Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 32-32)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله عز وجل : { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ } يجوز أن يكون من المُبَالَغَةِ جَعْلُ الحَيَاةِ نَفْسَ اللَّعِبِ واللَّهوِ كقول [ القائل ] : [ البسيط ] @ 2147 - … فَإنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ @@ وهذا أحسن ، ويجوز أن يكون في الكلام حَذْفٌ ، أي : وما أعمال الحياة . وقال الحسن البصري : " وما أهْلُ الحياة الدنيا إلاَّ أهل لَعِبٍ " فقدَّر شيئين محذوفين . واللَّهْوُ : صَرْفُ النَّفْسِ عن الجِدِّ إلى الهَزَلِ ، ومنه لَهَا يَلْهُو . وأمَّا لَهِيَ عن كذا فمعناه صَرَفَ نَفْسَهُ ، والمَادَّةُ واحدة انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها ، نحو : شَقِيَ ورَضِيَ . وقال المهدوي : " الذي معناه الصَّرْفُ لامُه ياء ، بدليل قولهم : " لَهْيَان " ، ولام الأول واو " . قال أبو حيَّان : " وليس بشيء ؛ لأن " الواو " في التثنية انْقَلَبَتْ ياءً ، فليس أصلها الياء ألا ترى تثنية " شَجِ " : " شجيان " وهو من الشَّجْوِ " انتهى . يعني : أنهم يقولون في اسم فاعله : " لهٍ " كـ " شَجٍ " والتثنيةُ مَبْنيَّةٌ على المفرد ، وقد انقلبت في المُفْرَدِ فلتنقلب في المثنى . قال شهابُ الدين : فلنا فيه بحث حَسَنٌ أوْدَعْنَاهُ " التفسير الكبير " ولله الحمد [ قال : وبهذا ] يظهر فَسَادُ ردِّ المهدوي على الرُّمَّاني ، فإنَّ الرُّمَّاني قال : " اللَّعِبُ عَمَلٌ يُشْغِلُ النفس عما تنتفعُ به ، واللَّهْوُ صَرْفُ النفس من الجدِّ إلى الهَزَل ، يقال : لَهَيْتُ عنه ، أي صَرَفْتُ نفسي عنه " . قال المهدوي - رحمه الله - : " وفيه ضَعْفٌ وبُعْدٌ ، لأنَّ الذي فيه معنى الصَّرْفِ لامه ياء ، بدليل قولهم في التَّثْنية لَهْيَان " انتهى . وقد تقدَّم فَسَادُ هذا الرَّدِّ . وقال الراغب : " اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإنسانَ عما يَعْنيهِ ويَهُمُّهُ ، يقال : لَهَوْتُ بكذا أوْ لَهَيْتُ عن كذا : استغلْتُ عنه بِلَهْوٍ " . وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حمل المهدوي على التَّفْرِقَةِ بين المَادَّتَيْنِ . [ فصل في ذم الحياة الدنيا اعلم أن منكري البعث تعْظُمُ رغبتهم في الدُّنيا ، فَنَبَّه اللَّهُ - تعالى - في هذه الآية الكريمة على خَسَاسَتِهَا . واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها ؛ لأن اكتساب السَّعَادات الأخروية لا تصح إلا فيها ، فلهذا السبب حصل في تفسير الآية قولان : الأول : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد حَيَاةَ أهل الشرك والنفاق ؛ لأن حياة المؤمن يحصل فيها أعْمَالٌ ] صالحة . والثاني : أنه عَامٌ في حياة المؤمن والكافر وإنما سماها باللعب واللَّهْوِ ؛ لأن الإنسان حال اشتغاله باللَّعِبِ واللهو ، فإنه يَلْتَذُّ به ، وعند انْقِضَائِهِ لا يبقى منه إلاَّ النَّدامَةُ , [ فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقضائها إلاَّ النَّدامَةُ ] ، وفي تسمية هذه الحياة باللعب واللَّهْوِ وجوه : أحدها : أن مُدَّة اللَّعِبِ واللَّهْوِ قليلةٌ سريعةُ الانقضاء ، وكذلك هذه الحياة الدنيا . وثانيها : أنَّ اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ عند الاغتِرَارِ بَظَوَاهِرِ الأمور ، وأمَّا عند التَّأمُّلِ التَّامِّ لا يبقى اللعب واللهو أصْلاً ، وكذلك فإن اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ للصِّبْيَان والجُهَّال والمُغَفَّلِينَ . وأمَّا العقلاءُ والحُصفَاء فَقلّما يحصلُ لهم خوضٌ في اللعب واللهو