل ] @ 2326 - يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَمْ تَرُعْ بِوَادِيهِ مِنْ قَرْع - القِسِيَّ - الكَنَائِنِ @@ وقال الزَّمخشري - فأغْلظ وأسَاء في عبارتهِ - " وأما قِرَاءة ابن عامرٍ - فذكرها - فشيء لو كان في مكان الضرُورة وهو الشِّعْر ، لكان سَمِجاً مرْدُوداً كما سَمُج ورورد : [ مجزوء الكامل ] @ 2327 - … زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادَهْ @@ فكيف به في الكلام المَنْثُور ؟ كيف به في القُرْآن المُعْجِز بحُسْن نَظْمِه وجَزَالَتِه ؟ الذي حمله على ذلك : أنْ رأى في بَعْض المَصَاحف " شُرَكَائِهِم " مكْتُوباً بالياءِ ، ولو قرأ بجرِّ " الأوْلاد " و " الشُّركاء " - لأن الأولاد شُرَكَاؤهم في أموالهم - لوجَد في ذلك مَنْدُوحة عن هذا الارتكاب " . قال شهاب الدين : " سَيَأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسِم أن يَقْرَأه ابن عَامرٍ ، وأنه قد قرأ به ، فكأنَّ الزَّمَخْشَرِيّ لم يَطَّلِعْ على ذلك ، فلهذا تَمَنَّاه " . وهذه الأقوال التي ذكرتها جَمِيعاً لا يَنْبَغِي أن يُلْتَفَت إليها ؛ لأنها طَعْن في المُتَواتِر ، وإن كانت صَادِرةً عن أئِمَّةٍ أكَابِر ، وأيضاً فقد انْتصَر لها من يُقَابِلُهُم وأوْرَد من لسانِ العربِ نَظْمهِ ونَثْرِه ما يَشْهَد لصِحَّة هذه القراءة لُغَة . قال أبو بَكْر بن الأنْبَاريّ : " هذه قِرَاءة صَحيحَةٌ وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بني المُتضَايفين بالجُمْلَة في قولهم : " هُو غُلامُ - إن شَاءَ اللَّه - أخِيكَ " يُرِيدون : هو غلام أخِيكَ ، فأنْ يُفْصَل بالمفْرَد أسْهَل " انتهى . وسمع الكَسَائِي قول بعضهم : " إن الشَّاةُ لتجترُّ فتَسْمع صَوْت واللَّه ربِّهَا " ، أي : صَوْت ربِّها واللَّهِ ، ففصل بالقسم وهو في قُوَّة الجُمْلَة ، وقرأ بَعْض السَّلَف : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِهِ } [ إبراهيم : 47 ] بنصب " وَعْدَهُ " وخفض " رُسُلِهِ " وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام - : " هَلْ أنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبي ، تَارِكُوا لِي امْرَأتِي " أي تاركو صَاحِبي لي ، تَارِكُو امْرَأتِي لي . وقال ابن جِنِّي في كتاب " الخصائص " : باب ما يَرِدُ عن العَرَبِيّ مُخَالِفاً للجُمْهُور ، إذا اتَّفق شَيْءٌ من ذلك ، نُظِر في ذلك العربي وفيما جَاءَ بهِ : فإن كان فَصِيحاً وكان مَا جَاء به يَقْبَلُه القِيَاسُ ، فَيَحْسُن الظَّنُّ به ؛ لأنه يمكن أن يَكُون قَدْ وَقَع إليه ذَلِك من لُغَةٍ قديمة ، قد طَال عَهْدُها وعَفَا رَسْمُهَا . أخبرنا أبُو بكْر جعفر بن مُحَمَّد بن أبي الحَجَّاج ، عن أبي خَلِيفَة الفَضْل بن الحباب ، قال : قال ابن عَوْف عن ابن سيرين : قال عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - : " كان الشِّعْرُ عِلْمَ قَوْم لم يَكُونْ لَهُم عِلْمٌ منه ؛ فجاء الإسْلام فتشاغَلَت عَنْه العَرَب بالجِهَاد وغَزْوِ فَارِس والرُّوم ، ولَهَت عن الشِّعْرِ وروايته ، فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفُتُوح ، وأطْمَأنَّت العرب في الأمْصَارِ ، راجَعُوا رواية الشِّعْرِ فلم يَئُولوا إلى دِيوانٍ مُدَوَّنٍ ، ولا إلى كِتاب مكْتُوبٍ ، وألِفُوا ذلك وقد هَلَك مَنْ هَلَك من العربِ بالموت والقَتْلِ ، فَحَفِظُوا أقل ذلك وذهب عَنْهُم كَثِيرُه " . قال : وحدَّثنا أبو بكر ، عن أبِي خَلِيفَة عن يُونُس بن حَبِيب ، عن أبِي عَمْرو بن العلاء . قال : " ما انْتَهى إليكم مما قالت العَرَب إلا أقَلُّه ، ولو جَاءَكُم وافراً لجَاءَكُم عِلْمٌ وشِعْر كَثِير " . وقال أبو الفَتْح : " فإذا كان الأمْر كَذَلِك ، لم نَقْطَع على الفَصِيح إذا سُمِع مِنْه ما يُخَالف الجُمْهُور بالخَطَإ ، ما وُجِد طَريقٌ إلى تَقَبُّل ما يُورِدُه ، إلا إذا كان القِيَاسُ يُعَاضِدُه " . قال شهاب الدِّين : وقراءة هذا الإمام بهذه الحيثيَّة ، بل بطريق الأولَى والأحْرَى لو لم تكُن مُتَوَاتِرَة ، فكيف وهي مُتواتِرَة ؟ وقال ابن ذَكْوَان : سألَني الكَسَائِي عن هذا الحَرْفِ وما بَلَغَهُ من قِرَاءَتنا ، فرأيْتُه كأنه أعْجَبَه وتَرَنِّم بهذا البيت : [ البسيط ] @ 2328 - تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ نَفْيَ - الدَّرَاهِيمَ - تَنْقَادِ الصَّيَارِيفِ @@ بنصب " الدَّرَاهِيم " [ وجَرِّ " تَنْقَاد " ، وقد رُوِي بخفض " الدَّرَاهِيم " ورفع " تَنْقَادُ " وهو الأصْل ، وهو المَشْهُور في الرِّواية ] . وقال الكرمَانِيّ : " قراءة انب عَامرٍ وإن ضَعُفَتْ في العَرَبِيَّة للإحَالَة بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه فَقَويَّةٌ في الرَّواية عَالِيةٌ " انتهى . وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثَق بعربيَّته : " تَرْكُ يَوْماً نَفْسِك وهَوَاهَا سَعْيٌ في رَدَاهَا " أي : تَرْكُ نَفْسِك يَوْماً مع هَوَاهَا سَعْيٌ في هَلاكِهَا . وأما ما ورد في النَّظْمِ من الفَصْلِ بين المُتَضَايفين بالظَّرْف ، وحَرْف الجرِّ ، وبالمفعول فكَثِيرٌ ، وبغير ذلك قَلِيل ، فمن الفَصْل بالظَّرْفِ قول الشَّاعر : [ الطويل ] @ 2329 - فَرِشْنِي بِخيْرٍ لاَ أكُونَنْ ومِدْحَتِي كَنَاحِتِ - يَوْماً - صَخْرَةٍ بِعسِيلِ @@ قول الآخر : [ الوافر ] @ 2330 - كَمَا خُطَّ الكِتَابُ بِكَفِّ - يَوْماً - يَهْودِيٍّ … @@ وقول الآخر : [ السريع ] @ 2331 قَدْ سَألَتْنِي أمُّ عَمْرٍو عَنِ الـ أرْضِ الَّتِي تَجْهَلُ أعلامَهَا لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ لِلِّهِ دَرُّ - اليَوْمَ - مَنْ لاَمَهَا تَذَكَّرَتْ أرْضاً بِهَا أهْلُهَا أخْوالَهَا فِيهَا وأعْمَامَهَا @@ يريد : للَّه دَرُّ مَنْ لامَها اليَومْ ، و " ساتِيدمَا " قيل : هو مرَكَّب والأصْل : " سَاتِي دَما " ثم سمِّي به هذا الجبل ؛ لأنه قُتِل عِنْدَه ، قيل : ولا تَبْرح القَتْلَى عند ، وقيل : " سَاتِيد " كله اسْمٌ و " مَا " مَزِيدة ؛ ومثال الفَصْل بالجار قوله : [ الطويل ] @ 2332 - هُمَا أخَوَا - فِي الحرْب - مَنْ لا أخَا لَهُ إذا خَافَ يَوْمَاً نَبْوَةً فَدَعَاهُمَا @@ وقال الآخر في ذلك : [ البسيط ] @ 2333 - لأنْتَ مُعْتَادُ - فِي الهَيْجَا - مُصَابَرَةٍ يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا @@ وقوله أيضاً : [ البسيط ] @ 2334 - كَأنَّ أصْوَات - مِنء إيغَالِهِنَّ بِنَا - أوَاخِرِ المَيْسِ أصْواتُ الفَرَارِيجِ @@ قوله أيضاً : [ الطويل ] @ 2335 - تَمُرُّ على ما تَسْتَمِرُّ وَقَدْ شَفَتْ غَلائِلَ - عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا - صُدُورِهَا @@ يريد : هما أخَوَا