Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 52-52)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال سلمان ، وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية . " جاء الأقْرَعُ بْنُ حِابِسٍ التَّمِيمِيُّ ، وعُيَيْنَهُ بْنُ حِصْنٍ الفَزَارِيّ ، وذووهم من المؤلَّفَةِ قُلوبُهُمْ فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال ، وصُهَيب , وعمَّار ، وخبَّاب في ناسٍ من ضُعفاءِ المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صَدْرِ المسجد ، ونَفَيْتَ عَنَّا هؤلاء وأرْوَاح جبَابِهِمْ ، وكان عليهم جِبَابُ صُوفٍ ولم يكن عليهم غيرها ، لجَالسْنَاكَ وأخذنا عَنْكَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بِطَاردٍ المؤمنين ، قالوا : فإنَّا نُحِبُّ أن تَجْعَلَ لنا منك مَجْلِساً تعرفُ به العربُ فَضْلَنَا ، فإن وُفُودَ العرب تَأتِيكَ ، فَنَسْتَحْيِي أن تَرَانا العربُ مع هؤلاء الأعْبُدِ ، فإذا نحنُ جئنا فأبْعدهم عَنَّا ، فإذا نحنُ فَرَغْنَا فاقْعُدْ مَعَهُمْ إن شئت ، فقال " نعم " طَمَعاً في إيمانهم . قال : ثم قالوا : اكْتُبْ لنا عليْك بذلك كتاباً . قال : فَدَعا بالصَّحِيفَةِ ، ودعا عليَّا لِيَكْتُب ، قال : ونحن قعود في ناحيةٍ ، إذ نزل جبريل عليه السلام بقوله : { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } إلى قوله : " بِالشَّاكرين " فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يَدِهِ ، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كتبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وكنَّا نقعدُ معه حتى تَمَسَّ رُكْبَتُنَا رُكْبَتَهُ ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله تعالى : { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] فترك القيام عَنَّا إلى أن نقوم عنه وقال : " الحَمْدُ للَّهِ الذي أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ قومٍ من أمَّتِي معكُم المَحْيَا ومَعَكُم المَمَاتُ " . فصل في بيان شبهة الطاعنين في العصمة احْتَجَّ الطَّاعنون في عِصْمَةِ الأنبياء بهذه الآية من وجوه : أحدها : أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - طَرَدَهُمْ ، والله - تعالى - نَهَاهُ عن ذلك ، فكان ذَنْباً . وثانيها : أنه - تعالى - قال { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } وقد ثبت أنه طَرَدهُمْ . وثالثها : أنَّهُ - تعالى - حَكَى عن نُوح أنه قال : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِين } [ الشعراء : 114 ] ثم إنه - تعالى - أمر مُحَمَّداً - عليه الصلاة والسلام - بمُتَابَعَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في جميع الأعمال الحَسَنَةِ بقوله : { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] فوجب على محمد - عليه الصلاة والسلام - ألاَّ يَطْرُدهُمْ [ فلما طردهم ] كان ذلك ذَنْباً . ورابعها : أنه قال : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ الكهف : 28 ] وقال : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ طه : 