Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 40-41)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يجوز نقل همزة حركة الاستفهام إلى لام " قُلْ " ، وتُحْذَفُ الهمزةُ تخفيفاً وهي قراءة وَرْشٍ ، وهو تسهيل مُطَّرِدٌ ، و " أرأيتكم " هذه بمعنى " أخبرني " ، ولها أحكامٌ تَخْتَصُّ بها ، اضْطَرَبَتْ أقوال الناس فيها ، وانتشر خلافُهُمْ ، ولا بُدَّ من التَّعَرُّضِ لذلك ، فنقول : أرأيت إن كان البصرية ، أو العلمية الباقية على معناها ، أو التي لإصابة الرئة كقولهم : " رأيْتُ الطَّائِرَ " ، أي : أصَبْتُ رئَتَهُ لم يَجُزْ فيها تخفيف الهمزة التي هي عَيْنُهَا ، بل تُحَقَّقُ ليس إلاَّ ، أو تُسَهَّلُ بَيْنَ بَيْنَ من غير إبدالٍ ولا حذفٍ ، ولا يجوز أن تلحقها كافٌ على أنها حرف خطاب ، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أوَّل ، ويكون مُطَابقاً لما يُرَادُ به من تَذْكِيرٍ وتأنيثٍ ، وإفراد وتثنية وجمعٍ ، وإذا اتَّصَلَتْ بها تاء الخطاب لزِمَ مُطَابَقتُهَا لما يُرَادُ بها مِمَّا ذُكِرَ ، ويكون ضميراً فاعلاً ، نحو : أرأيتم ، أرأيتما ، أرأيتُنَّ ، ويدخلها التَّعْلِيقُ والإلْغَاءُ ، وإن كانت العِلميَّة التي ضُمِّنَتْ معنى " أخبرني " أختصَّتْ بأحكامٍ أخَرَ . منها : أنه يجوز تَسْهِيلُ همزتها بإبدالها ألفاً ، وهي مَرْويَّةٌ عن نافع من طريق ورشٍ ، والنُّحاة يَسْتَضْعِفْون إبدال هذه الهمزةِ ألفاً ، بل المشهور عندهم تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ ، وهي الرواية المشهورة عن نافع ، لكنَّهُ قد نَقَلَ الإبدال المَحْض قُطْربٌ وغيرهُ من الللغويين قال بعضهم " هذا غَلَطٌ غُلِّط عليه " ، أي : على نافعٍ ، وسبب ذلك أنه يُؤدِّي إلى الجَمْعِ بين ساكنين ، فإن " الياء " بعدها ساكنة . ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافعٍ ، وغيرهما من أهل " المدينة " أنهم يُسْقِطُونَ الهمزة ، ويَدَّعُونَ أن الألف خلفٌ منها . قال شهابُ الدين : وهذه العبارةُ تُشْعِرُ بأنَّ هذه الألف ليست بدلاً من الهمزة ، بل جيءَ بها عِوَضاً عن الهمزة السَّاقِطَةِ . وقال مَكِّيُّ بْنُ أبي طالب : " وقد روي عن وَرْشٍ إبدالُ الهَمْزَةِ ألفاً ؛ لأن الرِّواية عنه أنه يَمُدَّ الثانية ، والمَدُّ لا يتمكن إلاَّ مع البدلِ ، وحسَّنَ جوازَ البدلِ في الهمزة وبعدها سَاكِنٌ أنَّ الأوِّل حَرْفُ مدِّ ولينٍ ، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقوم مقامَ حركةٍ يُتَوصَّلُ بها إلى النُّطْقِ بالساكن " . وقد تقدَّم شَيءٌ من هذا عند قوله : { ءَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] . ومنها : أن تُحْذَفَ الهمزة التي هي عَيْنُ الكلمة ، وبها قرأ الكسائي ، وهي فاشية نَظْماً ونَثْراً فمن النظم قوله : [ الرجز ] @ 2158 - أرَيْتَ مَا جَاءَتْ بِهِ أمْلُودا مُرَجَّلاً وَيَلبسُ البُرُودَا أقَائِلُنَّ أحْضِرُوا الشُّهُودَا @@ وقال الآخر : [ الطويل ] @ 2159 - أرَيْتَكَ إذْ هُنَّا عَلَيْكَ ألَمْ تَخَفْ رَقِيباً وَحَوْلِي مِنْ عَدُوِّكَ حُضَّرُ @@ وأنشد الكسائي لأبي الأسود : [ المتقارب ] @ 2160 - أرَيْتَ امْرَأ كُنْتُ لَمْ أبْلُهُ أتَانِي فَقَالَ : اتَّخذنِي خَلِيلاً @@ وزعم الفرَّاءُ أن هذه اللُّغَةَ لُغَةُ أكثر العربِ . قال : " في أرَأيْتَ لغتان ومعنيان : أحدهما : أن يسأل الرجل : أرأيت زَيْداً ، أي : أعَلِمْتَ ، فهذه مهموزة . وثانيهما : أن تقول : أرأيت بمعنى " أخْبِرْني " ، فهاهنا تترك الهمزة إن شِئْتَ ، وهو أكثر كلام العرب تُؤمئ إلى تَرْكِ الهَمْزَةِ للفرق بين المَعْنَيَين " . انتهى . وفي كيفية حذف هذه الهمزة ثلاثة أوجه : أحدها : - وهو الظَّاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجَمَعُ بين همزتين في فعلٍ اتَّصَلَ به ضَمِيرٌ ، فَخَفَّفَهُ بإسقاط إحدى الهمزتَيْنِ ، وكانت الثانية أولى ، لأنها حصل بها الثِّقَلُ ؛ ولأنَّ حذفها ثابِتٌ في مضارع هذا الفعل ، نحو : أرى ، ويرى ، ونرى ، وترى ، ولأنَّ حذف الأولى يُخِلُّ بالتَّفَاهُمِ ، إذ هي للاستفهام . والثاني : أنه أبْدَلَ الهمزة ألِفاً ، كما فعل نَافِعٌ في رواية ورش ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وهو الألف . والثالث : أنه أبْدَلَها ياءً ، ثم سَكَّنَهَا ، ثم حذفها لالتقاء الساكنين ، قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ ، ثم قال : " وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مُسْتَقْبَلِ هذا الفعل " يعني في يرى وبابه ، ورجَّحَ بعضهم مذهبَ الكسائي بأن الهَمْزَةَ قد اجترِىءَ عليها بالحذف ، وأنشد : [ الرجز ] @ 2161 - إنْ لَمْ أقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعَا @@ وأنشد لأبي الأسود : [ الكامل ] @ 2162 - يَا بَا المُغيرةِ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ فَرَّجْتُهُ بِالمَكْرِ مِنَّي وَالدَّهَا @@ [ وقولهم : " وَيْلُمِّهِ " ] . وقوله : [ البسيط ] @ 2163 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا فَجْعٌ وَوَلْعٌ وإخلافٌ وتَبْدِيلُ @@ وأنشد أيضاً : [ الوافر ] @ 2164 - وَمَنْ رَا مِثْلَ مَعْدَانَ بْنِ سَعْدٍ إذَا مَا النِّسْعُ طَالَ عَلَى المَطِيِّه @@ أي : ومَنْ رأى . ومنها : أنه لا يَدْخُلُهَا تَعْلِيقٌ ، ولا إلغَاءٌ ؛ لأنها [ بمعنى ] " أخبرني " و " أخبرني " لا يُعَلَّقُ عند الجمهور . قال سيبويه : " وتقولُ : أرأيتك زَيْداً أبو مَنْ هو ؟ لا يَحْسُنُ فيه إلاَّ النَّصْبُ في " زيد " ، ألا ترى أنَّك لو قلت : " أرأيت أبو مَنْ أنت ؟ " لم يَحْسُنْ ؛ لأن فيه معنى أخبرني عن زيد ، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني " وقد خالف سيبويه غَيْرُهُ من النحويين ، وقالوا : كثيراً ما تُعَلَّق " أرأيت " وفي القرآن من ذلك كثيرٌ ، واسْتَدَلُّوا بهذه الآية التي نَحْنُ فيها ، وبقوله : { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ } [ العلق : 13 ، 14 ] ، وبقوله : @ 2165 - أرَيْتَ مَا جَاءْتُ بِهِ أمْلُودَا @@ وهذا لا يرد على سيبويه ، وسيأتي تأويل ذلك قريباً . ومنها : أنها تَلْحَقُهَا " التاء " فَيُلْتَزَمُ إفْرَادُهَا وتذكيرها ، ويُسْتَغْنَى عن لحاقِ علامة الفُرُوعٍ بها بِلحاقِهَا بالكافِ ، بخلاف التي لم تُضَمَّنْ معنى " أخبرني " فإنها تُطَابِقُ فيها ، كما تقدَّم ما يُرادُ بها . ومنها : أنه يلحقها " كاف " هي حرف خطابٍ تُطابقُ ما يُرَادُ بها من إفرادٍ وتذكير وضِدَّيهما ، وهل هذه " التَّاء " فاعل ، و " الكاف " حرف خطاب [ تبيَّن أحوال التاء ، كما تبينه إذا كانت ضميراً ، أو التاء حرف خطاب ] و " الكاف " هي الفاعل , واسْتُعِيرَ ضَمِيرُ النَّصْبِ في مكان ضمير الرفع , أو " التاء " فاعلٌ أيضاً , و " الكاف " ضمير في موضع المفعول الأول ؟ ثلاثةُ مذاهب مشهورة ، الأوَّل : قول البصريين ، والثاني : قول الفراء ، والثالث : قول الكسائي ، ولنَقْتَصِرْ على بعض أدلَّةِ كُلِّ فريق . قال أبو علي : " قولهم : " أرَأيْتَكَ زَيْداً ما فعل " بفتح " التاء " في جميع الأحوال ، فالكافُ لا يخلو أن يكون للخطاب مُجَرَّداً ، ومعنى الاسمية مَخْلُوعٌ منه ، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالتهِ على الخطابِ ، ولو كان اسْماً لوجب أن يكُون الاسْمُ الذي بعده هو هو ؛ لأن هذه الأفعال مفعولها الثَّاني هو الأوَّل في المعنى ، لكنه ليس به ، فتعيَّن أن يكون مَخْلُوعاً منه الاسميَّةُ ، وإذا ثبت أنه للخطَابِ مُعَرى من الاسمية ثَبَت أن " التاء " لا تكون لِمُجرَّدِ الخطابِ ، ألا ترى أنه لا ينبغي أن يَلْحَقَ الكَلِمَةُ علامتَا خطاب ، كما لا يحلقها علامتا تأنيث ولا علامتَا استفهامٍ ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك أفرِدَت " التاءُ " في جميع الأحْوَالِ لمَّا كان الفِعْلُ لا بُدَّ من فاعلٍ ، وجُعِلَ في جميع الأحْوَالِ على لَفْظٍ واحد اسْتِغْنَاءً بما يَلْحَقُ " الكاف " ، ولو لحق " التاء " علامةُ الفروع علامتَانِ للخطاب مما كان يَلْحَقُ " التاء " ، وممَّا كان يلحق " الكاف " ، فلما كان ذلك يُؤدِّي إلى ما لا نَظِيرَ له رُفِضَ ، وأجْرِي على ما عليه سِائِرُ كلامهم " . وقال الزَّجَّاج بعد حكايته مَذْهَبَ الفراء : " وهذا القَوْلُ لم يَقْبَلُهُ النحويون القُدَمَاءُ وهو خَطَأٌ ؛ لأنَّ قولك : " أرأيت زَيْداً ما شأنه " لو تعدَّتِ الرؤية إلى " الكاف " وإلى زيد لصار المعنى : أرَأتْ نَفْسُكَ زيداً ما شأنُهُ وهذا مُحَالٌ " ثم ذكر مذهب البصريين . وقال مكِّي بن