وكذلك الالتذَادُ بطيبات الدنيا لا يحصل إلا للمغفّلين الجُهَّال بحَقَائق الأمور . وأما المحققون فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غُرُورٌ وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرةٌ . قوله : " وللدَّارُ الآخرةُ " قرأ الجمهور بلامين ، الأولى لام الابتداء ، والثانية للتعريف ، وقرأوا " الآخرةُ " رفعاً على أنها صَفَةٌ لـ " الدار " و " خَيْرٌ " خبرها . وقرأ ابن عامر : " ولَدَارُ " بلامٍ واحدة هي لام الابتداء ، و " الآخرةِ " جرُّ بالإضافة ، وفي هذا القراءة تأويلان : أحدهما : قول البصريين ، وهو [ أنه ] من باب حَذْفِ الموصوف ، وإقامة الصفة مُقَامَهُ ، والتقدير : ولَدَارُ السَّاعةِ الآخرة ، أو لَدَارُ الحياة الآخرة ، يِدُلُّ عليه { وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا } ومثله قولهم : حَبَّةُ الحمقاء , ومَسْجِدُ الجامع , وصلاةُ الأولى , ومكان الغربي , [ التقدير : حبَّةُ البَقْلَةِ الحَمْقَاءِ ، ومَسْجِدُ المَكَانِ الجَامِعِ ، وصلاةُ السَّاعَةِ الأولَى ، ومكانُ الجَانِبِ الغَرْبِيّ ] . وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية الكريمة كونُ هذه الصفة جَرَتْ مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيراً ، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّمَ فيه إضَافَةُ الموصوف إلى صفته ، وإنما احتاجوا إلى ذلك [ كثيرا لئلا يلزم ] إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنعٌ ؛ لأن الإضافة إمَّا للتعريف ، أو للتخصيص ، والشيء [ لا يعرّف نفسه ] ولا يُخَصِّصُهَا ، وهذا مَبْنِيُّ على أنَّ الصِّفَةَ نفس الموصوف ، وهو مشكل , لأنه لا يعقل تصور الموصوف مُنْفَكّاً عن الصِّفَةِ , ولو كانت الصفة عين الموصوف لكان [ ذلك ] مُحَالاً . والثاني - وهو قول الكُوفيين - أنه إذا اختلف لَفْظُ الموصوف وصِفَتُهُ جازت إضافته إليها ، وأوردوا ما قدَّمْتُهُ من الأمثلة . قال الفرَّاء : هي إضافة الشيء إلى نفسه ، كقولك : " بَارِحَةُ الأولى " و " يوم الخميس " و " حَقُّ اليقين " ، وإنما يجوز عند اختلاف اللَّفْظَيْنِ وقراءة ابن عامر موافقة لمُصْحَفِهِ ، فإنها رسمت في مصاحف الشَّاميين بلامٍ واحدة . واختارها بعضهم لموافقتها لما أُجْمِعَ عليه في " يوسف " { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } [ يوسف : 109 ] ، وفي مَصَاحِفِ غيرهم بلامين . و " خَيْرٌ " يجوز أن يكون للتفضيل ، وحُذِفَ المُفَضَّلُ عليه لِلْعِلْم به ، أي : خَيْرٌ من الحياة الدنيا ، ويجوز أن يكون لِمُجَرَّدِ الوَصْفِ بالخيرية كقوله تعالى : { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] و " للذين يتَّقون " متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صِفَةٌ لـ " خير " والذي ينبغي - [ أو يتعيَّن ] - أن تكون " اللام " للبيان ، أي : أعني للذين ، وكذا كُلُّ ما جاء من نَحْوهِ ، نحو : { خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] . فصل في معنى الخيرية ذكروا في وَجْهِ هذه الخَيْريَّةِ وجوهاً : أحدها : أنَّ خيرات الدينا [ خسيسة وخيرات الآخرة شريفة وبيان ذلك من وُجُوه : الأوَّل : أن خيرات الدنيا ] ليس إلاَّ قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ ، وهي في نهاية الخَسَاسَةٍ ؛ لأن الحيوانات الخَسِيسَة تشارك الإنسان فيها ، بل ربما [ كان ] أمرُ تلك الحيوانات فيها أكْمَلَ من أمْرِ الإنسان ، فالجَمَلُ أكثر أكْلاً ، والدِّيكُ والعصفور أكثر وقاعاً ، والذَّئْبُ أقوى على الفَسَادِ والتَّمْزِيقِ ، والعَقْرَبُ أقوى على الإيذَاءِ ، ومما يَدُلُّ على خَسَاسَتِهَا