Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 39-39)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } مبتدأ ، وما بعده الخبر . ويجوز أن يكون " صمُّ " خبر مبتدأ محذوف ، والجملة خَبَرُ الأوَّل ، والتقدير : والذين كذَّبوا بعضهم صُمٌّ ، وبعضهم بُكْمٌ . وقال أبو البقاء : " صُمٌّ وبُكْمٌ " الخبر مثل : " حُلْوٌ حَامِضٌ " ، والواو لا تمنع من ذلك " . وهذا الذي قاله لا يجوز من وجهين : أحدهما : أن ذلك إنما يكون إذا كان الخبرانِ في معنى خبر واحد ، لأنهما في معنى : " مُزّ " ، وهو " أعْسَرُ يَسَرٌ " بمعنى " أضْبَط " ، وأمَّا هذان الخبرانِ فكل منهما مستقلٌّ بالفائدة . والثاني : أن " الواو " لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي عَلِيَّ الفارسي وهو وجه ضعيف . والمراد بالآيات ، قيل : جميع الدَّلائل والحججِ . وقيل : القرآن ومحمد عليه السلام . قوله : " في الظلمات " فيه أوجه : أحدها : أن يكون خبراً ثانياً لقوله : " والذين كَذَّبُوا " ويكون ذلك عبارة عن العَمَى ويصير نظير الآية الأخرى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] فَعَبَّر عن العَمَى بلازمه ، والمراد بذلك عَمَى البَصِيَرَةِ . الثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في الخبر ، تقديره : ضالون حَالَ كونهم مُسْتقرِّين في الظلمات . الثالث : أنه صَفَةٌ لـ " بكم " ، فيتعلَّق أيضاً بمحذوف ، أي : بكم كائنون في الظلمات . الرابع : أن يكون ظَرْفاً على حقيقته ، وهو ظَرْفٌ لـ " صم " ، أو لـ " بكم " . قال أبو البقاء : أو لما ينوب عنهما من الفِعْلِ ، أي : لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل . فصل في بيان نظم الآية في وجه النَّظْم قولان : الأول : أنه - تعالى - لما بيَّن من حال الكُفَّار أنهم بلغوا في الكُفْرِ إلى حيث كانت قلوبهم قد صارت مَيِّتَةً عن قَبُولِ الإيمان بقوله : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 36 ] فذكر هذه الآية تقريراً ذلك المعنى . الثاني : أنه - تعالى - لمَّا ذكر في قوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] في كونها دالَّة على كونها تحت تدبير مُدَبِّرٍ قديمٍ , وتحت تقدير مٌقدِّرٍ حكيم ، وفي أنّ عناية الله مُحيطة بهم , ورحمته واصِلَةٌ إليهم - قال بعده : والمُكَذِّبُونَ بهذه الدَّلائل والمنكرون لهذه العجائبِ صُمُّ لا يسمعون كلاماً ، بُكْمٌ لا ينطقون بالحق ، خَائِضونَ في ظلمات الكُفْرِ ، غافلون عن تَأمُّلِ هذه الدلائل . قوله : { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ } في " مَنْ " وجهان : أحدهما : أنها مبتدأ ، وخبرها ما بعدها ، وقد عُرِفَ غير مَرَّةٍ . ومفعول " يشأ " محذوف ، أي : من يشأ الله إضلاله . والثاني : أنه مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ يفسِّرُهُ ما بعده من حيث المعنى ، ويقدِّر ذلك الفعل متأخّراً عن اسم الشَّرْطِ لئلا يلزم خروجه عن الصَّدرِ . وقد تقدَّمَ التَّنْبِيهُ على ذلك ، وأن فيه خلافاً ، والتقدير : من يُشْقِ اللَّهُ يَشَأ إضلاله ، ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايتَهُ . فإن قيل : هل يجوز أن تكون " من " مفعولاً مُقدِّماً لـ " يشاء " ؟ فالجواب : أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى . فإن قيل : أقدّر مضافاً هو المفعول حُذف وأقيمت " من " مقامه , تقديره : إضلال من يشاء , وهداية من يشاء , ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط . فالجواب أن الأخْفَشَ حكى عن العربِ أنَّ اسم الشَّرْطِ غير الظرف ، والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجَزَاءِ ضَمِيرٌ يعود عليه ، أو على أضيف إليهن فالضَّمير في " يضلله " و " يجعله " : إمّا أن يعود على المُضافِ المحذوف ، ويكون كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] . فالهاء في " يغشاه " تعود على المُضاف ، أي : كَذي ظلمات يَغْشَاهُ . وإمَّا أن يعود على اسم الشرط [ والأول ممتنع ؛ إذ يصير التقدير : إضلالُ من يشأ الله يضلله ، أي : يضلّ الإضلال ، وهو فاسد . والثاني أيضاً مُمْتَنِعٌ لخلو الجواب من ضَمِيرٍ يعود على المضاف إلى اسم الشرط ] . فإن قيل : يجوز أن يكون المعنى : من يشأ الله بالإضلالِ ، وتكون " من " مفعولاً مقدّماً ؛ لأن " شاء " بمعنى " أراد " ، و " أراد " يتعدَّى بالباء . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 2157 - أرَادَتْ عَرَارًا بالهَوَانِ ومَنْ يُرِدْ عَرَاراً لَعَمْرِي بالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ @@ قيل : لا يلزم من كَوْنِ " شاء " بمعنى " أراد " أن يتعدَّى تعديته ، ولذلك نَجِدُ اللفظ الواحدَ تختلف تعديتُهُ باختلاف متعلّقة ، تقول : دخلت الدَّارَ ، ودخلت في الأمْرِ ، ولا تقول : دخلت الأمر ، فإذا كان في اللَّفظِ الواحد فَمَا بَالُكَ بلفظين ؟ ولم يُحْفَظْ عن العَربِ تعديَةُ " شاء " بالباء ، وإن كانت في معنى أراد . فصل في أنّ الهداية والضلال من الله تعالى احتج أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أن الهُدَى والضلال ليسا إلاَّ من الله - تعالى - لتصريح الآية بذلك . وأجاب المعتزلة عن ذلك بوجوه : الأول : قال الجُبَّائي : معناه أنّه - تعالى - يجعلهم صُمَّاً وبُكماً وعُمْياً يوم القيامة عند الحَشْرِ ، ويكنون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صُمَّا وبُكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجَنَّةِ ، وعن طريقها ، ويصيرهم إلى النار ، وأكَّد القاضي هذا بأنه - تعالى - بيَّن في باقي الآيات أنه يحشرهم على وجوهم عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ . الثاني : قال الجُبائي أيضاً : ويحتمل أنهم يكونون كذلك في الدنيا ، فيكون توسّعاً من حيث أنهم جعلوا بتكذيبهم بآيات الله في الظلمات لا يهتدون إلى منافعِ الدنيا فَشَبَّهَهُمْ من هذا الوجه بهم وأجرى بهم وأجرى عليهم مثل صِفَاتِهِمْ على سبيل التَّشْبِيهِ . الثالث : قال الكَعْبِيُّ : قوله " صُمُّ وبُكْمٌ " قائم على الشَّتْمِ والإهانة ، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة . أمَّا قوله : { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ } فقال الكعبي : ليس هذا على سبيل المجاز لأنه - تعالى - وإن أجْمَلَ القول فيه هَا هُنَا فَقَدْ فَسَّرَهُ في سائر الآيات ، وهو قوله : { وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ } [ إبراهيم : 27 ] وقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] . وقوله : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] ، وقوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [ المائدة : 16 ] . وقوله : { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ } [ إبراهيم : 27 ] وقوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال ، وإن كانت مُجْمَلَةً في هذه الآية ، إلاَّ أنها [ مخصصة ] مفصلة في سائر الآيات ، فيحمل هذا المُجْمَلُ على تلك المُفصَّلاتِ . ثم إن المعتزلة ذكروا في تأويل هذه الآية وُجُوهاً : أحدهما : قوله : { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ } [ الآية : 39 ] مَحْمَوُلٌ على مَنْعِ الألْطَافِ ، فصاروا عندها كالصُّمِّ والبُكم . وثانيها : يضلله يوم القيامة عن طريق الجنة ، وعن وجدانِ الثوابِ ؛ لأنه ثبت بالدليل أنه - تعالى - لا يشاء هذا الإضلال إلاَّ لمن يستحقه عقوبة ، كما لم يشأ الهُدَى إلاَّ للمؤمنين . واعلم أن هذه الوجوه التي تكَلَّفَهَا المعتزلة إنما تَحْسُنُ لَوْ ثَبَتَ في العقل أنه لا يمكن إجْرَاءُ هذا الكلام على ظاهرة ، وقد دللنا على أنَّ هذا الفعل لا يحصل إلاَّ عند حُصُول الداعي ، وبيَّنَّا أنِّ خالق ذلك الداعي هو الله تعالى ، وبيَّنَّا أن عند حصوله يجبُ الفعلُ في هذه المقدِّمَاتِ الثلاث ، فوجب القَطْعُ بأن الكفر والإيمان من الله تعالى ، وبتخليقه وتقديره وتكوينه ، وقد تقدَّم إبطالُ هذه الوجوه عند قوله : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] وغيرها من الآيات ، فلا حاجةَ إلى الإعادةِ .