مَنْ لا أخَا لَهُ في الحربِ ، ولأنْتَ مُعْتَادُ مُصَابرةٍ في الهَيْجاء ، وكأن أصوات أواخر الميس وغَلاَئِل صُدُورها ، ومن الفَصْل بالمفعُول قول الشاعر في ذلك : [ مجزوء الكامل ] @ 2336 - فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَّةٍ زَجَّ - القُلُوصَ - أبِي مَزادَهْ @@ ويروى : فَزَجَجْتُها فتدافعتْ ، ويروى : فزجَجْتُهَا متمكَّنَا ، وهذا البيت كما تقدم أنْشَده الأخْفَش بِنْصَب " القَلُوصَ " فاصلاً بين المصدر وفاعله المعْنوِيّ ، إلا أن الفرَّاء قال بعد إنشاده لهذا البيتِ : أهل المدينة يُنْشِدون هذا البَيْتَ يعني : بِنَصْب " القَلُوص " . قال : " والصَّواب : زَجَّ القَلُوصِ بالخَفْض " . قال شهاب الدِّين : وقوله : " والصَّواب يُحْتَمل أن يكُون من حَيْث الرِّوَاية " أي : إن الصَّواب خَفْضُه على الرِّواية الصَّحيحة وأن يكُون من حَيْثُ القياس ، وإن لم يُرْوَ إلا بالنَّصْب ، وقال في مَوْضِع آخر من كتابه " مَعَانِي القُرْآن " : " وهذا ممَّا كان يقُولُه نَحْويُّو أهل الحِجَاز ، ولم نَجِد مِثْلَه في العربيَّة " وقال أبو الفَتْح : " في هذا البيت فُصِل بينهُمَا بالمفعُول به هذا مع قُدْرته على أنْ يقُول : زَجَّ القَلُوص أبو مزادة ؛ كقولك : " سَرَّنَي أكلُ الخُبْزِ زَيْدٌ " بمعنى : أنه كان يَنْبَغِي أن يُضِيفَ المَصْدَر إلى مَفْعُوله ، فَيَبْقى الفاعل مَرْفُوعاً على أصْلِه ، وهذا مَعْنَى قول الفرَّاء الأوَّل " والصَّواب جر القَلُوص " يعني ورفع الفاعل " . ثم قال ابن جِني : وفي هذا البَيْت عِنْدي دَلِيلٌ على قُوَّة إضافَةِ المَصْدَر إلى الفَاعِل عِنْدَهُم ، وأنه في نُفُوسِهِم أقْوَى من إضافته إلى المَفْعُول ؛ ألا تراه ارْتَكب هذه الضَّرُورة مع تمكُّنِهِ من تركِهَا لا لِشَيْءٍ غير الرَّغْبة في إضافة المصْدَرِ إلى الفاعل دُون المَفْعُول ، ومن الفَصْلِ بالمفعُول به أيضاً قول الآخر في ذلك : [ الرجز ] @ 2337 - وحِلَقِ المَاذِيِّ والقَوانِسِ فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ @@ أي : دوس الدائس الحصادَ . ومثله قول الآخر : [ الرجز ] @ 2338 - يَفْرُكُ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ بالقَاعِ فَرْكَ - القُطُنَ - المُحَالِجِ @@ يريد : فَرْك المُحَالِجِ القُطْن ، وقول الطِّرمَّاحِ في ذلك : [ الطويل ] @ 2339 - … بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيَّ - الكَنَائِنِ @@ يريد : قَرْع الكَنَائِنِ القِسِيَّ . قال ابن جِنِّي في هذا البيت : " لم نَجِد فيه بُداً من الفَصْلِ ؛ لأن القوافي مَجْرُورَة " وقال في " زَجِّ القَلُوصِ " فصل بَيْنَهُما بالمَفْعُول به ، هذا ما قُدْرَته إلى آخَر كلامهِ المتقدِّم ، يعني : أنَّه لو أنْشَد بَيْت الطِّرْمَاح بخَفْضِ " القِسِيِّ " ورفع " الكَنَائِنِ " لم يَجُز ؛ لأن القَوافِي مَجْرُورة بِخِلاف بَيْت الأخْفَش ؛ فإنه لو خفض " القَلُوص " ورَفع " أبُو مَزَادَة " لم تَخْتَلِف فيه قَافيِتَه ولمْ يَنْكَسِر وَزْنَه . قال شهاب الدِّين : ولو رفع " الكَنَائِن " في البيت ، لكان جَائِزاً وإن كانتِ القوافي مَجْرُورة ، ويكُون ذلك إقْوَاءً ، وهو أن تكُون بَعْضُ القَوَافي مَجْرُورة وبَعْضُها مَرْفُوعة ؛ كقول امرئ القيس : [ الكامل ] @ 2340 - تَخْدِي عَلَى العِلاَّتِ سَامٍ رَأسُهَا