أبي طالبٍ بعد حكايته مَذْهَبَ الفرَّاءِ : " وهذا مُحَالٌ ، لأنَّ " التاء " هي " الكاف " في " أرأيتكم " ، فكان يجب أن تُظْهَرَ علامةُ جمع " التاء " وكان يجب أن يكون فاعلان لفعلٍ واحدٍ وهما لِشَيءٍ واحد ، ويجب أن يكون معنى قولك : " أرأيتك زَيْداً ما صَنَعَ " : أرأيْتَ نَفْسَكَ زَيْداً ما صنع ؛ لأن " الكاف " هو المُخَاطَبُ ، وهذا مُحَالٌ في المعنى ، ومُتَنَاقِضٌ في الإعراب والمعنى ؛ لأنك تَسْتَفْهِمُ عن نفسه في صَدْرِ السُّؤال ، ثم ترد السؤال إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً ، ثم تأتي بغائبٍ آخر ، أو لأنه يَصِيرُ ثلاثة مفعولين لـ " رأيت " ، وهذا كله لا يَجُوزُ . ولو قلت : " أرأيتك عالماً بزيد " لكان كلاماً صحيحاً ، وقد تعدَّى " رأى " إلى مفعولين " . وقال أبو البقاء بعدما حكا مذهب البصريين : " والدَّليلُ على ذلك أنها - أي " الكاف " - لو كانت اسْماً لكانت : إمَّا مَجْرُورةً - وهو باطلٌ إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مَرْفُوعَةٌ ، وهو باطِلٌ أيضاً لأمرين : أحدهما : أن " الكاف " ليست من ضمائر الرفع . والثاني : أنها لا رَافِع لها ؛ إذا ليست فاعلاً ؛ لأن " التاء " فاعل ، ولا يكون لفعل واحدٍ فاعلان ، وإمَّا أن تكون مَنْصُوبةً ، وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه : أحدها : أن هذا الفِعْلَ يتعدَّى إلى مَفْعُولينِ كقولك : " أرأيت زيداً ما فعلَ " فلو جعلت " الكاف " مفعولاً لكان ثالثاً . والثاني : أنه لو كان مَفْعُولاً لكان هو الفاعل في المَعْنَى ، وليس المعنى على ذلك ، إذ ليس الغَرَضُ أرأيت نفسك ، بل أرأيت غيرك ، ولذلك قلت : أرأيتك زيداً وزيد غير المُخَاطَبِ ، ولا هو بدل منه . والثالث : أنه لو كان مَنْصُوباً على أنه مَفْعُولٌ لظَهَرتْ علامةُ التثنية والجمع والتَّأنيث في " التاء " فكنت تقول : أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنَّ " . ثم ذكر مَذْهَبَ الفرَّاءِ ثم قال : " وفيما ذكرنا إبطالٌ لمذهبه " . وقد انْتَصَرَ أبو بكر بن الأنْبَاريّ لمذهب الفرَّاء بأن قال : " لو كانت " الكافُ " توكيداً لوقَعت التَّثْنِيَةُ والجمع بالتاء ، كما يَقَعَانَ بها عند عدم " الكاف " ، فلمَّا فُتِحت " التاءُ " في خِطَابِ الجَمْعِ ووقع مِيْسَمُ الجمع لغيرها كان ذلك دَلِيلاً على أن " الكاف " غيرُ توكيد . ألا ترى أن " الكاف " لو سَقَطَتْ لم يَصلُحْ أن يُقالَ لجماعة : أرأيت ، فوضحَ بهذا انْصِرَافُ الفِعْلِ إلى " الكاف " ، وأنها واجبةٌ لازَمَةٌ مُفْتَقَرٌ إليها " . وهذا الذي قاله أبُو بَكْرٍ بَاطِلٌ بالكاف اللاحِقَةِ لاسم الإشارة ، فإنها يَقَعُ عليها مِيْسَمُ الجَمْعِ ، ومع ذلك هي حرفٌ . وقال الفراء : " موضعُ " الكاف " نصب ، وتأويلها رَفْعٌ ؛ لأن الفعل يِتَحَوَّلُ عن " التاء " إليها ، وهي بِمَنْزِلَةِ " الكاف " في " دونك " إذا أغْريَ بها ، كما تقول : " دُونَكَ زيداً " فتجد " الكاف " في اللَّفْظِ خَفْضاً ، وفي المعنى رفعاً ؛ لأنها مَأمُورةٌ ، فكذلك هذه " الكافُ " موضعُها نصبٌ ، وتأويلها رفع " . قال شهابُ الدين : " وهذه الشُّبْهَةُ بَاطِلةٌ لما تقدَّم ، والخلافُ في " دونك " و " إليك " وبابهما مَشْهُورٌ تقدَّم التَّنْبِيهُ عليه مراراً " . وقال الفرَّاءُ أيضاً كلاماً حَسَناً [ رأيت أن أذكره فإنه مُبِينٌ نَافِعٌ ] قال : للعرب في " أرأيت " لغتان ومعنيان : أحدهما : رؤية العَيْنِ ، فإذا رأيت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المُخَاطَبِ ، ويتصرَّفُ تصرُّف سَائِرِ الأفعال ، تقول للرجل : " أرأيتك على غير هذه الحالِ " ، تريدُ : هل رأيت نفسك ، ثم تُثَنِّي وتَجْمَعُ فتقول : " أرَأيْتُمَاكُمَا ، أرَأيْتُمُوكُمْ ، أرَأيْتُكُنَّ " . والمعنى الآخر : أن تقول : " أرأيتك " وأنت تريد معنى " أخبرني " ، كقولك : أرأيتك إنْ فَعَلْتُ كذا ماذا تَفْعَلُ ، أي : أخبرني ، وتترك " التاء " إذا أردت هذا المعنى مُوَحَّدةً على كل حالٍ تقول : " أرأيتكما ، أرأيتكم ، أرأيتكنَّ " ، وإنما تركتِ العربُ " التاء " واحدةً ؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفِعْلُ واقعاً من المُخَاطَبِ على نفسه ، فاكْتَفَوْا من علامةِ المُخاطبِ بذكره في المكان ، وتركوا " التاء " على التذكير والتوحيد إذا لم يكون الفِعْلُ واقعاً ، والرُّؤيَةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المُخَاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل : ظننتني ورأيتني ، ولا يقولون ذلك في الأفْعَالِ التَّامةِ ، لا يقولون للرجل : قَتَلْتَكَ بمعنى : قتلت نفسك , ولا أحْسَنْتَ إليك , كما يقولون : نتى تَظُنُّك خارجاً ؟ وذلك أنَّهم أرَادُوا الفَصْلَ بين الفعلِ الذي قد يُلْغَى ، وبين الفعل الذي لا يَجُوزُ إلْغَاؤهُ ، ألا ترى أنك تقول : " أنا أظُنُّ خَارِجٌ " فتلغي " أظن " وقال الله تعالى { أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 7 ] ولم يَقُل : رأى نَفْسَهُ . وقد جاء في ضرورة الشعر إجْرَاءُ الأفعال التامة مُجْرَى النواقص ؛ قال جِرَانُ العَوْدِ : [ الطويل ] @ 2166 - لَقَدْ كَانَ لِي عَنْ ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُنِي وَعَمَّا ألاَقِي مِنْهُمَا مُتَزَحْزحُ @@ والعربُ تقول : " عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقدْتُني " وليس بوجه الكلام . انتهى . واعلم أنَّ النَّاس اختلفوا في الجملة الاستِفْهَامِيَّةِ الواقِعَةِ بعد المنصوب بـ " أرأيتك " [ نحو : أرأيتك ] زَيْداً ما صنع ؟ فالجمهور على أنَّ " زيداً " مفعول أوَّل ، والجملة بعده في مَحَلِّ نصبٍ سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني . وقد تقدَّم أنه لا يجُوزُ التَّعْلِيقُ في هذه ، وإن جاز في غيرها من أخَوَاتِهَا نحو : علمت زيداً أبو مَنْ هو . وقال ابن كَيْسَان : " إن هذه الجملة الا ستفهاميَّة في أرأيت زيداً ما صنع بَدَلٌ من أرأيتك " . وقال الأخْفَشُ : " إنه لا بُدَّ بعد " أرأيت " التي بمعنى " أخبرني " من الاسم المُسْتَخْبَرِ عنه ، ويَلْزَمُ الجُمْلَةَ التي بعده الاستفهام ؛ لأن " أخبرني " موافق لمعنى الاستفهام " . وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها ، فتكون بمعنى " أما " أو " تنبَّه " ، وحينئذٍ لا يكونُ لها مَفْعُولانِ ، ولا مَفْعُولٌ واحدٌ ، وجعل من ذلك : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ } [ الكهف : 63 ] . وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ؛ لأنه إخْرَاجٌ لِلَّفْظةِ عن موضوعها من غير دَاعٍ إلى ذلك . إذا تقرَّرَ هذا فَيْلُرْجَعْ إلى الآية الكريمة فَنَقُولُ ، وبالله التوفيق : اختلف النَّاسُ في هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أن المفعول الأول ، والجملة الاستفهامية التي سدَّت مسدَّ الثاني مَحْذُوفانِ لفهم المعنى ، والتقديرُ : أرأيتكم عبادتكم الأصْنَامَ هل تنفعُكمُ ؟ أو اتِّخَاذكُمْ غَيْرَ الله إلهاً هَلْ يِكشِفُ ضُركم ؟ ونحو ذلك ، فـ " عِبَادَتَكُمْ " أو " اتِّخاذكم " مفعول أوّل ، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مسدَّ الثَّاني ، و " التاء " هي الفاعل ، و " الكاف " حرف خطاب . الثاني : أن الشَّرْطَ وجوابَهُ - وسيأتي بَيَانُهُ - قد سدَّا مَسَدَّ المفعولين ؛ لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود ، فلم يَحْتَجْ هذا الفعل إلى مَفْعُولٍ ، وليس بشيء ؛ لأن الشَّرْطَ وجوابه لم يُعْهَدْ فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي " ظَنَّ " ، وكونُ الفاعلِ غيرَ مُحْتاجٍ لمفعول إخْرَاجٌ له عن وضعه ، فإن عنى بقوله : " سَدَّا مَسدَّهُ " أنَّهُمَا دَالاَّنِ عليه فهو المُدَّعَى . والثالث : أن المفعول الأوَّل محذوفٌ ، والمسألةُ من باب التَّنازُعِ بين " أرأيتكم وأتاكم " ، والمُتنازعُ فيه لَفْظُ " العذاب " وهذا اختيار أبي حيَّان ، ولنُورِدْ كلامه ليظهر فإنه كلامٌ حسنٌ قال : " فنقول : الذي نَخْتَارُهُ أنها بَاقِيَةٌ على حكمها في التعدِّي إلى اثنين ، فالأوَّل منصوب ، والثاني لم نَجِدْهُ بالاسْتِقْرَاءِ إلاَّ جملة استفهاميةً أو قَسَمِيَّةً . فإذا تقرَّرَ هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية مَحْذُوفٌ ، والمسألة من باب التَّنازُعِ ، تنازع " أرأيتكم " والشرط على " عذاب الله " فأعمل الثَّاني ، وهُو " أتاكم " ، فارتفع " عذابَ " به ، ولو أعمل الأوَّل لكان التَّرْكيب : " عذاب " بالنَّصْبِ ، ونظير ذلك " اضرب إنْ جاءك زيد " على إعْمَالِ " جاءك " ، ولو نصب لجاز ، وكان من إعمال الأوَّل . وأمَّا المفعول الثَّاني ، فهو الجملة من الاستفهام " أغَيْرَ الله تَدْعُونَ " والرَّابِطُ لهذه الجملة بالمفعول الأوَّل المحذوف مَحْذُوفٌ تقديره : أغَيْرَ الله تدعون لِكَشْفِهِ ، والمعنى : قل : أرأيتكم عذابَ الله إن أتاكم - أو السَّاعة إن أتتكم - أغَيْرَ الله تَدْعُونَ لكشفه ، أو لكشف نَوازِلها " . انتهى . والتقدير الإعْرَابيُّ الذي ذكره يَحْتَاجُ إلى بعض إيْضَاحٍ ، وتقديره : قل : أرأيتكموه أو أريتكم إيَّاهُ إن أتاكم عَذابُ الله ، فذلك الضمير هو ضَمِيرُ العذابِ لمَّا عَمِلَ الثَّاني في ظاهره أعْطِيَ المُلْغَى ضَمِيرَهُ ، وإذا أضْمِرَ في الأوَّل حُذِفَ ما لم يكن مَرْفُوعاً ، أو خبراً في الأصْلِ ، وهذا الضمير ليس مَرْفُوعاً ، ولا خبراً في الأصل ، فلأجل ذلك حُذِفَ ولا يَثْبُتُ إلاَّ ضَرُورَةً . وأمَّا جوابُ الشَّرْط ففيه خَمسةُ أوجهٍ : أحدها : أنه مَحْذُوفٌ ، فقدَّرهُ الزمخشري : " إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون " . قال أبو حيَّان : " وإصْلاحُهُ أن تقول : " فَمَنْ تَدْعُون " بالفاء ؛ لأن جواب الشَّرْطِ إذا وقع جُمْلَةً اسْتفهامِيَّةً فلا بُدَّ فيه من الفاء " . الثاني : أنه " أرأيتكم " ، قاله الحُوفي ، وهو فَاسِدٌ لوجهين : أحدهما : أنّ جواب الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين ، إنما جوَّزه الكوفيون ، وأبو زيدٍ ، والمُبَرِّدُ . والثاني : أن الجملة المُصدَّرةَ بالهمزة لا تقعُ جواباً للشَّرْطِ ألْبَتَّةً ، إنما يقع من الاسْتِفْهَامِ ما كان بـ " هل " أو اسْم من أسْمَاءِ الاستفهام ، وإنما لم تَقعِ الجُمْلَةُ المصدَّرةُ بالهمزة جواباً ؛ لأنه لا يخْلُو : أن تأتي معها بالفاء ، أو لا تأتي بها ، لا جَائِز ألاَّ تأتي بها ؛ لأن كُلَّ ما لا يَصْلُحُ شرطاً يجب اقْتِرَانُهُ بالفاء إذا وقع جواباً . ولا جَائِزَ أن تأتي بها ؛ لأنك : إمَّا أن تأتي بها قَبْلَ الهمزة ، نحو : " إن قمت فأزيد مُنْطَلِقٌ " ، أو بعدها نحو : " أفَزَيدٌ مُنْطَلِقٌ " ، وكلاهما مُمْتَنِعٌ ، أمَّا الأوَّل فلتَصَدُّرِ " الفاء " على الهمزة . وأما الثَّاني ، فإنه يُؤدِّي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجبُ فيه الإتْيَانُ بها وهذا بخلاف هل ، فإنك تأتي بالفاءِ قبلها ، فنقول : " إن قمت فهل زيد قَائِم " ؛ لأنه ليس لها تمامُ التصدير الذي تَسْتَحِقُهُ الهمزة ، ولذلك تَصَدَّرتْ على بعض حروف العطفِ ، وقد تقدَّم [ مشروحاً ] مراراً . الثالث : أنه " أغير الله " وهو ظَاهِرُ عِبَارَةِ الزمخشري ، فإنه قال : " ويجوز أن يتعلَّق الشَّرْطُ بقوله : " أغير اللَّهِ تدعون " ، كأنه قيل : أغير الله تَدْعُون إن أتاكُمْ عَذابُ الله " . قال أبو حيَّان : ولا يجوز أن يتعلِّق الشرطُ بقوله : " أغير الله " ؛ لأنه لو تعلَّقَ به لكانَ جواباً له ، لكنه لا يقع جواباً ، لأن جواب الشَّرْط إذا كان اسْتِفْهاماً بالحرف لا يَقَعُ إلا بـ " هل " وذكر ما قدَّمْتُه إلى آخره ، وعزاه الأخفَشُ عن العرب ، ثم قال : " ولا يجوز أيضاً من وجْهٍ آخر ؛ لأنَّا قد قرَّرْنَا أنَّ " أرأيتك " مُتعدِّيةٌ إلى اثنين ؛ أحدهما في هذه الآية محذوفٌ ، وأنه من باب التَّنازُعِ ، والآخر وقعت الجُملةُ الاستفهَامِيَّةُ موقعه ، فلو جَعَلْتَهَا جواب الشَّرْطِ لبقيت " أرأيتكم " مُتعدِّيَةً إلى واحدٍ ، وذلك لا يجوز " . قال شهابُ الدين : وهذا لا يَلْزَمُ الزمخشري ، فإنه لا يرتضي ما قاله من الإعراب المُشَارِ إليه . قوله : " يلزم تعدِّيهَا لِوَاحِدٍ " . قلنا : لا نُسَلِّمُ ، بل يتعدَّى لاثْنَيْنِ محذوفين ثانيهما جملة الاستفهام ، كما قدَّره غَيْرُهُ : بـ " أرأيتكم عبادتكم هل تنفعكم " ثم قال : " وأيضاً التزامُ العرب في الشَّرْط الجائي بعد " أرأيت " مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أنَّ جوابَ الشرط محْذُوفٌ ، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلاَّ عند مُضِيَّ فِعْلِهِ ، قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 47 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 46 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ } [ القصص : 