131 ] . فنهاه عن الالْتِفَاتِ إلى زينةِ الحياة الدُّنيا ، فكان ذَنْباً . وخامسها : أن أولئك الفُقَراء كانوا كُلَّمَا دخلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الواقعة يقول : " مَرْحَباً بِمَنْ عاتَبَني رَبّي فِيهِمْ " أو لَفْظاً هذا معناه ، وذلك أيضاً يدلُّ على الذَّنْبِ . فالجوابُ عن الأول : أنه - عليه الصلاة والسلام - ما طَرَدَهُمْ لأجْلِ الاسْتَخْفافِ بهم والاسْتِنْكافِ من فَقرهِمْ ، وإنَّما عَيَّنَ لجلوسهم وَقْتاً مُعَيَّناً سوى الوَقْتِ الذي كان يَحْضُرُ فيه أكَابِرُ قريش ، وكان غرضه التَّلَطُّفَ بهم في إدْخَالِهِمْ في الإسلام ، ولعله - عليه الصلاة والسلام - كان يقول : هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يفوتهم [ بسبب هذه ] المُعَامَلةِ شيء من أمْرِهمْ في الدُّنيا وفي الدِّين ، وهؤلاء الكفار فإنه يَفُوتُهُمُ الدِّينُ والإسلام ، فكان ترجيح هذا الجانب أوْلَى ، فأقْصَى ما يقال : إن هذا الاجتهاد وقع خطأ ، إلاَّ أن الخَطَأ في الاجتهاد مَغْفُورٌ . وأما قولهم : إنه - عليه الصلاة والسلام - طَرَدَهُمْ ، فيلزم كونه من الظالمين ؟ فالجواب : أن الظلم عبارةٌ عن وضْعِ الشيء في غَيْرِ موضعه ، والمعنى أن أولئك الفُقَراء كانوا يَسْتَحِقُّونَ التعظيم من الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلمَّا طَرَدهُمْ عن ذلك المجلس ، فكان ذلك ظُلْماً ، إلاِّ أنَّهُ من باب تَرْك الأوْلَى أو الأفضل ، لا من باب ترك الواجبات ، وكذلك الجوابُ عن سائر الوجوه ، فإنَّا نَحْمِلُ كلَّ هذه الوجوه على تَرْكِ الأفضل والأكمل والأوْلَى , واللَّهُ أعلم . قوله : " بالغَدَاةِ " : قرأ الجمهور " بالغَدَاةِ " هنا وفي " الكهف " وابن عامر " بالغُدْوَةِ " بضم الغين وسكون الدال ، وفتح الواو في الموضعين ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السّلمي ، والحسن البَصْري ، ومالِكِ بْنِ ديناَرٍ ، وأبي رَجَاءٍ العطارِدِيّ ، ونصر بن عاصمٍ الليْثي ، والأشهر في " الغُدْوة " أنها مُعَرَّفة بالعَلَمِيَّةِ ، وهي عَلَمِيَّة الجنس كـ " أسامة " في الأشخاص ، ولذلك مُنِعَتْ من الصَّرفِ . وقال الفراء : " سمعت أبا الجَرَّاحِ يقول : ما رأيت [ كغدوة ] قط ، يريد غَدَاة يومه " . قال : " ألا ترى أن العرب لا تُضِيفُهَا ، فكذا لا يدخلها الألف واللام ، إنما يقولون : جئتك غداة الخميس " . وقال الفرَّاء في كتاب " المعاني " في " سورة الكهف " : قرأ أبو عبد الرحمن السّلَمِيُّ : " بالغُدْوَةِ والعَشِيّ " ولا أعلم أحَداً قرأ بها غيره ، والعربُ تُدْخِلُ الألف واللام في " الغدوة " ؛ لأنها معرفة بغير ألف ولام " فذكره إلى آخره . وقد طعن أبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سُلاَّمٍ على هذه القراءة ، فقال : " إنما نرى ابن عامرٍ ، والسلمي قرءا تلك القراءة اتّباعاً للخَطِّ ، وليس في إثبات " الواو " في الكتاب دليلٌ على القراءة بها ؛ لأنهم كتبوا " الصَّلاة " و " الزكاة " بالواو ، ولفظهما على تركها ، وكذلك " الغدوة " على هذا وجدنا العرب " . وقال الفارِسِيُّ : الوَجْهُ قراءة العامة " بالغَدَاةِ " ؛ لأنها تستعمل نكرةً ومعرفةً باللام ، فأمَّا " غُدْوة " فمعرفةٌ ، وهو علمٌ وُضِعَ للتعريف ، وإذا كان كذلك ، فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف ، كما لا تَدْخُلُ على سَائِرِ الأعْلامِ ، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو ؛ لأنها تَدُلُّ على ذلكَ ، ألا ترى " الصلاة " و " الزكاة " بالواو ، ولا تُقرآن بها ، فكذلك " الغَدَاة " . قال سيبويه : " غُدْوة وبُكْرة جُعِلَ كُلُّ واحد منهما اسْماً لِلْحِين ، كما جعلوا : " أمّ حُبَيْن " اسماً لدَابَّةِ معروفة " إلاَّ أنَّ هذا الطَّعْنَ لا يُلْتَفَتُ إليه , وكيف يُظَنُّ بِمَنْ تقدَّم أنهم يَلْحنون ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ ممن يُسْتَشْهَدُ بكلامه فَضْلاً عن قراءتِهِ ، ونَصْرُ بْنُ عَاصِم شَيْخُ النحاة ، أخذَ هذا العلم عن أبي الأسْوَدِ يَنْبُوعِ الصناعَةِ ، وابن عامر لا يعرف اللَّحْنَ ؛ لأنه عربي ، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة ، ولكن أبا عُبَيْدٍ - رحمه الله - لم يعرف أن تنكير " غُدْوَة " لغة ثانية عن العَرَبِ حَكَاهَا سيبويه والخليل . قال سيبويه : زعم أنه يَجُوزُ أن تقول : " أتَيْتُكَ اليوم غُدْوَةً وبُكْرَة " فجعلها مثل " ضَحْوَة " . قال المهدوي : " حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضهم يُنَكِّر فيقول : " غُدْوةً " بالتنوين ، وبذلك قرأهُ ابن عامر ، كأنه جعله نكرة ، فأدخل عليها الألفَ واللام " . وقال أبو علي الفارسي : " وجْهُ دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت مَعْرِفَةً أن تُنَكَّرَ ، كما حكى أبو زَيْدٍ " لقيته فَيْنَةً " غير مَصْرُوفَة " والفَيْنَةُ بَعْدَ الفَيْنَةِ " أي : الحين بعد الحين ، فألحق " لام " التعريف ما استعمل معرفة ، ووجه ذلك أنه يُقَدَّرُ فيه التنكير والشيوع ، كما يُقَدَّرُ فيه ذلك إذا ثَنَّى " . وقال أبو جَعْفَرٍ النحاس : قرأ أبو عبد الرحمن ، ومالك بن دينار ، وابن عامر : " بالغُدْوَةِ " قال : " وباب غُدْوَة أن يكون معرفة إلاَّ أنَّهُ يجوز تنكيرها كما تُنَكَّرُ الأسماء الأعلام ، فإذا نُكَّرَتْ دخلتها الألف واللام للتعريف " . وقال مَكّي بن أبي طالبٍ " إنما دخلت الألف واللام على " غَدَاة " لأنها نكرة ، وأكثر العرب يجعل " غُدْوَة " معرفة فلا يُنَوِّنها ، وكلهم يجعل " غَدَاة " نَكِرَةٌ فينوِّنها ، ومنهم من يجعل " غُدْوَة " نكرة وهم الأقَلّ " فثبت بهذه النُّقُولِ التي ذكرْتُهَا عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سَالِمَةٌ من طَعْنِ أبي عُبَيْدٍ ، وكأنه - رحمه الله - لم يحفظها لغة . وأما " العَشِيُّ " فنكرةٌ ، وكذلك " عَشِيَّة " . وهل العَشِيُّ مرادِف لـ " عشية " أي : إن هذا اللفظ فيه لغتان : التذكير والتأنيث ، أو أن " عَشِيّاً " جَمْعُ " عَشِيَّة " في المعنى على حدِّ " قَمْح " و " قَمْحَة " ، و " شعير " و " شعيرة " ، فيكون اسم جِنْسٍ ، خلاف مشهور ، والظاهر الأوَّل لقوله تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ ص : 31 ] إذ المرادُ هنا عَشِيَّة واحدة ، واتفقت مصاحفُ الأمْصَارِ على رَسْمِ هذه اللفظة " الغدوة " بالواو وقد تقدَّمَ أن قراءة ابن عامرٍ ليست مُسْتَندَةً إلى مجرد الرسم ، بل إلى النَّقْلِ ، وثَمَّ [ ألْفَاظٌ اتُّفِقَ ] أيضاً على رَسْمِهَا بالواو ، واتُّفِقَ على قراءتها بالألف ، وهي : " الصَّلاة ، والزكاة ، ومناة ، ومِشْكَاة ، [ والربا ، ] والنجاة والحياة " ، وحرفٌ اتُّفِقَ على رسمه بالواو ، واختلف في قراءته بالألف والواو ، وهو " الغَدَاة " وأصْلُ غَدَاة : غَدَوَة ، تحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً . وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ : " بالغدوات والعَشِيَّات " ، جمع " غَدَاة " و " عشية " وروي عن أبي عبد الرحمن أيضاً " بالغُدُوِّ " بتشديد الواو من غير هاءٍ . فصل في المراد بالآية قال ابن عبَّاسٍ [ معنى الآية ] يَعْبُدُون ربَّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يعني صلاة الصبح ، وصلاة العصر ، وهو قول الحَسَنِ ومجاهد . وروي عنه أن المراد الصلوات الخَمْس ، وذلك " أن نَاساً من الفقراء كانوا يُصَلُّونَ مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ناسٌ من الأشراف : " إذا صَلَّيْنَا فأخِّر هؤلاء فَلْيُصَلُّوا خَلْفنَا " فنزلت هذه الآية . وقال مُجَاهِدٌ : صليت الصبح مع سَعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ ، فلما سلم الإمام ابْتَدَرَ النَّاسُ القاص ، فقال سعيد : ما أسرع الناس إلى هذا المَجْلِسِ ، فقال مجاهد : فقلت : يَتَأوَّلُونَ قوله تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيّ } فقال : أفي هذا هو ؟ إنما ذلك في الصَّلاةِ التي انصرفنا عنها الآن . وقال إبراهيم النخعي : يعني : يذكرون رَبَّهُمْ . وقيل : المُرَادُ حقيقة الدعاء . قوله : " يُرِيدُونَ " هذه الجملة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل " يَدْعُونَ " أو من مفعوله ، والأوَّلُ هو الصحيح ، وفي الكلام حَذْفٌ ، أي : يريدون بدعائهم في هَذَيْنِ الوقتين وجهه . فصل في الرد على شبهة المجسمة تمسكت المُجَسِّمَةُ في إثبات الأعْضَاء للَّه - تعالى - بهذه الآية ، وسائر الآيات المُنَاسِبَة ، كقوله تعالى : { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } [ الرحمن : 27 ] والجوابُ : أن قوله تعالى : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] يقتضي الوحْدَانيَّة التَّامَّة ، وذلك يُنَافِي التركيب من الأعضاء والأجزاء ، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من التَّأويل ، وهو من وجهين : أحدهما : قوله : { يُريدُون وَجْهَهُ } ، أي : يريدونه إلاَّ أنهم يذكرون [ لفظ الوجه للتعظيم كما يقال : هذا وجه الرأي ، وهذا وجه الدليل الثاني : ] أنَّ من أحَبَّ ذاتاً أحب أن يرى وَجْهَهُ ، فرؤية الوَجْه من لوازم المحبَّةِ ، فلهذا السَّبَبِ جعل الوجه كِنَايةً عن المَحَبَّةِ ، وطلب الرضى . والثاني : أن المراد بالوجه القَصْدُ والنِّيَّةُ ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ] @ 2179 - أسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ أحْصِيَهُ رَبَّ العِبَاد إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ @@ وقد تقدَّم بيانُهُ عند قوله : { وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } [ البقرة : 115 ] قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء } " ما " هذه يجوز أن تكون الحِجَازيَّةَ النَّاصبة للخبر ، فيكون " عليك " في مَحَلِّ النصب على أنه خبرها ، عند مَنْ يُجَوِّز إعْمَالَهَا في الخبر المُقدَّمِ إذا كان ظَرْفاً أو حرف جَرِّ ، وأمَّا إذا كانت تَمِيميَّةً ، أو متعيَّناً إهمالُهَا في الخبر المقدِّمِ مُطْلَقاً كان " عليك " في مَحَلِّ رفع خبراً مُقدَّماً ، والمبتدأ هو " مِنْ شَيءٍ " زيدت فيه " مِنْ " . وقوله : " مِنْ حِسَابِهِمْ " قالوا : " مِنْ " تَبْعِيضيَّةٌ ، وهي في محل نَصْبٍ على الحال ، وصاحبُ الحالِ هُو " مِنْ شيء " ؛ لأنها لو تأخرت عنه لكانت صِفَةً له ، وصفة النكرة متى قُدِّمَتْ انْتَصَبَتْ على الحالِ ، فعلى هذا تتعلَّقُ بمحذوف ، والعاملُ في الحال الاسْتِقْرَارُ في " عليك " ، ويجوز أن يكون " مِنْ شَيْءٍ " في مَحَلِّ رفع بالفاعلية ، ورافعه " عليك " لاعتماده على النفي ، و " مِن حِسَابِهِمْ " حالٌ أيضاً من " شيء " العاملُ فيها الاستقرار والتقديرُ : ما اسْتَقَرَّ عليك شَيءٌ من حسابهم . وأُجيز أن يكون " مِنْ حِسَابِهِمْ " هو الخَبَر : إمَّا لـ " ما " ، وإمَّا للمبتدأ ، و " عليك " حالٌ من " شيء " ، والعَامِلُ فيها الاسْتِقَرارُ ، وعلى هذا فيجوز أن يكون " من حِسَابِهِمْ " هو الرافع للفاعل على ذاك الوَجْهِ ، و " عليك " حالٌ أيضاً كما تقدَّمَ تقريره ، وكون " مِنْ حِسَابِهِمْ " هو الخبر ، و " عليك " هو الحَالُ غير واضح ؛ لأن مَحَطَّ الفائدة إنما هو " عَليْكَ " . قوله : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } كالذي قبله ، إلاَّ أنَّ هنا يَمْتِنَعُ بَعْضُ ما كان جَائِزاً هناك ، وذلك أن قوله : " مِنْ حِسَابِكَ " لا يجوز أن يَنْتَصِبَ على الحال ؛ لأنه يلزم تَقّدُّمُهُ على عامله المعنوي ، وهو ممتنعٌ ، أو ضعيف لا سيَّمَا وقدْ تقدَّمتْ هنا على العامل فيها ، وعلى صاحبها ، وقد تقدَّم أنَّ الحالَ إذا كانت ظَرْفاً أو حرف جرٍّ كان تقديمها على العامل [ المعنوي ] أحْسَنُ منه إذا لم يكن كذلك ، فحينئذٍ لك أن تجعل قوله : " من حِسابِكَ " بياناً لا حالاً , ولا خبراً حتى تخرج من هذا المَحْذُورِ , وكون " من " هذه تَبْعِيضيَّةً غير ظاهرٍ , وقد تقدَّم خطابه - عليه الصَّلاة والسلام - في الجملتين تَشْريفاً له ، ولو جاءت الجملة الثَّانية على نَمَطِ الأولى لكان التركيب " وما عليهم من حِسَابِكَ من شيء " فتقدَّمَ المجرور بـ " على " كما قدَّمه في الأولَى ، لكنه عَدَلَ عن ذلك لما تقدَّمَ . وفي هاتين الجملتين ما يسميه أهل البَديعِ : رَدَّ الأعْجَاز على الصدور ، كقولهم : " عَادَات السَّادَات سادات العادات " ومثله في المعنى قول الشاعر : [ الطويل ] @ 2180 - وَلَيْسَ الَّذِي حَلِّلْتَهُ بِمُحَلَّلٍ وَلَيْسَ الَّذي حَرَّمْتَهُ بِمُحَرَّمِ @@ وقال الزمخشري - بعد كلام قدَّمَهُ في معنى التفسير - : فإن قلت : أما