أنها لو كانت شَرِيفةً لكان الإكثار منها يوجبُ زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان الذي أذهب عمره في الوِقَاعِ والأكْلِ أشْرَفَ الناس وأعْلاهُمْ دَرَجَةً ، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمْرُ كذلك ، بل مثلُ هذا الإنسان يكون [ ممقوتاً ] مُسْتَحْقَراً ، يوصفُ بأنه بَهِيمَةٌ أو كَلْبٌ ، أو أخَسُّ ، وذلك لأن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال ، بل يُخْفُونَهَا ، ولذلك عادة العُقَلاءِ عند الاشتغال بالوقَاعِ يختفون عن النَّاسِ ، وأيضاً فإن الناس إذا شَتَمَ بعضهم بعضاً لا يذكرون فيه إلاَّ الألفَاظ الدَّالة على الوقَاعِ ، وأيضاً فإن هذه [ اللَّذات ] سَرِيعَةُ الانْقِضَاءِ والاسْتِحَالَةِ ، فثبت بهذه الوجود خَسَاسَةُ هذه المَلَذَّاتِ . وأما السَّعادات الرُّوحانية ، فإنها سعادات عالية شريفةٌ ، باقيةٌ مُقَدَّسَةٌ ، ولذلك فإن جميع الخَلْقِ إذا تَخَيَّلُوا في إنسان كثرة العِلْمِ والدِّين وشدِّة الانقباض عن اللِّذاتِ الجسمانية ، فإنهم بالطَّبْعِ يجيبونه ويخدمونه ، ويعدونه [ أنفسهم ] عَبِيداً لذلك الإنسان ، وأشقياء بالنسبة إليه ، وذلك يَدُلُّ عليه خَسَاسَةِ اللَّذاتِ الجسمانية ، وكمال مرتبة اللذات الروحانية . الأمر الثاني : في [ بيان ] أنَّ خَيْرَاتِ الآخرة أفْضَلُ من خيرات الدُّنْيَا ، وهو أن يقال : هَبْ أنَّ هذين النوعين تَشَارَكَا في الفَضْلِ إلاَّ أن الوُصُولَ إلى الخيرات الموعودة في [ غد القيامة معلوم قطعاً ، وأمَّا الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد ] الدنيا فغيرُ مَعْلوم ، بل ولا مظنونٍ ، فكم من سُلْطَانِ قاهر في بُكْرَةِ اليوم صار تحت التُّرَابِ في آخر ذلك [ اليوم ] . الأمر الثالث : هَبْ أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا إلاَّ أنه لا يَدْرِي هل يمكنه الانْتِفَاعُ بما جمعه من الأموال والطيبات واللَّذاتِ أم لا ؟ . أمَّا كل ما جمعه من السَّعادات ، فإنه يعلم قَطْعاً أنه ينتفعُ به في الآخرة . الأمر الرابع : هَبْ أنه ينتفع بها إلا أن انْتِفَاعَهُ بخيرات الدنيا لا يَخْلُو عن شَوَائِبِ المكروهات [ والانتفاع بخيرات ] الآخرة خالٍ [ عن ] شوائب المكروهات . الأمر الخامس : هَبْ أنه ينتفع بتلك الأمْوَالِ والطيبات من غير شائبه إلا أن ذلك الانتفاع [ مُنْقَرِضٌ ] ذاهبٌ والمنافِعُ المُنَقَرِضَةُ تحزن الإنسان لمفارقتها ، وكلما كانت تلك المَنَافِعُ أكمل وألَذّ ، كانت [ تلك ] الأحزانُ الحاصلة عن انقراضها وانقطاعها أقْوَى وأكمل . فصل في المراد بقوله : " وللآخرة خير " قال ابن عباس : المراد بالآخرة الجنَّة ، وأنها خير لمن اتَّقَى الكُفْرَ والمعاصي . وقال الحَسَنُ : المراد نفس دار الآخرة خَيْرٌ . وقال الأصم : التمسُّكُ بِعَمَلِ الآخرة خير . وقال آخرون : نعيم الآخرة خيْرٌ من نعيم الدنيا للذين يتَّقُون المعاصي والكبائر ، فأمَّا الكَافِرُ والفَاسِق فلا [ ؛ لأن الدنيا ] بالنسبة إليه خير من الآخرة لقوله عليه السلام : " الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ " . قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُون } قد تقدَّم الكلامُ في مِثْلِ هذه الهمزة الداخلة على " الفاء " وأختها " الواو " و " ثم " . وقرأ ابن عامر - رضي الله عنه - ونافع وحفص عن عاصم : " تَعْقِلُون " خطاباً لمن كان بحضرته - عليه السَّلام - وفي زمانه . والباقون بياء الغَيْبَةِ ردَّاً على ما تقدَّمَ من الأسماء الغائبة ، وحُذِفَ مفعول " تعقلون " لِلْعِلمِ به ، أي : فلا تعقلون أنَّ الأمر كما ذكر فَتَزْهَدُوا في الدنيا ، أو أنها خَيْرٌ من الدنيا .