71 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } [ يونس : 50 ] { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [ الشعراء : 205 ] { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [ العلق : 13 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال الشاعر : [ الرجز ] @ 2167 - أرَيْتَ إنْ جَاءَتُ بِهِ أمْلُودَا @@ وأيضاً مَجيءُ الجملة الاستفهاميَّةِ مصدَّرةً بهمزة الاستفْهَامِ دليلٌ على أنها ليست جوابَ الشَّرْط ، إذ لا يَصِحُّ وُقُوعُهَا جواباً للشرط " انتهى . ولمَّا جوَّز الزمخشري أن الشَّرْطَ مُتعلِّقٌ بقوله : " أغَيْرَ الله " سأل سؤالاً ، وأجاب عنه ، قال : " فإن قلت : إن علّقت الشَّرْط به ، فما تصْنَعُ بقوله : { فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ } مع قوله : { أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ } ، وقوارعُ السَّاعةَ لا تُكْشَفُ عن المشركين ؟ قلت : قد اشترط في الكَشْفِ المَشِيئَةَ وهو قوله : " إنْ شَاءَ " إيذَاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وَجْهٌ من الحكمة ، إلا أنه لا يَفْعَلُ لِوَجْهٍ آخرَ من الحكمة أرجح منه " . قال أبو حيَّان : " وهذا مَبْنِيُّ على أن الشَّرطَ متعلقٌ بـ " أغير الله " وقد اسْتَدْلَلْنَا على أنه لا يَجُوزُ " . قال شهابُ الدين : ترك الشَّيخُ التَّنْبِيهَ على ما هو أهَمُّ من ذلك , وهو قوله : " إلاَّ أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحِكْمَةِ أرْجَحَ منه " وهذا أصْلٌ فاسدٌ من أصُولِ المعتزلة يزعمون أن أفعاله - تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحكم ، يترَّجحُ مع بعضها الفعلُ ، ومع بعضها التركُ ، ومع بعضها يَجبُ الفعلُ أو الترك ، تعالى الله عن ذلك ، بل أفْعَالُهُ لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] ، كما تقرر في علم الأصول . الرابع : أن جوابَ الشَّرْطِ محذوف تقديره : إن أتاكم عذابُ الله ، أو أتتكم السَّاعَةُ [ دَعَوْتُمْ ] ودَلَّ عليه قوله : " أغير الله تدعون " . الخامس : أنه مَحْذُوفٌ أيضاً ، ولكنه مُقدَّرٌ من جِنْسِ ما تقدَّم في المعنى ، تقديره : إن أتاكم عذابُ الله ، أو أتتكم السَّاعةُ فأخبروني عنه أتَدْعُونَ غير الله لِكَشْفِهِ ، كما تقول : " أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به " ، أي إن جاءك فأخْبِرْنِي عنه ، فحذف الجوابُ لدلالة " أخبرني " عليه ، ونظيرُهُ : أنت ظَالِمٌ إن فعلت ، أي : فأنت ظَالِمٌ ، فحذف " فأنت ظَالِمٌ " لدلالة ما تقدَّم عليه . وهذا ما اختارَهُ أبو حيَّان . قال : " وهو جارٍ على قواعدِ العربية " وادَّعى أنه لم يَرهُ لغيره . قوله : { أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُون } . " غَيْرَ " مفعول مُقدَّمٌ لـ " تَدْعون " ، وتقديمُه : إمَّا للاخْتِصَاصِ كما قال الزمخشري : بَكَّتَهُمْ بقوله : أغير الله تَدْعُون ، بمعنى : أتَخُصُّونَ آلهتكم بالدَّعْوةِ فيما هو عَادَتُكُمْ إذا أصَابَكُمْ ضُرُّ ، أم تدعون الله دونها ، وإمَّا للإنْكَارِ عليهم في دُعَائِهِمْ للأصْنَامِ ، لأن المُنْكَرِ إنما هو دُعَاءُ الأصْنَام لا نَفْسُ الدُّعاء ، ألا ترى أنك إذا قلت : " أزَيْداً تضربُ " إنما تُنْكِرُ كَوْنَ " زيد " محلاَّ للضَّرْب ، [ ولا تُنْكِرُ نَفْسَ الضرب ، ] وهذا من قَاعِدَةِ بَيَانِيَّةٍ قدمت التنبيه عليها عند قوله تعالى : { ءَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي } [ المائدة : 116 ] . قوله : { إنْ كُنْتُمْ صادقِينَ } جوابه مَحْذُوفٌ لدلالة الكلام عليه ، وكذلك مَعْمُولُ " صَادِقِينَ " ، والتقدير إن كنتم صَادِقينَ في دعْوَاكُمْ أنَّ غير الله إلهٌ ، فهل تَدْعونه لِكَشْفِ ما يَحُلُّ بكم من العذابِ ؟ فصل في المراد من الآية معنى الآية : قال ابن عبَّاسٍ : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : أرأيتكم إن أتاكُمْ عذابُ الله قبل الموتِ ، أرأيتكم السَّاعة يعني العذاب يوم القيامة ، أترجعون إلى غير الله في دَفْعِ البلاء والضُّرِّ ، أو ترجعون إلى الله في دَفْعِ البلاء والمِحْنَةِ لا إلى الأصنام والأوثانَ ، وأراد الكُفَّارَ يدعون الله في أحْوالِ الاضْطِرَارِ كما أخبر اللَّهُ عنهم { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ لقمان : 32 ] لا جرم قال : { بَلْ إيَّاهُ تدعُونَ } " بل " حرفُ إضْرَابٍ وانتقال ، لا إبطال لما عُرِفَ غير مَرَّةٍ من أنها في كلام اللَّهِ كذلك ، و " إيَّاه " مفعول مُقدَّمٌ للاخْتِصَاصِ عند الزمخشري ، ولذلك قال : بل تَخُصُّونه بالدُّعَاءِ ، وعند غيره للاعْتِنَاء ، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاصٌ فمن قَرينةٍ أخرى ، و " إياه " ضمير منصوبٌ مُنْفِصلٌ تقدَّم الكلامُ عليه في " الفاتحة " . وقال ابن عطية : " هنا " إيَّا " اسم مُضْمَرٌ أجري مجرى المظهرات في أنه مضاف أبَداً " . قال أبو حيان : وهذا خِلافُ مذهب سيبويه أن ما بعد " إيَّا " حرف يُبَيَّن أحْوالَ الضمير ، وليس مُضَافاً لما بعده لئلا يَلْزَمُ تَعْرِيفُ الإضافة ، وذلك يِسْتَدْعِي تنكيره ، والضَّمَائِرُ لا تَقْبَلُ التنكير فلا تَقْبَلُ الإضافة . قوله : " ما تَدْعُونَ " يجوز في " ما " أربعةُ أوجهٍ : أظهرها : أنها موصولةٌ بمعنى " الذي " ، أي : فيكشف الذي تَدْعُونَ ، والعائدُ محذوف لاسْتِكْمَالِ الشروط ، أي : تَدْعُونَهُ . الثاني : أنها ظَرْفِيَّةٌ ، قاله ابن عطية ، وعلى هذا فيكون مَفْعُول " يكشفُ " مَحْذُوفاً تقديره : فيكشف العذابَ مُدَّة دعائكم ، أي : ما دُمْتُمْ داعينه وقال أبو حيَّان : وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وصْلَها بمضارعٍ ، وهو قليلٌ جداً تقول : " لا أكَلِّمُكَ ما طلعت الشمسُ " ، ويضعف : " ما تَطْلَعُ الشمس " . قال شهاب الدين : قوله : " بمُضارع " كان ينبغي أن يقُول : " مثبت " ؛ لأنه متى كان مَنْفِيَّا بـ " لم " كَثُرَ وصْلُهَا به ، نحو قوله : [ الطويل ] @ 2168 - وَلَن يَلْبَثَ الْجُهَّالُ أنْ [ يَتَهَضَّمُوا ] أخَا الحِلْمِ مَا لِمْ يِسْتَعِنْ بِجَهُولِ @@ ومِنْ وَصْلِهَا بمضارعٍ مثبتٍ قوله : [ الوافر ] @ 2169 - أطوِّفُ مَا أطَوِّفُ ثُمَّ آوِي إلَى أمَّى وَيَرْوينِي النَّقِيعُ @@ وقول الآخر : [ الوافر ] @ 2170 - أطَوِّفُ ما أطَوِّفُ ثُمَّ آوِي إلَى بِيْتٍ قَعِيدَتُهُ لكَاعٍ @@ فـ " أطَوِّفُ " صِلَةٌ لـ " ما " الظرفية . الثالث : أنها نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ ذكره أبو البقاء ، والعِائِدٌ أيضاً مَحْذُوفٌ أي : فيكشفُ شَيْئاً تَدْعُونه ، أي : تَدْعُونَ كشْفَهُ والحَذْفُ من الصِّفَةِ أقَلُّ منه من الصلة . الرابع : أنها مَصْدَرِيَّةٌ ، قال ابن عطيَّة : " ويَصِحَّ أن تكون مَصْدَرِيَّةً على حذفٍ في الكلام " . قال الزجَّاج : وهو مثْل " { وَسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . قال شهاب الدين : فيكشف سبب دعائكم وموجبه . قال أبو حيَّان : وهذه دَعْوَى محذوف غير مُعَيّن ، وهو خلافُ الظاهر . وقال أبو البقاء : " وليست مَصْدَرِيَّةً إلاَّ أن تَجْعَلَهَا مصدراً بمعنى المفعول " يعني يصير تقديره : فيكشف مَدْعُوَّكُمْ ، أي : الذي تَدْعُون لأجله ، وهو الضُّرُّ ونحوه . قوله : " إليه " فيما يتعلَّق به وجهان : أحدهما : أن تيعلَّق بـ " تَدْعون " ، والضَّمير حينئذٍ يعود على " ما " الموصولة ، أي : الذي تَدْعُون إلى كَشْفِهِ ، و " دعا " بالنسبة إلى متعلّق الدعاء يتعدَّى بـ " إلى " أو " اللام " . قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ } [ فصلت : 33 ] { وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } [ النور : 48 ] . وقال : [ الطويل ] @ 2171 - وإنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا … @@ وقال : [ البسيط ] @ 2172 - وَإنْ [ دَعَوْت ] إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا @@ وقال : [ المتقارب ] @ 2173 - دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَراً فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ @@ والثاني : أن يتعلَّق بـ " يكشفُ " . قال أبو البقاء : " أي : يرفعه إليه " انتهى . والضميرُ على هذا عائدٌ على الله تعالى ، وذكر أبو البقاء وَجْهَيِ التعلق ولم يَتَعَرَّضْ للضمير ، [ وقدْ عَرَفْتَهُ ] . وقال ابن عطية : والضمير في " إليه " يَحْتَمِلُ أن يعُود إلى الله ، بتقدير : فيكشف ما تدعون فيه إليه . قال أبو حيَّان : وهذا ليس بِجَيدٍ ؛ لأنَّ " دعا " يتعدَّى لمفعول به دون حَرْفِ جرِّ : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] ، { إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ومن كلام العرب : " دَعَوْتُ الله سَمِيعاً " . قلت : ومِثْلُهُ : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا } [ الإسراء : 110 ] { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعا } [ الأعراف : 55 ] قال : " ولا تقولُ بهذا المعنى : " دعوت إلى الله " بمعنى : دعوت الله ، إلاَّ أنه يمكن أن يُصَحَّحَ كلامُهُ بمعنى التَّضْمِينِ ، ضَمَّنَ " تدعون " معنى " تلجؤون فيه إلى الله " إلاَّ أنَّ التضمين ليس بقياس , لا يُصَارُ إليه إلاَّ عند الضَّرُورَةِ ، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا " . قال شهاب الدين : ليس التضمين مَقْصُوراً على الضرورة ، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَرَ ، وقد تقدَّم منه جملة صَالِحَةٌ ، وسيأتِي إن شاء الله - تعالى - مثلُهَا على أن قد يُقَال : تجويزُ أبي مُحَمَّدٍ عَوْدَ الضمير إلى الله - تعالى - مَحْمُولٌ على أن " إليه " مُتَعَلِّقٌ بـ " يكشف " ، كما تقدَّم نَقْلُهُ عن أبي البقاءِ ، وأن معناه يرفعه إليه ، فلا يلزم المحذور المذكور ، لولا أنه يُعَكِّرُ عليه تقديرُهُ بقوله : " تدعون فيه إليه " ، فتقديره : " فيه " ظاهره أنه يَزْعُمُ تعَلُّقَهُ بـ " تَدْعُون " . قوله : " إنْ شَاءَ " جوابه مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المعنى ، ودلالة ما قبله عليه ، أي : إنْ شَاءِ أن يَكْشِفَ كَشَفَ ، وادِّعاءُ تقديم جوابِ الشرط هنا واضِحٌ لاقترانه بـ " الفاء " فهو أحْسَنُ من قولهم : " أنت ظالم إن فعلت " لكن يمنع من كونها جواباً هنا أنها سَبَبِيَّةٌ مرتبة ، أي : أنها أفادت تَرتُّبَ الكَشْفِ عن الدعاء ، وأن الدُّعَاءَ سَبَبٌ فيه ، على أن لنا خِلاَفاً في " فاء " الجزاء : هل تفيد السَّبَبِيَّةَ أو لا ؟ قوله : { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون } الظاهر في " ما " أن تكون مَوْصُولَةَ اسمية ، والمُرَادُ بها ما عُبِدَ مِنْ دون اللَّهِ مُطْلَقاً : العُقَلاَء وغيرهم ، إلاّ أنه غَلَّبَ غير العقلاء عليهم كقوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } [ النحل : 49 ] والعائد محذوف ، أي : ما تُشْرِكُونَهُ مع الله في العِبَادَةِ . وقال الفارسيُّ : " الأصْلُ : وتَنْسَوْنَ دُعاءَ ما تشركون ، فحذف المضاف " . ويجوز أن تكون مَصْدرِيَّةً ، وحينئذٍ لا تَحْتَاجُ إلى عائد عند الجمهور . ثم هل هذا المصدر باقٍ على حقيقته ؟ أي : تَنْسَوْنَ الإشراك نَفْسَهُ لما يَلْحَقُكُمْ من الدَّهْشَةِ والحَيْرَةِ ، أو هو واقع موقع المعفول به ، أي : وتنسون المُشْرَكَ به ، وهي الأصنام وغيرها ، وعلى هذه فمعناه كالأوَّلِ ، وحينئذ يحتمل أن يكون السياق على بابه من " الغَفْلَة " وأن يكون بمعنى التَّرْكِ ، وإن كانوا [ ذاكرين ] لها أي : للأصنام وغيرها . فصل في المراد من الآية معنى الآية فيكشف الضُّرَّ الذي من أجْلِهِ دَعَوْتُمْ إن شاء ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه - تعالى - قد يجيب الدُّعَاءَ إن شاء ، وقد لا يجيبه . فإن قيل : قوله : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] يفيد الجَزْمَ بالإجابة ، وهاهنا عَلَّقَ الإجابة على المشية ، فكيف يجمع بين الآيتين ؟ فالجوابُ أن يقال : تَارَةً يَجْزِمُ سُبْحَانَهُ بالإجابة ، وتارةً لا يجيب إمَّا بحسب المشيئة كما يقول أهل السُّنَّةِ ، أو بحسب رعايَةِ المصلحة كما يقول المعتزلة ، ولمَّا كان كلا الأمرين حَاصِلاً لا جَرَمَ وردت الآيتين على هذهين الوجهين . فصل في أن أصل الدين هو الحجة وهذه الآية من أقْوَى الدَّلائِلِ على أن أصل الدين هو الحُجَّةُ والدليل ، لا يخصُّ التقليد ؛ لأنه - تعالى - كان يقول لِعبدةِ الأوْثَانِ إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله لا إلى الأصنام والأوثان ، فَلِمَ تقدمون على الأصنام التي لا تَنْتَفِعُونَ بعبادتها ألْبَتَّةَ ، وهذا الكلامُ إنما يُفيدُ لو كان ذكرُ الدَّلِيلِ والحُجَّةِ مقبولاً ، أمَّا لو كان مَرْدُوداً وكان الواجب التقليد كان هذا الكلام سَاقِطاً .