كفى قوله : " ما عليك من حسابِهِمْ من شيء " حتى ضَمَّ إليه : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلةِ جُمْلةٍ واحدةٍ ، وقصد بها مُؤدَّى واحد ، وهو المعنى بقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 164 ] . ولا يستقل بهذا المعنى إلاَّ الجملتان جميعاً ، كأنه قيل : " لاتُؤاخَدُ أنت ولا هُمْ بحسابِ صاحبه " قال أبو حيَّان : " لا تُؤاخَذُ أنْتَ … إلى آخره تركيبٌ غير عربي ، لا يجوز عَوْدُ الضير هنا غائباً ولا مُخَاطباً ، لأنه إنْ [ عاد ] غائباً فلم يتقدَّم له اسْمٌ مفرد غائب يعود عليه ، إنما تقدَّم قوله : " هم " ولا يمكن العَوْد عليه على اعْتِقَادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع ، لأنه يصير التَّركيب بحساب صاحبهم ، وإن أُعيد مُخَاطباً ، فلم يتقدَّمْ مخاطب يعود عليه ، إنما تقدَّم قوله : " لا تُؤاخَذُ أنْتَ " ولا يمكن العَودُ إليه ، فإنه ضمير [ مخاطب ] ، فلا يعود عليه غَائِباً ولو أبْرَزْتَهُ مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب أيضاً ، فإصْلاحُ التركيب أن يقال : " لا يُؤاخَذُ كُلُّ واحدٍ منك ، ولا منهم بحساب صاحبه ، أو لا تُؤاخذ أنت بحسابهم ، ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم " ، فُتَغَلِّب الخِطَابَ على الغَيْبَةِ ، كما تقول : أنت وزيد تَضْربَان " . قال شهابُ الدين : والذي يظهر أن كلام الزمخشري صَحِيحٌ ولكن فيه حَذفٌ ، وتقديره : لا يُؤاخذ كل واحد : أنت ولا هم بِحِسَابِ صاحبه ، وتكون " أنت ولا هُمْ " بَدَلاً من " كل واحد " ، والضمير في صاحبه عائدٌ على [ قوله : ] " كل واحدٍ " ، ثم إنه وقع [ في ] محذور آخر مما أصْلَحَ به كلام الزمخشري ، وذلك أنه قال : ولا تُؤاخذ أنت وَلاَ هُمْ بحسابكم ، وهذا التركيب يحتمل أن يكون المراد , بل الظَّاهِرُ نَفْيُ المُؤاخَذَةِ بحساب كُلِّ واحدٍ بالنسبة إلى نفسه هو ، لا أن كُلّ واحدٍ غير مُؤاخذ بحساب غيره ، والمعنى الثَّاني هُوَ المقصود . والضمائر الثلاثة ، أعني التي في قوله : " مِنْ حِسَابِهِمْ " و " عليهم " و " فتطردهم " أيضاً عَوْدُهَا على نوع واحد ، وهم الذين يدعون ربَّهم ، وبه قال الطبري إلاَّ أنَّهُ فَسَّرَ الحِسابَ بالرِّزْقِ الدُّنْيوي . وقال الزمخشري ، وابن عطية : " إنَّ الضَّمِيريْنَ الأوَّلَيْن يعودان على المشركين ، والثالث يعود على الداعين " . قال أبو حيَّان : " وقيل : الضمير في " حسابهم " ، و " عليهم " عائد على [ المشركين ] [ وتكون الجملتان اعْتِرَاضاَ بين النَّهْي وجوابه " ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعْتِرَاضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين في " حِسَابِهِمْ " ، و " عليهم " عائدين على المشركين ] . وليس الأمر كذلك ، بل هما اعْتِرَاضٌ بين النَّهْيِ ، وهو " ولا تَطْرُدْ " وبين جوابه وهو " فتكون " ، وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين . ويَدُلُّ على ذلك أنه قال بَعْدَ ذلك في " فتكون " : وجوِّز أن تكون جواباً للنهي في قوله : " ولا تطرد " ، وتكون الجملتان ، وجوابُ الأول اعْتِرَاضاً بين النَّهْي