رَوْعَاءُ مَنْسِمُهَا رَثيمٌ دَامِ @@ ثم قال القائل : [ الكامل ] @ 2341 - جَالَتْ لِتصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصِرِي إنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ @@ فالميمُ مَخْفُوضة في الأوَّل ، مَرْفُوعة في الثَّاني . فإن قيل : هذا عَيْبٌ في الشِّعْر . قيل : لا يتقاعد ذلك عن أنْ يَكُون مِثْل هذه للضَّرُورةَ ، والحقُّ أن الإقْواء أفْحَشُ وأكثر عَيْباً من الفَصْل المَذْكُور ، ومن ذلك أيضاً : [ الوافر ] @ 2342 - فإنْ يَكُنِ النِّكَاحُ أحَلَّ شَيءٍ فإنَّ نِكَاحَهَا مَطَرٍ حَرَامُ @@ أي : فإنَّ نِكَاحَ مطرٍ إيَّاها ، فلما قدَّم المفْعُول فَاصِلاً بين المَصْدَر وفاعله ، اتَّصَل بعامِلِه ؛ لأنه قدر عليه مُتَّصِلاً فلا يَعْدل إليه مُنْفَصِلاً ، وقد وقع في شِعْر أبي الطَّيِّب الفَصْل بين المَصْدَر المُضافِ على فَاعِلهِ بالمَفْعُول ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2343 - بَعَثْتُ إلَيْهِ مِنْ لِسَانِي حَدِيقَةَ سَقَاهَا الحَيَا سَقْي - الرِّياضَ - السَّحائبِ @@ أي : سقي السَّحائب الرِّياضَ ، وأما الفَصْل بغير ما تقدَّم فهو قَلِيلٌ ، فمنه الفَصْل بالفاعل . كقوله : [ الطويل ] @ 2344 - … غَلاَئِلَ عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا صُدُورِهَا @@ فَفَصَل بين " غَلائِلَ " وبين " صُدُورِهَا " بالفاعل وهو " عبْدُ القَيْسِ " ، وبالجار وهو " مِنْهَا " كما تقدَّم بيانه ؛ ومثله قول الآخر : [ الطويل ] @ 2345 - نَرى أسْهُماً لِلْمَوْتِ تُصْمِي وَلاَ تُنْمِي ولا تَرْعَوِي عَنْ نَقْضِ - أهْوَاؤنَا - العَزْمِ @@ فأهْوَاؤنا فاعل بالمصدر ، وهو " نَقْض " وقد فصل به بين المَصْدَر وبين المُضَاف إلَيْه وهو العَزم ؛ ومثله قول الآخر : [ المنسرح ] @ 2346 - أنْجَبَ أيَّامَ - والدهُ بِهِ - إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلا @@ يريد : أيَّام إذ نجلاه ، ففصل بالفاعل وهو " والداهُ " المرفوع بـ " أنْجَبَ " بين المُتضايفيْن وهما " أيَّام - إذْ ولداه " . قال ابن خَرُوف : " يجوزُ الفصل بين المصْدَر والمضاف إليه بالمفعُول ؛ لكَوْنِهِ في غير محلِّه ، ولا يُجُوزُ بالفاعل لكوْنِهِ في محلِّه وعليه قراءة ابن عَامِر " . قال شهاب الدِّين : هذا فَرْقٌ بين الفاعل والمفعُول حيث اسْتَحْسن الفَصْل بالمفْعُول دون الفاعل ، ومن الفَصْل بغير ما تقدَّم أيضاً الفَصْل بالنِّداء ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 2347 - وفَاقُ - كَعْبُ - بُجَيْر مُنْقِذٌ لَكَ مِنْ تَعْجِيلِ مُهْلِكَةٍ والخُلْدِ في سَقَرِ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2348 - إذَا مَا - أبَا حَفْصٍ - أتَتْكَ رَأيْتَهَا عَلَى شُقراءِ النَّاسِ يَعْلُو قَصِيدُهَا @@ وقول الآخر في ذلك : [ الرجز ] @ 2349 - كأنَّ بِرْذَوْنَ - أبَا عِصَامِ - زَيْدٍ حِمَارٌ دُقَّ بِاللِّجَامِ @@ يريد : " وفاق بجَيْر يا كَعْب " و " إذا ما أتَتْكَ يا أبَا حَفْصٍ " و " كأن بِرْذَوْن زَيْد يا أبا عِصَام " . ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالنَّعْتِ ؛ كقول مُعَاوِية يُخاطِب به عَمْرو بن العَاص : [ الطويل ] @ 2350 - نَجَوْتَ وَقَدْ بَلَّ المُرَادِيُّ سَيْفَهُ مِن ابْنِ أبِي شَيْخِ الأبَاطِح طَالبِ @@ وقول الآخر في ذلك : [ الكامل ] @ 2351 - وَلَئِنْ حَلَفْتُ عَلَى يَدَيْكَ لأحْلِفَنْ بيَمِينِ أصْدَقَ مِنْ يَمينكَ مُقْسِمِ @@ يريد : من ابن أبِي طَالِب شَيْخ الأبَاطِح ، فشيخ الأباطح نعْت لأبي طالب ، فصل به بَيْن أبي ، وبَيْن طالب ، ويريد : لأحْلِفَن بيمين مُقْسِم أصْدَق من يَمِينِك ؛ فـ " أصدق " نعت لِقَوْله بيمين ، فصل به بَيْن " يَمِين " وبَيْن " مُقْسِمِ " ومن الفَصْل أيضاً الفَصْلُ بالفِعْل المُلْغَى ؛ كقوله في ذلك : [ الوافر ] @ 2352 - ألا يَا صَاحِبَيَّ قِفَا المَهَارَى نُسَائِلْ حَيَّ بَثْنَةَ أيْنَ سَارَا ؟ بأيِّ تَرَاهُم الأرَضِين حَلُّوا أألدَّبَرَانِ أمْ عَسَفُوا الكِفَارَا ؟ @@ يريد : بأي الأرضِين تراهم حَلُّوا ، ففصل بقوله " تَرَاهمُ " بين " أيّ " وبين الأرضين . ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بمفْعُول " لَيْس " معمولاً للمصدر المُضاف إلى فاعل ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ] @ 2353 - تَسْقِي امْتِيَاحاً نَدَى المِسْوَاكَ ريقَتها كَمَا تَضَمَّنَ مَاءَ المُزْنَةِ الرَّصِفُ @@ أي : تسْقِي ندى ريقتها المِسْوَاك فـ " المِسْوَاك " مفْعُول به نَاصبة " تَسْقِي " فصل به بين " نَدَى " وبين " ريقتهَا " ، وإذ قد عَرَفْت هذا ، فاعْلَم أنَّ قِرَاءة ابن عَامِرٍ صحيحَة ؛ من حيث اللُّغَةِ كما هي صَحيحة من حَيْث النَّقْل ، ولا التِفَات إلى قَوْل من قال : إنه اعْتَمَد في ذلك على رسْم مُصْحَفِ الشَّام الذي أرْسَلَه عُثْمَان بن عفَّان - رضي الله عنه - ؛ لأنه لم يُوجَد فيه إلا كِتَابة " شُرَكَائِهِم " بالياء وهذا وإن كافياً في الدَّلالة على جَرِّ " شُرَكائِهِم " ، فليس فيه ما يَدُلُّ على نَصْب " أوْلادَهُم " ؛ إذا المصْحَفُ مُهْمَلٌ من شكْل ونقط ، فلم يَبْقَ له حُجَّة في نَصْب الأولاد إلاَّ النَّقْل المحض . وقد نقل عن ابن عامرٍ ؛ أنه قرأ بِجَرِّ " الأوْلاد " كما سيأتي بَيَانَهُ وتَخْريجُه ، وأيضاً فليس رسْمها " شُرَكَائِهم " بالياء مخْتَصاً بمصْحَف الشَّامِ ، بل هي كذلك أيضاً في مُصْحَف أهْل الحِجَاز . قال أبو البرهسم : " فِي سُورة الأنْعَام في إمَام أهْل الشَّام وأهْل الحجاز : " أوْلادَهُم شُرَكَائِهِم " بالياء ، وفي إمان أهل العراق " شُرَكَاؤهُم " ولم يَقْرَأ أهل الحجاز بالخفضِ في " شُرَكَائِهِم " لأن الرَّسْم سُنَّةُ مُتَّبعة قد تُوافِقُهَا التِّلاوة وقَدْ لا تُوَافِقُ " . إلاَّ أن الشيخ أبا شَامَةَ قال : " ولم تُرْسم كذلك إلا باعتبار قراءَتَيْن : فالمضموم عليه قِراءة معْظم القُرَّاء " ثم قال : " وأمَّا " شُركَائهم " بالخَفْضِ ؛ فيحتمل قراءة ابن عامر " قال شهاب الدين : وسيأتي كلام أبِي شَامَة هذا بتَمَامة في موْضِعه ، وإما أخَذْتُ منه [ بقَدر ] الحَاجَة هُنَا . فقوله : " إن كُلَّ قراءة تَابِعَة لرسْم مُصْحَفِها " تُشْكِلُ بما ذكرنا لك من أنَّ مصحَفَ الحِجَازيِّين بالياءِ ، [ مع أنَّهُم لم يَقْرءُوا بذلِك ] . وقد نقل أبُو عَمْرو والدَّانيِ أن : " شُرَكَائِهِم " بالياء ] ، إنَّما هو في مُصْحف الشَّامِ دون مَصَاحِف الأمْصَار ؛ فقال : " في مَصَحِف أهْل الشَّامِ " أوْلادَهُم شُركَائِهم " بالياء ، وفي سائر المصاحف شُركَاؤُهُم بالواوِ " . قال شهاب الدين : هذا هو المَشْهُور عند النَّاس ، أعني اختصاص