Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 33-33)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ } " قد " هنا حرف تَحْقِيقٍ . وقال الزمخشري والتبريزي : " قد نعلم " بمعنى رُبَّمَا التي تجيء لزيادة الفِعْلِ وكثرته ، نحو قوله : [ الطويل ] @ 2148 - … [ وَلَكِنَّهُ ] قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ @@ قال أبو حيَّان : وهذا القول غَيْرُ مَشْهورٍ للنحاة ، وإن قال به بعضهم مُسْتَدِلاً بقول [ القائل ] : [ البسيط ] @ 2149 - قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ كَأنَّ أثْوَابَهُ مُجَّتُ بِفِرْصَادِ @@ وقال الآخر في ذلك : [ الطويل ] @ 2150 - أخِي ثِقَةٍ لا تُتْلِفُ الخَمْرُ مَالَهُ ولَكنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ @@ والذي يظهر أن التكثير لا يفهم من " قد " ، وإنما فهم من سياق الكلام ؛ إذ التمدُّح بقتل قرن واحد غيرُ طائل ، وعلى تقدير ذلك فو متعذّر في الآية ؛ لآن علمه - تبارك وتعالى - لا يَقْبَلُ التكثير . قال شهابُ الدين : قَدْ يُجَابُ عنه بأن التكثير في متعلِّقات العِلْمِ لا في العِلْمِ ، [ ثم قال ] : وقوله بمعنى " رُبَّمَا " التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهور أنَّ " رُبَّ " للتقليل لا للتَّكْثير ، وزيادةُ " ما " عليها لا يخرجها عن ذلك بل هي مُهيِّئَةٌ لدخولها على الفعِل ، و " ما " المهيِّئةُ لا تزيل الكَلِمَة عن معناها الأصلي ، كما لا تزيل " لَعَلَّ " ، عن الترجي ، ولا " كأنَّ " عن التشبيه ، ولا " ليت " عن التمني . وقال ابن مالك : " قد " كـ " رُبَّمَا " في التقليل والصَّرْفِ إلى معنى المضيّ ، وتكون في حينئذٍ للتَّحقيق والتوكيد ، نحو { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } [ الأنعام : 33 ] { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ } [ الصف : 5 ] . وقوله : [ الطويل ] @ 2151 - وَقَدْ تُدْرِكُ الإنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الأرْضِ سَبْعِينَ وَادِيَا @@ وقد تخلو من التَّقلِيل ، وهي صَارِفَةٌ لمعنى المُضِيَّ ، نحو قوله : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } [ البقرة : 144 ] . وقال مكي : و " قد " هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء ، وإيجابه ، وتصديقه ، و " نَعْلَمُ " بمعنى عَلِمْنَا . وقد تقدم الكلام في هذه الحروف وأنها مُتَردِّدَةٌ بين الحَرْفيَّةِ والاسميَّةِ . وقال أبو حيَّان : هُنَا " قَدْ " حرف تَوَقُّع إذا دخلت على مُسْتَقْبَلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلّم ؛ كقولك : قد ينزل المَطَرُ شَهْر كذا ، وإذا كان مَاضِياً أو فِعْلَ حَالٍ بِمَعْنَى المضيّ كان التوقع عند السَّامِعِ . وأمَّا المتكلِّم فهو مُوجب ما أخبر به ، وعبَّر هنا بالمُضَارع إذ المُرَادُ الاتِّصَافُ بالعِلْمِ واسْتِمْرَارُهُ ، ولم يُلْحَظْ فيه الزمانُ كقولهم : " هو يُعْطِي ويَمْنَعُ " . " ليحزنك " سَادٌّ مَسَدّ المفعولين ، فإنها معلِّقَةٌ عن العمَلِ ، وكُسِرَتْ لدخول " اللام " في حَيِّزِهَا ، وتقدَّمَ الكلامُ في " ليحزنك " ، وأنه قُرِئَ بفتح الياءِ وضَمِّهَا من " حَزَنَهُ " و " أحْزَنَهُ " في آل عمران . و " الَّذي يَقُولُون " فاعِلٌ ، وعائدُهُ محذوفٌ ، أي : الذي يَقُولونَهُ من نِسْبَتِهِمْ له إلى ما لا يَلِيقُ به ، والضَّميرُ في " إنه " ضمير الشَّأن والحديث والجُمْلَةُ بعدهُ خَبَرُهُ مُفَسِّرةٌ له ، ولا يجوزُ في هذا المُضَارع أن يقدر باسمِ فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّر في قولك : " إن زيداً يقوم أبوه " لئلاَّ يلزمُ تفسيرُ ضمير الشأن بمفردٍ . وقد تقدَّمَ أنه مَمْنوعٌ عند البصرييّنَ . فصل في سبب نزول الآية قال السُّدِّيِّ : التقى الأخْنَسُ بن شريق ، وأبو جَهَل بن هشامٍ ، فسأله الأخنس أبَا جَهْلِ فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن مُحَمَّدٍ أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس ها هنا أحَدٌ يسمعُ كلامك غيري ؟ . فقال أبو جَهْلٍ : والله إن محمَّداً لَصَادِقٌ ، وما كذَب قَطّ ، ولكن إذا ذَهَبَتْ بَنُو قُصَيِّ باللّوَاء والسِّقاية والحِجَابَةِ والندْوةِ ، والنُّبُوَّة ، فماذا يكون لِسَائِرِ قريشٍ ، فأنزل اللَّهُ هذه الآية . وقال ناجيةُ بن كَعْبَ : قال أبو جَهْلِ للنبي صلى الله عليه وسلم : ما نَتَّهِمُكَ ولا نُكذِّبُكَ ، ولكنَّا نُكَذِّبُ الذي جئت به ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . وقيل : إنَّ الحارث بن عامر من قريشٍ قال : يا مُحَمَّدُ ، والله إن اتَّبَعْنَاكَ نُتَخَطَّفُ من أرْضِنَا ، فنحنُ لا نُؤمِنُ بك لهذا السَّببِ . واعلم أن فِرَقِ الكفار كانوا كثيرين ، فمنهم من ينكر نُبُوَّتَهُ ؛ لأنه ينكر أن يكون الرسولُ من البَشَرِ ، وقد تقدَّمَ شُبْهَتُهُمْ ، وأجابَ اللَّهُ عنها . ومنهم من ينكر البَعْثَ ، ويقول : إن محمَّداً يخبر بالحَشْرِ والنَّشْرِ بعد الموت ، وذلك مُحَالٌ ، فيطعن في رسالة محمَّدٍ من هذا الوَجْهِ ، وقد ذكر الله شبههُمْ في هذه السُّورَةِ ، وأجاب عَنْهَا . ومنهم من كان يُشَافِهُهُ بالسَّفَاهَةِ وهُوَ المذكورُ في هذه الآية . واختلفوا في ذلك المُحْزِنِ . فقيل : كانوا يَقُولوُنَ : ساحرٌ ، وشاعرٌ ، وكاهن ، ومجنون وهو قول الحسن . وقيل : كانوا يُصَرِّحُونَ بأنهم لا يؤمنون به . وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذبِ . قوله : " فإنهم لا يكذبُونَكَ " . قرأ نافع ، والكسائي " لا يكذبونك " مُخَفَّفاً من " أكْذَب " . والباقون مثقَّلاً من " كذَّبَ " وهي قراءة عَلِيٍّ ، وابن عبَّاسٍ . واختلف الناسُ في ذلك ، فقيل : هُمَا بمعنًى واحدٍ ، مثل : أكثر وكَثَّرَ وأنْزَلَ ونزَّلَ ، وقيل : بينهما فَرْقٌ . قال الكسائي : العَرَبُ تقول : كَذّبت الرجل بالتَّشْديد إذا نُسِبَ الكذب إليه ، وأكذبته إذا نَسَبْتَ الكذب إلى ما جَاءَ بِهِ دُونَ أن تَنْسِبَهُ إليه ، ويقولون أيضاً : أكذبت الرَّجُلَ إذا وجدته كَاذِباً ، كـ " أحْمَدْتُهُ " إذا وجدته محمُوداً ، فَمَعْنَى لا يُكذبونك مُخَفَّفاً : لا يَنْسِبُون الكَذِبَ إلَيْكَ ولا يجدونك كاذباً وهو واضحٌ . وأمَّا التَّشديد فيكون خبراً مَحْضاً