Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 141-141)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه - تعالى - لما جعل مدار هذا الكتاب الشَّريف على تقرير التَّوْحِيد والنبوة والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر ، وإنه - تبارك وتعالى - بالغ في تَقْرِير هذه الأصُول ، ثم شرح أحْوَال السُّعداء والأشْقِياء وانْتَقَل إلى تهْجِين طَريِقَة منْكِري البَعْث ، ونبه على ضَعْف عُقُولِهِم ، وتَنْفِير النَّاسِ عن الالْتِفَات إلى قوهم والاعْتِزَاء بشُبُهاتهم ، عاد بعدها إلى المقصُود الأصْلي ، وهو إقامة الدَّلائِل على تَقْرير التًّوحيد ، فقال - تعالى - : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ } وهذا الدَّليل قد سبق في هذه السُّورة ، وهو قوله - تعالى - : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 99 ] فالآية المتقدمة ذكر فيها خَمْسة أنواع : وهي الزَّرع ، والنخل ، وجنَّات من أعْناب ، والزيتون والرُّمَان ، وذكر في هذه الآية الكريمة [ هذه الخمسة وقال : ] { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } [ الأنعام : 99 ] وهنا { مَتَشابِهاً وغير مُتَشَابه } وذكر في الآية المتقدمة : { ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } [ الأنعام : 99 ] وذكر في هذه الآية : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فأذن في الانتفاع بها ، وأمر بِصَرف جُزْء مِنْها إلى الفُقَراء ، فالذي حَصَل به الامْتِيَاز بين الآيتين : أن هُنَاك أمر بالاسْتِدْلال بها على الصَّانع الحكيم وههنا أذن في الانْتِفَاع بها ، وذلك تَنْبِيهٌ على أن الأمْرَ بالاسْتِدْلال بها على الصَّانِع الحَكيم مقدَّم على الإذن في الانتفاع ، لأن الاستدلال على الصَّانِع يَحْصُل به سَعَادَة أبدية , والانتفاع يَحْصُل به سعادة جُسْمانِيَّة سريعة الانْقضَاء والأول أولى بالتَّقْديم . وقال القرطبي : ووجه اتِّصَال هذا بما قَبْلَه : أن الكُفَّار لما افْتَروا على الله الكذب ، وأشْركُوا معه وحَلَّلُوا أو حَرَّمُوا ، دَلَّهم على وحْدانِيَّته بأنه خَالِق الأشْيَاءِ ، وأنه جَعَل هذه الأشْيَاء أرْزَاقاً لهُمْ . قوله : { أنْشَأ جَنَّاتٍ } أي : خَلَقها ، يقال : نشأ الشَّيْء يَنْشَأ نَشْأه ونَشَاءَةً ، إذا ظهر وارتفع ، والله يُنْشِئُه إنْشَاءً ، أي : يُظْهرُه ويرفعه . وقوله : " مَعْرُوشَاتٍ " يقال : عَرَشْت الكَرَم أعْرِشُه عَرْشاً وعَرَّشْتُه تَعْريشاً إذا عطفت العيدان الَّتِي تُشَال عليها قُضْبَان الكَرْم ، والواحِدُ عَرْشٌ ، والجمع عُرُوشٌ ، ويُقَال : عَرِيش وجمعه عُرُشٌ ، واعْتَرش العِنَبُ العَرِيش اعْتِرَاشاً ، وفيه أقوال : أحدها : قال الضَّحَّاك : إن المَعْرُوشاتِ وغَيْر المَعْرُوشَاتِ كلاهما الكَرْم ؛ فإن بَعْضَ الأعناب يُعَرَّش وبَعْضُها لا يُعَرَّش ، بل يَبْقَى على وجْهِ الأرْضِ مُنْبَسِطاً . وثانيها : المَعْرُوشات : العِنَب الَّتِي يجعل لها عُرُوش ، وغير المعروشات : كُلُّ ما يَنْبُت منبَسِطاً على وَجْه الأرض ؛ مثل القَرْع والبطِّيخ . وثالثها : قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : المَعْرُوشات : ما يُحْتَاجُ أن يتَّخذ له عَرِيشٌ يحمل عَلَيْه ؛ مثل الكَرْم والبطِّيخِ والقَرْع وغيرها ، وغير المَعْرُوش : هو القَائِم على سَاقِهِ كالنَّخْلِ والزَّرْع . ورابعها : المَعْرُوشات : ما يَحْصُل في البَسَاتين والعمرانات مما يغرسه النَّاسِ ، وغير المعروشات : مما أنْبَتَهُ اللَّه - تبارك وتعالى - وجني في البَرَارِي والجِبَال . فصل في معنى الزرع والنخل والزَّرغ والنَّخْل ؛ فسر ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - الزَّرْع هَهُنا : لجميع الحُبُوب التي تقْتَات ، أي : وأنْشَأ الزَّرْع ، وأفْرِدا بالذِّكر وهما دَاخِلان في النِّبات ؛ لما فيهما من الفَضِيلَة على ما تقدَّم بيانه في البقرة عند قوله - تعالى - : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ } [ البقرة : 98 ] . قوله - تعالى - : { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } : مَنْصُوب على الحَالِ وفيها قولان : أحدهما : أنها حَالٌ مُقَدَّرة ؛ لأن النَّخْل والزرع وَقْت خروجهما لا أكْلَ فِيهمَا ؛ حتى يقال فيه : مُتَّفِقٌ أو مُخْتَلِف ؛ فهو كقوله - تبارك وتعالى - : { فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ، كقولهم : " مَرَرْت برجُلٍ معه صَقْرٌ صَائِداً به غداً " أي : مُقَدِّراً الاصطِيَاد به . والثاني : أنها حَالٌ مُقَارِنَة ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : وثمر النَّخْل وحَبُّ الزَّرع ، و " أكُلُه " مَرْفُوعٌ بـ " مُخْتَلِفاً " [ لأنه اسْم فاعل ، وشروط الإعْمَال مَوْجُودة ، والأكُل : الشَّيْء المَأكُول ، وقد تقدَّم أنه يُقْرأ بضمّ الكافِ وسُكُونها ، ومضى تحقيقُه في البقرة : [ 265 ] والضَّمِير في " أكُله " الظاهر أنَّه يَعُودُ على الزَّرْعِ فقط : إمَّا لأنَّه حذف حالاً من النَّخْلِ ؛ لدلالة هذه عَلَيْه ، تقديره : والنَّخْل مُخْتَلِفاً أكُلُه ، والزَّرْع مُخْتَلِفاً ] أكله . وإمَّا لأن الزَّرع هو الظَّاهِر فيه الاخْتِلافُ بالنِّسْبَة إلى المأكُول مِنْه ؛ كالقَمْح والشَّعِير والفول والحِمص والعَدس وغير ذلك . وقيل : إنها تعود عليهما . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : والضَّمِير للنَّخْل والزَّرع داخل في حُكْمِهِ ، لكونه مَعْطُوفاً عليه . وقال أبو حيًّان : وليس بِجيِّد ؛ لأن العَطْف بالواوِ ، ولا يَجُوز إفْرَاد ضَمير المتَعَاطِفين . وقال الحُوفِيُّ : " والهاءُ في " أكُلُه " عائدة على ذِكْر ما تقدَّم من هذه الاشْيَاء المُنْشَآت " وعلى هذا الذي ذكرَهُ الحوفي : لا تخْتَصُّ الحَالُ بالنخل والزَّرْعِ ، بل يكُون لِمَا تقدَّم جَمِيعه . قال أبو حيَّان : " ولو كَانَ كما زَعَم ، لكان التَّرْكيب : " أكُلُهَا " إلا إنْ أُخِذ ذَلِك على حَذْفِ مُضَافِ ، أي : ثَمَرَ جَنَّات ، وروعي هذا المَحْذُوف فقيل : " أكُلُهُ " بالإفْرَاد على مُرَاعَاته ، فيكون ذلِك كَقَوْله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ } [ النور : 40 ] أي : أو كَذَا ظُلُمات ، ولذلك أعَادَ الضمير في يَغْشَاهُ عليه " . قال شهابُ الدِّين : فَيَبْقَى التَّقْدِير : مُخْتَلِفاً أكُل ثمر الجنَّاتِ وما بعدها ، [ وهذا ] يلْزَمُ منه إضَافَة الشَّيءِ إلى نَفْسِه ؛ لأن الأكل كما تقدَّم غير مرَّة أنه الثَّمَر المأكُول . قال الزمخشري في الأكُل : " وهُوَ ثمره الذي يُؤكَل " . وقال ابن الأنْبَاريِّ : إن " مُخْتَلِفاً " نصبٌ على القَطْع ، فكأنه قال : " والنَّخْل والزَّرْع المختلفُ أكُلُهما " وهذا رأي الكُوفيِّين ، وقد تقدم إيضاحُه غير مرَّةٍ . وقوله : { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وقد تقدَّم إيضاحه [ الأنعام : 99 ] . قال القرطبُّي : " والزَّيْتُون والرُّمَّان " عَطفٌ عليه ، { مُتَشَابهِاً وغير مُتَشَابِه } نصب على الحالِ ، وفي هذه أدلَّة ثلاثة : أحدها : ما تقدَّم من إقَامَة الدّلِيل على أنَّ المتغيّرات لا بُدَّ لها من مُغَيَّر . الثاني : أن الدَّلالة على المِنَّة منه - سبحانه وتعالى - علينا ، فلو شَاءَ إذ خَلَقَنَا ألاَّ يَخْلُق لنا غِذَاءً ، وإذا خَلَقَهُ ألاّ يَكُون جميلَ المَنْظَر طيِّب الطَّعْم ، وإذا خلقَهُ كذلك ألاَّ يكون سَهْل الجَنْي ، فلم يَكُن عليه أن يَفْعَل ذلك ابتداء ؛ لأنه لا يَجِب عليه شَيْء . الثالث : الدَّلالة على القُدْرَة في أن يكُون الماءُ الذي مِنْ شَأنه الرسوب ، يصعد بقُدْرَةِ علاَّم الغُيُوب من أسَافِل الشَّجَرة إلى أعاليها ، حتى إذا انْتَهَى إلى آخِرِها ، نشأ فيها أوْرَاق لَيْست من جِنْسِها ، وثمر خَارجٌ من الجِرمْ الوَافِر ، واللَّوْن الزَّاهِر ، والجَنَى الجَدِيد ، والطَّعم اللذيد ؛ فأين الطِّبَاع وأجْنَاسُها ؟ وأين الفلاسفة وأنَاسُها ؟ هل في قُدْرة الطَّبيعة أن تُتْقِن هذا الإتْقَان ، أو تُرَتِّب هذا التَّرْتِيب العجيب ؟ كلاَّ لم يَتِمَّ ذلك في العُقُول إلاَّ بتَدِبير عالمٍ قديرٍ مريدٍ ، فسبحان من لَهُ في كل شيء آية ونهايةَ ! فصل في المقصود من خَلْق المنافع لما ذكر كيْفِيَّة خلقِهِ لهذه الأشْيَاءِ ، ذكر ما هُو المَقْصُود الأصْلِيُّ من خلقها ، وهو انْتِفَاع المكَلَّفين ؛ فقال : { كلُوا من ثَمِرِهِِ إذَا أثْمَرَ } واخْتَلَفُوا ما الفائدة منه ؟ قال بَعْضهُم : فائدته الإبَاحَة . وقال آخَرُون : المَقْصُود منه إبَاحَة الأكل قبل إخْرَاج الحقِّ ؛ لأنه - تعالى - لمَّا أوجَبَ الحقِّ فيه ، كان يجُوزُ أن يَحْرُمَ على المَالِكِ تَنَاوله لِمُشَاركة المساكين ، بل هذا هو الظَّاهر ، فأباح هذا الأكْل وأخرج وُجُوب الحقِّ فيه من أنْ يكون مَانِعاً من هذا التَّصَرُّف . وقال بعضهم : بل أبَاحَ - تعالى - ذلك ليُبَيِّن أنَّ المقْصِد بِخَلْق هذه النِّعَم الأكْل ، وأما تَقْديم ذكر الأكْل على التصدُّق ؛ لأن