وجوابه ، فجعلهما اعتراضاً مُطْلَقاً من غير نَظَرٍ إلى الضميرين ، ويعني بالجملتين " ما عليك من حِسَابِهِمْ من شيء " و " من حسابك عليهم من شيء " وبجواب الأول قوله : " فتطردهم " . قوله : " فتطردهم " فيه وجهان : أحدهما : مَنْصُوبٌ على جواب [ النفي ] بأحد معنيين فقط ، وهو انْتِفَاءُ الطَّرْدِ لانْتِفَاءِ كون حسابهم عليه وحسابه عليهم ؛ لأنه يَنْتَفِي المُسَبَّبُ بانفاء سَببِهِ ، ولنوضح ذلك في مثال وهو : " ما تَأتِينَا فَنُحَدِّثَنَا " بنصب " فتحدِّثنا " وهو يحتمل معنيين : أحدهما : انتفاء الإتْيَان ، وانتفاء الحديث ، كأنه قيل [ ما يكون منك إتيان ، فكيف يقعُ منك حديث ؟ وهذا المعنى هو المقصود بالآية الكريمة ، أي : ما يكون مُؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه ، فكيف يقع طرد ؟ والمعنى الثاني : انتفاء الحديث ، وثبوت الإتيان ] . كأنه قيل : ما تأتينا مُحَدِّثاً ، بل تأتينا غير مُحَدِّثٍ ، وهذا المعنى لا يليق الآية الكريمة ، والعُلماءُ - رحمهم الله - وإن أطلقوا قولهم : إن منصوبٌ على جواب النفي ، فإنَّما يريدون المعنى الأول دون الثاني ، والثَّاني أن يكون منصوباً على جواب النهي قوله : " فتكون " ففي نصبه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب عَطْفاً على " فتطردهم " ، والمعنى : الإخْبارُ بانْتِفَاءِ حسابهم ، والطَّرْد والظلم المُسَبَّب عن الطرد . قال الزمخشري : ويجوز أن تكون عَطْفاً على " فتطردهم " على وجه السبب ؛ لأن كونه ظالِماً مُسَبَّبٌ عن طَرْدِهِمْ . والثاني من وَجْهَي النصب : أنه منصوبٌ على جواب النهي في قوله : " ولا تطرد " . ولم يذكر مكي ، ولا الواحدي ، ولا أبو البقاء غيره . قال أبو حيَّان : " أن يكون " فتكون " جواباً للنهي في قوله : " ولا تطرد " كقوله : { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] ، وتكون الجملتان وجوابُ الأوَّل اعتراضاً بين النهي وجوابه " . قال شهابُ الدين : قد تقدَّم أن كونهما اعْتِرَاضاً لا يتوقَّفُ على عَوْدِ الضمير في قوله : " مِنْ حِسَابِهِمْ " و " عليْهِمْ " على المشركين كما هو المفهوم من قوله هاهنا ، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حكينا عَنْهُ يُشْعِرُ بذلك . فصل في شبهة للكفار ذكروا في قوله : " ما عَلَيْكَ من حِسَابِهِمْ من شيء " قولين : الأول : أن الكُفَّار طعنُوا في إيمان أولئك الفُقَرَاء ، وقالوا : يا محمد إنهم [ إنما ] اجتمعوا عندك ، وقبلوا دينك ؛ لأنهم يجدون بهذا السبب مَأكُولاً ومَلْبُوساً عندك , وإلاَّ فهم فارغون عن دينك , فقال الله تعالى : إن كان الأمْرُ على ما يقول هؤلاء ، فما يلزمك إلاَّ اعْتِبارُ الظَّاهر ، وإن كان بَاطِنُهُمْ غير مُرْضٍِ عند اللَّهِ ، فحسابهم عليه لازمٌ لهم لا يتعدَّى إليك ، كما أنَّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم ، كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 164 ] . الثاني : المعنى : ما عليك من حِسابِ رِزْقِهِمْ من شيء فتملّهم وتطردهم ، فتكون من الظالمين لهم لأنهم لمَّا اسْتَوْجَبُوا مزيد التقريب كان طَرْدُهُمْ طُلْماً لهم .