عن عدم تكذيبهم إيَّاه . فإن قيل : هذا مُحالٌ ؛ لأن بَعْضَهُم قد وُجِدَ من تكذيب ضَرْورَةً . فالجوابُ من وُجُوه : الأول : أنَّ وإن كان مَنْسُوباً إلى جميعهم أعْنِي عدم التكذيب ، فهو إنما يُرَادُ بعضهم مجازاً ، كقولك : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 160 ] وإن كان فيهم من لم يكذبه ، فهو عامٌّ يرادُ به الخَاصُّ . والثاني : أنه نفي للتكذيب لانْتِفَاءِ ما يَتَرَتَّبُ عليه من المَضَارِّ ، فكأنه قيل : فإنهم لا يكذبونك تكذيباً يُبَالَى به ويضرك ؛ لأنك لَسْتَ بكاذبٍ ، فتكذيبُهُمْ كلا تَكْذِيبٍ ، فهو من نَفْيِ السَّبَبِ لانتفاء مسببه . وقال الزمخشري : والمعنى أن تكذيبك أمْرٌ راجع إلى اللَّه تعالى ؛ لأنك رسُولُهُ المصدَّق ، فهم لا يكذبونك في الحقيقةِ ، إنَّما يكذِّبون اللَّهَ بجحود آياته ، فانْتَهِ عن حُزْنِكَ ، كقول السَّيِّدِ لغُلامِهِ وقد أهَانَهُ بعض الناسِ لم يُهينوك وإنما أهَانُونِي ، فهو نظير قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] . الثالث : أن القوم ما كانوا يُكذِّبُون به في السِّرِّ كما تقدَّمَ في سبب النزول ، فيكون تقدير الآية : فإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بقلوبهم ، بل بظاهر قولهم . ونظيره : قوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] في قصة موسى عليه الصلاة والسلام . الرابع : أنهم لا يقولون : أنْتَ كَذَّابٌ ؛ لأنهم جَرَّبُوكَ الدَّهْرَ الطويل وما وَجدُوا منك كذباً ألْبَتَّهَ ، وسَمَّوْك بالأمين ، وإنما جَحَدُوا صِحِّةَ نُبُوَّتك ؛ لأنهم اعْتَقَدُوا أنَّ محمَّداً عرض له نوع خَبَلٍ ونُقْصَانٍ ، فلأجله تَخَيَّلَ في نفسه كونه رَسُولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذبِ ، بل هو أمينٌ في كُلِّ الأمورِ إلاَّ في هذا الوجهِ الواحد . الخامس : قال ابن الخطيب : المرادُ أنَّهُمْ لا يخصُّونك بالتكذيب ، بل ينكرُون دلالةَ المعجزة الظَّاهرة على الصدق مطلقاً لقوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } . والمُرَادُ أنهم يقولون في كُلِّ معجزةٍ : إنها سِحْرٌ ، فالتقدير : أنهم لا يكذِّبونك على التِّعيين ، بل القَوْمُ يُكذِّبون جَمِيعَ الأنبياء والرُّسُلِ . قوله : " بآيات اللَّهِ " يجوز في هذا الجَارِّ وجهان : أحدهما : أنه مُتَعَلِّقٌ بـ " يجحدونَ " وهو الظَّاهر ، وجوَّز أبُو البقاء أن يتعلق بـ " الظَّالمين " قال : كقوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإسراء : 59 ] وهذا الذي قال لي بجيِّدٍ لأن " الباء " هناك سَبَبِيَّةٌ ، أي : ظلموا بسببها ، و " الباء " هنا معناها التعدية ، وهنا شيء يتعلَّق به تعلُّقاً واضحاً ، فلا ضَرُورَةَ تَدْعُوا إلى الخروج عَنْهُ ، وفي هذه الآية إقامةُ الظاهر مُقَامَ المضمر ، إذا الأصل : " ولكنهم يَجْحَدُونَ بآياتِ الله " ، ولكنَّهُ نَبَّهَ على أن الظلم هو الحامل لهم على الجُحُودِ . والجحود والجَحْدُ نفي ما في القَلْبِ ثَبَاتُهُ ، وأو إثْبَاتُ ما في القلبِ نَفْيُهُ . وقيل : الجَحْدُ إنْكَارُ المعرفةِ ، فليس مُرَادفاً للنفي من كُلِّ وجهٍ .