رِعَاية النَّفْسِ متقدِّمة على الغَيْر ؛ قال : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } [ القصص : 77 ] . فصل في بيان الأصل في المنافع تمسَّك بَعْضُهم بقوله : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ } بأن الأصْل في المَنَافِع : الإباحة ؛ لأن قوله - تعالى - : " كُلُوا " خطاب عَامٌّ يتناول الكُلًّ ، فصار كقوله : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 29 ] ويمكن التمَسُّك به على أنَّ الأصْل : عدم وُجوب الصَّدَقة ؛ لأن من ادَّعى إيجابَهُ ، كان هو المُحْتَاج إلى الدَّلِيل ، فيُتَمسَّك به في أنَّ المَجْنُون إذا أفَاق في أثْنَاء الشَّهْر ، لا يَلْزَمُه قَضَاء ما قَضَى ، وفي أنَّ الشَّارع في صوم النَّفْل لا يجبُ عليه الإتمام . فصل قال القُرْطُبيُّ : قوله - تعالى - { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَر } هذان بناءان جاءا بصيغة أفعل . أحدهما : للإباحة ؛ كقوله : { فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الجمعة : 10 ] والثاني : للوجوب ، وليس يَمْتَنِع في الشَّريعة اقتران الإبَاحَة والواجب وبدأ بذكر نِعْمَة الأكْل قبل الأمر بإيتاء الحق ؛ ليبيِّن أن الابتداء بالنِّعْمَة كان من فَضْلِه قبل التكليف . وقال ابن الخَطِيب : وعلى أنَّ صِيغَة الأمْر ترد لِغَيْر الوُجُوب والنًّدْب ، وعند هذا ، قال بَعْضُهم : الأصْل في الاستِعْمَال : الحَقِيقَة ؛ فوجَبَ جعل هذه الصِّيغَة مفيدةً لرفع الحَرَج ؛ فلهذا قالوا : الأمْر يقتضي الإبَاحَة إلا أن نَقُول : يُعْلَم بالضَّرُورة من لُغَة العَرَب ، أن هذه الصِّيغَة تُفِيد تَرْجِيح جَانِب الفِعْل ، فحملُهَا على الإبَاحة لا يُصَار إليه إلاَّ بِدَليلٍ مُنْفَصِل . قوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قرأ أبُو عَمْر وابن عامر وعاصم بِفَتْح الحاء : " حَصاده " والباقون بكسرها ، وهما لُغَتَان في المَصْدَر ؛ كقولهم ؛ جَداد وجِدَاد ، وقَطَاف وقِطَاف ، وحَرَان وحِرَان والصِّرَام والصَّرَام . قال سيبويه : جاءوا بالمَصْدَر حين أرَادُوا انْتِهاء الزَّمَان على مثال : " فِعَال " وربما قَالُوا فيه : " فَعَال " يعني : أنَّ هذا مَصْدر خَاصٌّ دالٌّ على مَعْنى زَائِد على مُطْلَق المَصْدَر ؛ فإن المَصْدَر الأصْلِيُّ إنما هو الحَصْد ، فالحَصْد ليس فيه دلالة على انْتِهَاء زَمَان ولا عدمها ؛ بخلاف الحَصَاد والحِصَاد . ونسب الفرَّاء الكَسْر لأهل الحِجَاز ، والفتح لـ " تميم " و " نَجْد " ، واخْتَار أبو عُبَيْد الفَتْحَ ؛ قال : للفخامةٍ ، وإن كانت الأخرى " فَاشِيَةً غير مَدفُوعة " ، ومكي الكَسْر ؛ قال : " لأنَّه الأصْل ، وعليه أكثر الجماعة " . وقوله : " يَوْم حصاده " فيه وجهان : أحدهما : أنه مَنْصُوب بـ " آتُوا " أي : أعْطُوا واجِبَة يوم الحَصَادِ ، واستَشْكَل بعض النَّاسِ ذلك بأنَّ الإيتاء إنما يكون بعد التَّصْفِيَة ، فيكيف يُوجِب الأيتَاء في يَوْم الحَصْد ؟ وأجِيبُ : بأنّ ثَمَّ مَحْذُوفاً ، والتّقْدير : إلى تَصْفِيتهِ ، قالوا : فيكون الحَصاد سَبباً للوُجُوب المُوسَّع ، والتَّصْفِيَة سَبَبٌ للأدَاءِ ، وأحسن من هَذَا أن يَكُونَ المَعْنَى : واهتموُّا بإيتاءِ الواجِبَة فيه واقْصُدُوه في ذلك اليَوْم . الثاني : أنه مَنْصُوب بلفظ " حَقَّهُ " على معنى : وأعطوا ما اسْتِحقَّ منه يوم حَصَادِه ، فيكون الاستِحْقَاق ثابتاً يوم الحَصَادِ والأدَاء بعد التَّصْفِيَة ؛ ويؤيد ذلك تَقْدير المَحْذُوف عند بَعْضِهِم كما قَدَّمْتُه ، وقال في نَظِير هذه الآية : { ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ } [ الأنعام : 99 ] ، وفي هذه : " كُلُوا " قيل : لأن الأولى سيقت للدَّلالة على كَمَال قُدْرَته ، وعلى إعْادة الأجْسام من عجب الذنب ، فأمر بالنظر والتَّفَكُّر في البدَاية والنِّهاية ، وهذه سيقت في مَعْرِض كمال الامْتِنَان فناسب الأمْر بالأكْلِ ، وتحصَّل من مجموع الآيَتَيْنِ : الانتِفَاعُ الأخْرَوِيّ والدُّنْيَوي ، وهذا هو السَّبَب لتقدُّم النَّظَر على الأمْر بالأكْل كما قدمنا . فصل في معنى الحق هنا اخْتَلَفُوا في هذا الحق : فقال ابن عبَّاس في رِوَاية عَطَاء وطاوس والحَسَن وجابر بن زيد وسعيد بن المُسَيَّب : أنَّها الزَّكَاة المفروضَةُ من العُشْر فيما سقَتِ السَّمَاءُ ، ونصف العُشْر فيما سُقِي بالكُلْفة . وقال علي بن الحُسَيْن وعطاء ومُجَاهد وحمَّاد والحكم هو حَقُّ في المال سوى الزَّكَاة أمر بإيتائه ، لأن الآية مَكيَّة وفرضت الزَّكاة بالمَدِينَة . قال إبراهيم : هو الضِّغث وقال الرَّبيع : لقاط السُّنْبُل . وقال مُجَاهد : كانوا يُعَلِّقُون العذق عند الحَرَم ، فيأكُلُ مِنْهُ كلُّ من مَرَّ . وقال يزيد بن الأصَمّ : كان أهْل المَدِينَة إذا أحْرَمُوا يجيئون بالعذق فَيُعَلِّقونه في جانِب المَسْجِد ، فيجيء المسْكِينُ فيضْربه بعَصَاه فَيَسْقُط منه . وقال سَعيد بن جُبَيْر : كان هذا حقاً يُؤمر بإيتَائِه شفي ابْتداء الإسْلام ، فصار مَنْسُوخاً بإيجاب العُشْر . وقال مُقْسِم عن ابن عبَّاس : نسخت الزَّكَاةٌ كُلُّ نفقةٍ في القُرْآنِ . والصَّحيح الأوَّل ؛ لأن قوله - تعالى - : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } إنما يَحْسُن ذكره إذا كان ذلك الحَقُّ مَعْلوماً قبل وُرودِ هذه الآيةِ ؛ لئلا تَبْقَى هذه الآية مُجمَلة . وقال - عليه السلام - : " لَيْسَ في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاة " فوجَبَ أن يكون المُراد بهذا الحقِّ حق الزَّكَاةِ . قوله : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } بعد ذكر العِنَب والنَّخْل والزَّرْع والزَّيْتُون والرُّمَّان يدلُّ على وُجُوب الزَّكَاةِ في الثِّمار كما يقوله أبو حنيفة ، فإن لفظ الحَصَادِ قيل : هو مَخْصُوص بالزَّرْع . فالجواب : لفظ الحَصْد في اللُّغَة عبارة عن القَطْع ، وذلك يتناول الكلَّ ، وأيضاً فالضَّمِير في قوله : " حَصَادِهِ " يجب عَوْده إلى أقْرب المذْكُورات