الياءِ بمصاحِفِ الشَّامِ ، ولكن أبُو البرهسم ثِقَة أْيضاً ، فنَقْبَل ما ينقله . وقد تقدَّم قول الزَّمَخْشَري : " والَذي حَمَلَه على ذِلَك أنْ رَأى في بعض المَصاحِف " شُرَكَائِهِم " مكتوباً بالياء " . وقال الشَّيْخ [ شهاب الدِّين ] أبو شامة : " ولا بُعْد فيما اسْتَبْعَده أهل النَّحْو من جِهَة المَعْنَى ؛ وذلك أنه قَدْ عُهِد المفعُول على الفاعل المَرْفُوع لفظاً , فاستمرّت له هذه المرْتَبَة مع الفاعِل المَرْفُوع تقديراً ، فإنَّ المَصْدر لو كان مُنَوّناً لجاز تَقْدِيم المفعُول على فاعله ، نحو : " أعْجَبَنِي ضَرْب عَمْراً زَيْدٌ " فكذا في الإضَافَة ، وقد ثبت جواز الفَصْل بين حَرْف الجرِّ ومجْرُوره مع شِدَّة الاتِّصال بَيْنَهُمَا أكْثَر من شِدَّته بين المُضَافِ والمُضافِ إليه ؛ كقوله - تعالى - : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] { فَبِمَا رَحْمَةٍ } [ آل عمران : 159 ] فـ " مَا " زَائِده في اللَّفْظِ ، فكأنها سَاقِطة فيه لسُقُوطها في المَعْنَى , والمَفْعُول المقدَّم هو غير مَوْضِعِه مَعْنى فكأنه مؤخَّر لَفْظاً ، ولا التِفَات إلى قَوْل من زَعَم أنه لم يَأتِ في الكلام المَنْثُور مثله ؛ لأنه نَافٍ ، ومن أسْنَد هذه القِراءة مُثْبِت ، والإثْبات مُرَجَّح على النَّفْي بإجْمَاع ، ولو نقل إلى هذا الزّاعِم عن بَعْضِ العرب أنه اسْتَعَمَلَهُ في النَّثْر ، لرجع إلَيْه ، فما بالُه لا يكْتَفِي بناقل القراءة من التَّابعين عن الصَّحابَةِ ؟ ثم الذي حَكَاه ابن الأنْبَاري يَعْني ممَّا تقدَّم حِكايته من قولهم : " هو غُلامُ إن شاء اللَّه أخيك " فيه الفَصْل من غير الشِّعْر بجُمْلَة " . وقرأ أبو عبد الرَّحْمن السلمي ، والحسن البصري ، وعبد الملك قَاضِي الجند صَاحِب أن عامِر : " زُيِّن " مبْنِياً للمفعُول ، " قَتْلُ " رفعاً على ما تقدَّم ، " أوْلادِهم " خفْضاً بالإضافة ، " شُرَكَاؤهم " رفْعاً ، وفي رفْعِه تخريجان : أحدهما - وهو تَخْريج سيبويه - : أنه مَرْفُوع بفعل مُقَدَّر ، تقديره : زَيَّنَه شركَاؤهُم ، [ فهو جواب لِسُؤال ] مقدر كأنَّه قيل : مَنْ زَيَّنة لَهُم ؟ فقيل : " شركَاؤُهُم " ؛ وهذا كقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رجَالٌ } [ النور : 36 ] أي : يُسَبِّحُهُ . وقال الآخر : [ الطويل ] @ 2354 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ … @@ والثاني : خرجه قُطْرُب - أن يكُون " شُرَكَاؤهُم " رفعاً على الفاعليَّة بالمَصْدَر ، والتقدير : زُيِّن للمشركِين أن قَتْلَ أوْلادهم شُركَاؤُهُم ؛ كما تَقُول : " حُبِّب لِي رُكوبُ الفرسِ زَيْدٌ " تقديره : حُبِّب لِي أنْ ركب الفَرَس زَيْد ، والفرق بني التَّخْرِيجَيْن : أن التَّخريج الأوَّل يؤدِّي إلى أن تكُونَ هذه القِرَاءةُ في المَعْنَى ، كالقراءة المَنْسُوبة للعَامَّة في كون الشُّركَاء مُزَيِّين للقَتْلِ ، وليسوا قَاتِلِين . [ والثاني : أن يكون الشُّركاء قَاتِلِين ] ، ولكن ذلك على سبيل المجازِ ؛ لأنهم لما زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائِهِم ، وكانوا سَبَباً فيه ، نُسِبَ إليهم القَتْل مجازاً . وقال أبو البقاء : " ويمكن أن يَقَع القَتْل منهم حَقِيقَة " ، وفيه نظر ؛ لقوله - تبارك وتعالى - : " زَيَّن " والإنْسَان إنما يُزَيَّن له فِعْل نَفْسِه ؛ كقوله - تعالى - : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] وقال غير أبي عُبَيْد : " وقرأ أهْل الشام كقِرَاءة ابن عامر ، إلا أنهم خفَضُوا " الأولاد " أيضاً ، وتخريجها سَهْل ؛ وهو أن تَجْعَل " شُرَكَائِهم " بدلاً من " أولادِهِم " بمعنى أنهم يُشْرِكُونهم في النَّسبِ ، والمالِ ، وغير ذلك " . قال الزَّجَّاج : " وقد رُوِيت " شُركَائِهم " بالياء في بَعْض المصاحفِ ، ولكن لا يَجُوز إلاَّ على أن يكُون " شُركَاؤُهم " من نَعْت الأولاد ؛ لأن أولادهم شُرَكَاؤهُم في أمْوالهم " . وقال الفراء بعد أنْ ذكر قِرَاءة العامَّة وهي " زَيَّن " مبنياً للفاعل ، " شركَاؤُهُم " مرفوعاً على أنَّه فاعِل - وقراءة " زُيِّن " مبنياً للمفعُول ، " شركَاؤُهُم " رَفْعاً على ما تقدَّم من أنه بإضْمار فعل ، وفي مُصْحَف أهْل الشَّام " شُركَايهم " بالياء ، فإن تكُن مُثْبتة عن الأوَّلين ، فينبغي أن تقرأ " زُيِّن " ويكون الشُّركَاء هم الأوْلاَد ؛ لأنهم مِنْهُم في النَّسْب والمِيراث . وإن كانوا يَقْرَءُون : " زَيِّن " - يعني بفتح الزاي - فَلَسْت أعرف جِهَتَهَا إلا أن يكُونُوا فيها آخِذِين بلُغَة قَوْم يَقُولون : أتْيتُها عَشَايَانَا ، ويقولون في تثنية حَمْراء : حَمْرَايَان فهذا وَجْه أن يكُونُوا أرَادُوا : زَيَّن لكثير من المشْرِكِين قتل أوْلادهم شُركَايُهم ، يعني بياء مَضْمُومة ؛ لأن " شركَاؤُهُم " فاعل كما مَرَّ في قرَاءة العَامَّة . قال : " وإن شِئْتَ جَعَلْتَ " زَيَّن " فعلاً إذا فَتَحْتَهُ لا يُلبس ، ثم تَخْفِض الشركاء بإتباع الأولاد " . قال أبو شامة : " يعني تَقْدير الكلام : " زَيَّن مُزَيّنٌ " فقد أتَّجَه " شركَائِهِم " بالجرِّ أن يكون نعتاً للأوْلاَد ، سواءٌ قُرىء زَيّن بالفتح أو الضم " . وقرأت فِرْقة من أهْل الشَّامِ - ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً - " زِينَ " بكسر الزاي بعدها ياء سَاكِنة ؛ على أنه فِعْل ماضٍ مبْنِيّ للمْجُهول على حَدِّ قِيلَ وبيعَ . وقيل : مَرْفُوع على ما لم يُسَمَّ فَاعِله ، و " أولادهُم " بالنصب ، و " شُرَكَائِهِم " بالخَفْضِ ، والتَّوْجِيه واضح مما تقدَّم ، فهي [ و ] القراءة الأولى سواء ، غاية ما في البابِ : أنَّه أُخذ مِنْ زَانَ الثُّلاثِي ، وبين للمَفْعُول ، فاعِلَّ بما قد عَرَفْتَهُ في أول البَقَرة . واللام من قوله " لِكثير من المشْركينَ " متعلِّقة بـ " زَيَّن " ، وكذلك اللاَّمُ في قوله : " ليُرْدُوهُم " . فإن قيل : كيف تُعَلَّق حرفَيْ جر بلفْظٍ واحِد وبمعنى واحد بعامل واحد ، من غَيْر بَدَلِيَّة ولا عَطْف ؟ . فالجواب : أن مَعْنَاها مختلِفٌ ؛ فإن الأولى للتَّعْدِيَة والثَّانية للعِلِّيَّة . قال الزمخشري : " إن كان التَّزيين من الشَّياطين ، فهي على حقيقةِ التَّعْليل ، وإن كان من السَّدنَةِ ، فهي للصَّيْرُورة " يعني : أن الشَّيْطَان يَفْعَل التَّزْيين وغرضُه بذلك الإرْدَاءُ ، فالتعْلِيل فيه واضِحٌ ، وأمَا السَّدَنةُ فإنهم لم يُزَيِّنوا لهم ذَلِك ، وغرضهم إهْلاكُهم ، ولكن لما كان مآل حَالِهِم إلى الإرْدَاءِ ، أتى باللاَّم الدَّالَّة على العَاقِبة والمآل . فصل في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية كان أهْل الجَاهِليَّة يدْفِنُون بَنَاتَهم أحْياء خَوْفاً من الفَقْر والتَّزْويج ، واخْتلفُوا في المراد بالشُّركَاءِ . فقال مجاهد : شُرَكَاؤُهم شَيَاطينُهم أمَرُوهم بأن يَقْتُلوا أولادَهم خَشْيَة الغِيلَة ، وسمِّيت الشَّياطين شُرَكَاء ؛ لأنهم اتخذوها شُرَكَاء لقوله - تبارك وتعالى - : { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] . وقال الكَلْبِيّ : الشركاء سَدَنة آلِهَتِهم وخُدَّامهم ، وهُمُ الَّذِين كَانُوا يُزَيِّنُون للكُفَّار قَتْل أولادهم ، وكان الرَّجُل يَقُوم في الجَاهلِيَّة فيحلف باللَّه إن ولد له كَذَا غُلاماً لَيَنْحَرَنَّ أحدهم ، كما حلف عَبْد المُطَلِّب على ابْنه عبد الله ، وسُمِّيت السَّدَنَة شُرَكَاء كما سُمِّيت الشَّياطِين شُرَكَاء في قَوْل مُجَاهِد ، وقوله " لِيُرْدُوهُم " الإرْدَاء في لُغة القُرْآن الإهلاك { إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } [ الصافات : 56 ] . قال ابن عبَّاس : " لِيُرْدُوهم في النَّار " واللاَّم هَهُنَا لام العَاقِبة ؛ كقوله : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . { ولِيلبِسُوا عَلَيْهِم دِينَهُم } أي : يَخْلِطُوا عليهم دِينَهُم . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - ليُدْخِلُوا عليهم الشَّك في دينهم ، وكانوا على دِين إسْمَاعيل فَرَجَعُوا عنه بلبس الشَّياطين . قوله : " وليَلْبِسُوا " عطف على " ليُرْدُوا " علل التَّزْيين بشَيْئَيْن : بالإرداء وبالتخليط وإدْخَال الشُّبْهَة عليهم في دينهم . والجمهور على " وليَلْبِسُوا " بكسر الباء مِنْ لَبَسْتُ عليه الأمْر ألبِسُه ، بفتح العَيْن في المَاضِي وكَسْرِها في المُضَارع ؛ إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشُّبْهَة وخَلَطْتَهُ فيه . وقد تقدَّم بَيَانُه في قوله : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] . وقرأ النخعي : " وليلبسوا " بفتح الباء فقيل : هي لغة في المعنى المذْكُور ، تقول : " لَبِسْتُ عليه الأمْر بفتح الباء وكسرها ألْبَسه وألبَسَهُ " والصَّحِيح أن لَبِس بالكَسْر بمعنى لَبِس الثياب ، وبالفَتْح بمعْنى الخَلْط ، فالصَّحيح أنه اسْتَعار اللِّبَاس لشِدَّة المخالطة الحَاصِلَة بَيْنَهم وبين التَخْليط ؛ حتى كأنَّهم لَبْسُوها كالثياب ، وصارت مُحِيطة بهم . قوله : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } والضَّمير المرفُوع للكَثِير والمنصُوب للقَتْل للتصريح به ، ولأنَّه المسُوق للحديث عنه . وقيل : المَرْفُوع للشُّركاء والمنْصُوب للتَّزِيين . وقيل : المَنْصُوب لِلَّبْسِ المَفْهُوم من الفِعْل قَبْله وهو بَعِيد . وقال الزَّمَخْشَري : " لما فَعَل المُشْرِكُون ما زُيِّن لَهُم من القَتْلِ ، أو لما فَعَل الشَّياطين أو السَّدَنَة التَّزْيين أو الإرْدَاء أو اللِّبْس ، أو جَمِيع ذلِك إن جَعلْتَ الضمير جَارياً مَجْرَى اسم الإشارة " . قوله : " فَذَرْهُم وما يَفْتَرُون " تقدَّم نظيره . فصل في المراد من الآية المعنى : ولو شاء اللَّه لعَصَمُهم حتى ما فَعَلُوا ذلِك من تَحْرِيم الحَرْث والأنْعَام ، وقتل الأولاد فذرهم يا مُحَمَّد وما يَفْتَرُون يختلِقُون في الكَذِب ، فإن اللَّه لهم بالمِرْصَادِ . قال أهل السُّنَّة : وهذا يَدُلُّ على أن كُلَّ ما فَعلَهُ المشرِكُون - فهو بِمَشِيئَة الله - تبارك وتعالى - . وقالت المعتزلة : إنه مَحْمُول على مَشِيئَة الإلْجَاء كما سَبَق .