وذلك هو الزَّيْتُون والرُّمَّان ، فوجَبَ أن يَعُود الضَّمِير . فصل في بيان زكاة الزروع قال أبو حنيفة : العُشْر واجِبٌ في القَلِيل والكَثِير لهذه الآية . وقال الأكثرون : لا يِجِب إلاَّ إذا بلغ خَمْسَة أوْسُق ؛ لأن الحَدِيث عن الحقِّ الواجب هَهُنا ما هو . قال القرطبي : وبهذه الآيةِ استَدَلَّ من أوجب العُشْر في الخضْرَواتِ ؛ لقوله تعالى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } والمذكور قَبْله الزَّيْتُون والرُّمَّان ، والمذكور عَقِب الجملة يَنْصَرِف إلى الأخِيرَة بلا خلافٍ قاله الكيا الطبري . قوله : " ولا تُسْرِفُوا " قال أبو العبَّاس عن ابن الأعْرَابيِّ : السَّرَف تجاوز الحدِّ . وقال غيره : سَرَف المال : ما ذهب منه من غَيْر مَنْفَعَةٍ . قال القُرْطُبِي : الإسْرَاف في اللُّغَة : الخطأ . قال ابن عبَّاس " وحَقُّ اللَّه " في رواية الكلبي عنه ؛ أن ثابت بن قيس بن شماس جَذَذَ خمسمائة نَخْلَةٍ , وقسَّمَها في يوم واحدٍ ولم يترك لأهْلِه شَيْئاً ؛ فأنزل اللَّه هذه الآية . وقال السُّدِّيُّ : " لا تُسْرِفُوا ؛ أي : لا تعْطُوا أمْوَالُكم فتَقْعُدوا فُقَرَاء " . قال الزَّجَّاج - رحمه الله - : فعلى هذا إذن : إعْطَاء الإنْسَان كل مَالِهِ ، ولم يوصل إلى عياله شَيْئاً وقد أسْرَف ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " . وقال سعيد بن المسيَّب : مَعْنَاه لا تَمْنَعُوا الصِّدقة فعلى الأوَّل معنى الإسْرَاف ؛ تجاوُز [ الحَدِّ في الإعْطَاء ، وعلى هذا الإسْرَاف : تجاوز ] الحَدِّ في المَنْع . وقال مُقَاتِل : لا تُسْرِفُوا : لا تُشْرِكُوا الأصْنَام في الحَرْث والأنْعام . وقال الزُّهري : معناه : لا تُنْفِقُوا في مَعْصية اللَّه - تعالى - . قال مُجَاهِد : لو كان أبُو قُبَيْس ذَهَباً فأنفقه أحد في سَبيل اللَّه وطاعة اللَّه ، لم يكن مُسْرِفاً : ولو أنْفق دِرْهَمان في مَعْصِيَة اللًّه ، كان مسرفاً ، وهذا المَعْنَى أراده الشَّاعِر بقوله : [ الوافر ] @ 2356 - ذَهَابُ المَالِ في جُهْدٍ وأجْرٍ ذَهَابٌ لا يُقَالُ لَهُ : ذَهَابُ @@ قيل لِحَاتِمٍ الطَائيِّ : لا خير في السَّرفِ ، فقال : لا سَرَف في الخَيْر . ورَوَى ابن وهب عن ابن زيد قال : الخِطَاب إلى السَّلاطين ، يَقُول : لا تَأخُذُوا فوق حَقكم ، قال - عليه الصَّلاة والسلام - " المعتدي في الصِّدَقَةِ كَمَانِعِهَا " . وقال أبو عَبْد الرَّحمن بن زيد بن أسْلَم : الإسْرَاف ما لم يُقْدَر على رَدِّه إلى الصَّلاحِ . وقال النَّصْر بن شميل : الإسْرَاف : التَّبْذِير والإفرَاط ، والسَّرَف : الغفلة والجَهَلة ، وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِين } [ الأنعام : 141 ] المقصود منه الزَّجْر ؛ لأن كل مَنْ لا يُحِبُّه الله - تعالى - فهو من أهْل النَّار ؛ لقوله - تعالى - { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } [ المائدة : 18 ] حين قالوا { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .